رؤى

حالمون ومحبطون.. عادل كامل: الروائي الذي تفوق على نجيب محفوظ (١) 

كانوا أكثر إبداعا وسحرا وتجليا وخيالا ، غير أنهم كانوا أقل صبرا وجلدا وقدرة على مجابهة الواقع وتحمل ضرباته ، امتلكوا نعمة الإبداع المختلف، لكنهم افتقدوا القدرة على تعبيد الطريق ، وتحدي المتاعب والمشاق التي  تصاحب الرحلة فكانت رحلتهم قصيرة و نفسهم قصير وتوقفوا عند البداية ، مبدعون ومبدعات بدأوا كبارا في الأدب والفن  وأشار عليهم الجميع وتوقع لهم الكثيرون مستقبلا واعدا غير أنهم خالفوا التوقعات وخيبوا الظنون وانتهوا من حيث بدأوا لأنهم –للاسف الشديد-  كانوا قابلين للكسر والانكسار ورفعوا الراية البيضاء مبكرا  .. ظلمهم الواقع وظلموا أنفسهم.. يذكر التاريخ بداياتهم الوامضة لكنه لا يتوقف عندهم كثيرا  رغم ما امتلكوا من موهبة واستحقاق .. انزووا واختفوا  لأن  حلمهم لم يصمد أمام الإحباطات التي داهمتهم .. عن هؤلاء الحالمين المحبطين تدور هذه الحلقات

مليم الأكبر ..انكسار الحلم

حين فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل في الأدب عام 1988 أعلن رفيق بدايات محفوظ ومنافسه في فن الرواية في بواكيره الأولى عادل كامل عن ندمه الشديد لاعتزاله الأدب والرواية ، وعلى حد قول الدكتور زكي سالم في كتابه ” نجيب محفوظ .. علاقة ممتدة ” فإن عادل كامل قال نادما عقب فوز محفوظ بالجائزة العالمية الأشهر ” الآن فقط أعلن أنني أخطأت حين توقفت عن إكمال مشروعي الأدبي ” فقد كان عادل كامل موهبة روائية جبارة  تنبئ بكثير من الحضور والتألق وتحقيق المجد  كما فعل صديقه ورفيق بدايته نجيب محفوظ .. فما الذي جعل  كامل يتوقف ويعلن اعتزال الكتابة والاتجاه لمهنته كمحام .. وهي المهنة التي حقق فيها نجاحا كبيرا بعد ذلك .. لكنه كأديب وروائي انزوى واختفى ولم يعد يذكر له التاريخ سوى أنه الروائي الذي تفوق على نجيب محفوظ في بداية  مشواره الإبداعي الخالد.

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

ولد عادل كامل في القاهرة عام 1916  وهو بهذا يصغر نجيب محفوظ بخمس سنوات لكنه بدأ رحلته الروائية القصيرة مع محفوظ.

حصل كامل على ليسانس الحقوق  عام 1936 وهو ذات العام الذي تعرف فيه على أحمد مظهر  طالب الحربية حين كانا مسافرين على ظهر سفينة متجهة إلى برلين  وحيث كان مظهر مسافرا للاشتراك في أوليمبياد برلين في لعبة الفروسية فيما كان كامل ذاهبا  إلى العاصمة الألمانية  ممثلا عن الجامعات المصرية وحيث كان في السنة النهائية بكلية الحقوق .. واتفق  الشابان الواعدان النابهان على عمل ندوة مصغرة كل خميس لمناقشة   كتاب كل أسبوع  عقب عودتهما إلى القاهرة ، وهي الندوة التي انضم إليها نجيب محفوظ بعد ذلك بسنوات بعد تعرفه على عادل كامل لتصبح شلة الحرافيش التي تزعمها محفوظ وأصبحت تعقد لقاءات أسبوعية ثرية طوال حياة أديب نوبل.

بعد تخرجه من الحقوق انتوى عادل كامل  أن يمتهن الكتابة واكتشف موهبته مبكرا ، فكتب مسرحيات ونشر قصصا قصيرة فى مجلة المقتطف مثل فئران المركب وويك عنتر وشبان كهول.

غير أن العملين الأهم اللذين يكشفان عن موهبة استثنائية  لدى عادل كامل كانا  روايتين هما ” ملك من شعاع ” التي تحكي عن قصة التوحيد في مصر القديمة من خلال شخصية الأمير أمنحتب الرابع ولى عهد أخناتون   الذي لا يحب السياسة وإنما يتمتع بالروح الطيبة المسالمة المتسامحة فهو أمير للأحلام   وتعرض الرواية بأسلوب بديع شيق كيف استطاع  أخناتون بمساعدة زوجته نفرتيتي التصدي لمؤامرات كهنة  معبد آمون وأطماعهم ومظالمهم وأن يحافظ على ملكه منهم بحكمته هو وزوجته ثم كيف وصل إلى سر الحياة وهو الإله الواحد .. وهى رواية كتبها عادل كامل بلغة جديدة ومختلفة وشارك بها في مسابقة مجمع اللغة العربية عام 1943وفاز عنها بالمركز الأول بينما فاز منافسه نجيب محفوظ بالجائزة الثانية عن روايته كفاح طيبة وثمة ملاحظة مهمة هو أن الأديبين الشابين وقتها كتبا روايتيهما عن مصر القديمة ويبدو أنهما تأثرا إلى حد كبير بتلك النزعة التي كانت تنادي بانتماء مصر لجذورها الفرعونية وهي دعوة كان يقودها كثيرون أيامها من أمثال أحمد لطفي السيد وسلامة موسى.

ملك من شعاع
ملك من شعاع

توقع كثيرون وقتها أن يسبق عادل كامل أقرانه جميعا في فن الرواية التي كانت آنذاك في مرحلة  تكوين جديدة عقب مرحلة بداياتها الحديثة مع رواية زينب للدكتور محمد حسين هيكل عام 1924 خاصة بعد أن أصدر كامل روايته الثانية مليم الأكبر ، وقد كانت عملا بديعا بكل المقاييس الفنية وتحكي عن صبي ينشأ  في كنف والده الذي تحول من  بيع الصحف والزهور إلى بيع المخدرات ويتعرف على خالد الثائر  ابن الباشا   الذي يتسبب في أن  يدخل الشاب الصغير السجن لتتحول حياته من الهدوء والبساطة إلى القسوة ثم يخرج من السجن ويجد عملا في القلعة وهناك يتعرف على مجموعة من الشيوعيين وتعود حياته  إلى المرح والخفة ويتعرف على رسامة ويصادقها  ثم تنقلب حياته وتتحول مرة أخرى  وتعالج الرواية قضية التمرد الزائف لدى الشباب بشكل بسيط ومعبر ، وقد كانت لغة هذه الرواية بسيطة سلسة معبرة وناصعة وواضحة فيما حفلت بأفكار حداثية جديدة كانت غريبة في ذلك العصر قبل ثورة يوليو .. وتقدم عادل كامل بروايته الجديدة مليم الأكبر إلى  مسابقة مجمع اللغة العربية في دورتها الثانية عام 1944التي فاز بدورتها الأولى متوقعا تكرار فوزه مرة ثانية  بينما تقدم نجيب محفوظ بروايته السراب لنفس المسابقة ، لكن كامل ومحفوظ صدما صدمة كبيرة إذ تم حجب الجائزة عنهما ، وكان وراء هذا الحجب  منصور باشا فهمي عضو المجمع الذي رأى أن رواية مليم الأكبر تحاول الترويج للفكر اليساري بينما تميل رواية السراب  للجنس كمنحى مهم في  أحداثها ومسارها .. فما الذي حدث بعد هذا الرفض ؟.. اعتبر نجيب محفوظ   حجب الجائزة عنه تحديا  كبيرا في مشواره الإبداعي وزاد إصراره على الإبداع  وتقدم لمسابقة وزارة المعارف برواية أخرى هي خان الخليلي  أما عادل كامل  فحزن واكتأب واستسلم للأمر الواقع ورأى أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان وقرر في العام التالي اعتزال الأدب والانسحاب من الساحة الأدبية نهائيا وشكك في دور الأدب وقدرته على التغيير وتوجه بكليته للمحاماة  وعمل وكيلا لأعمال ثري لبناني يتاجر في العقارات  ثم سافر فترة طويلة إلى أمريكا

مليم الأكبر
مليم الأكبر

أهم بيان حداثي في تاريخ الأدب العربي

لقد كان عادل كامل حانقا ساخطا ثائرا على أوضاع وأحوال صنعة الأدب  في زمنه حتى قبل أن يصدم بحجب جائزة  مسابقة مجمع اللغة العربية في دورتها الثانية عن عمله المتفرد مليم الأكبر الذي هاجم من خلال بطله  أولئك الكتاب الذين يعيشون على مفردات انتهت منذ ألف عام وبعد صدمته بحجب الجائزة انتقد بشكل ساخر أعضاء لجنة مجمع اللغة العربية وبخاصة  توفيق الحكيم، وكان دائم الهجوم على نقاد ومبدعي عصره فهو يقول مثلا ” إنهم لا يعيبون عليك أن أسلوبك لم يكن بالسهل الواضح  وإنما فهمت أنهم كانوا يريدونه جزلا متقعرا رنانا، فقد كان من واجبك أن تستعمل ألفاظا ضخمة تملأ الفم، وتلفق سجعا موزونا يلذ السمع، وتأني بمفردات غريبة تهز النفس حتى يقال أنك كاتب متمكن

وفي مقدمة روايته الأشهر مليم الأكبر انتقد عادل كامل كتب التراث العربي انتقادا صارخا وقال إنها لا تصلح إلا أن تكون كتبا يتسلى بها القارئ وتعينه على النوم وقد قال خيري شلبي عن هذه المقدمة إنها أهم بيان حداثي في تاريخ الأدب العربي الحديث أما غالي شكري فقد وصفها بأنها باكورة من بواكير الحداثة

وفي الرواية نفسها يقول على لسان البطل :” فأعمال الخبز جميعا أعمال  آلية تافهة لا تفيد فكره فائدة ما لكنها  قد تضر نماءه الروحي أبلغ الضرر، أما أعمال الفكر فكفيلة بتشريد مزاوليها وتجويعهم  كما أنها تحيلهم أدنى مرتبة من حيث احترام الناس لهم فمرتبة الكاتب أو الفنان الفقير في أمة متوسطة الحضارة كمصر تتأرجح بين مرتبة سائقي السيارات ومرتبة كتبة المحامين” إن عادل كامل يبدو في هذا الرأي على لسان بطل روايته  كثير السخط  من تراجع وضع الأديب والمفكر ويبدو كثير السخط أيضا على بلده ووطنه.. وربما كانت تلك الرؤية القاتمة السوداء مقدمة طبيعية لاعتزاله الأدب بعدها بقليل

عادل كامل ونجيب محفوظ

وقد كانت هناك محاولات من قبله أو من غيره لعودة كامل للكتابة وللساحة الأدبية من جديد غير أنها كانت محاولات باهتة وضعيفة افتقدت للجدية المطلوبة فقدم له المسرح الحديث في الستينيات مسرحية عنتر وأنجة المأخوذة عن مسرحية ويك عنتر التي كان قد كتبها في بداياته.. وفي السبعينيات كتب المعالجة السينمائية لفيلم ” البعض يعيش مرتين”   وفي عام 1993 نشرت دار الهلال لكامل روايتي الحل والربط ومناوشة على الحدود في كتاب واحد يحمل اسم الحل والربط

البعض يعيش مرتين
البعض يعيش مرتين

في عام 1964 كتب رجاء النقاش مقالا  يقارن فيه بين عادل كامل ونجيب محفوظ عنونه ب “بين الحلم والكابوس” قال فيه أن كامل كان حالما كبيرا  اعتقد أنه قادر بإبداعه على تغيير الواقع أما محفوظ فكان يدرك مفردات الواقع ويعرف أنه كابوس يحتاج غلى الكثير لتغييره بينما كان للمخرج توفيق صالح رفيق محفوظ وكامل في شلة الحرافيش رأى مخالف حيث كان يرى  أن عادل كامل اعتزل بحثا عن الثراء السريع

وحين سئل عادل كامل : لماذا تركت الكتابة وكان بإمكانك أن تكون روائيا كبيرا أجاب : يكفي الأدب المصري مجنون واحد هو نجيب محفوظ أما صاحب نوبل فحين سئل عن صديقه ورفيق بدايته عادل كامل قال :” إنه الأديب الوحيد  في جيله الذي كان يمكنه التفرغ للأدب فقد كانت أحواله المادية مستقرة ويمتلك سيارة خاصة في وقت كان فيه من يمتلكون سيارات خاصة معروفون بالاسم .. غير أنه أردف قائلا :” إنه كاتب مبدع من طليعة كتاب جيلنا بغير جدال “

كان عادل كامل حالما كبيرا يحلم بأن يغير الأدب الجميل الواقع القبيح فلما تبين له استحالة حلمه ومثالية تصوره  أصابه الإحباط الشديد فخاصم الأدب والإبداع بغير رجعة.

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker