في مِثل “مُحْسِنَة” تُكتب القصائد وتُروى الحكايات وتُنْشَد الأغنيات.. هي قطعة من روح مصر تجسدت فصارت منحوتة فنية من لحم ودم.. تشكلت بالمحبة الجارفة للناس، وبالرغبة الصادقة في التعبير عن أوجاعهم، وبالسعي الحثيث لرفع بعض الظلم عنهم. محسنة توفيق الاستثناء الأهم الذي يثبت القاعدة، والقاعدة هي أن الفن التزام بقضايا الإنسان، وأداة للإفصاح عن مكنون روحه، ووسيلة لمواجهة المتربصين من أصحاب النظرة الأحادية الذين يغيرون أشكالهم تبعا للمرحلة.
أوائل الأربعينيات من القرن الماضي في قلب القاهرة.. تحديدا شارع الملكة “نازلي” يلاحظ المارة وجود طفلة يقترب عمرها من الخامسة تجلس على حافة شباك منزل بالدور الأرضي.. تحدِّق في الوجوه باحثة عن شيء ما.. لها عينان تنطقان بالدهشة. تغطي وجهها ابتسامة عذبة تخفي قلقا وحزنا لا يخطئهما قلب سليم.. من يمر بقربها تناديه وتلقي عليه التحية وتتبادل معه بعض الكلمات.. بعض الكلمات الطيبة التي تتلقاها الطفلة الجميلة هي على سبيل التسرية عن قلب صغير يعاني آلام الفقد المبرحة.. فقد الأم في تلك السن الصغيرة، يُخَلِّف ما لا يحتمل من المشاعر الضارية التي تنهش الروح نهشا.. لكن الجميلة تفطن إلى أن ذلك يمكن احتماله بالالتصاق بالناس والانتماء لهم على وجه الحقيقة لا الادعاء.
تجلس الطفلة النابهة إلى جوار أبيها وتستمع باهتمام إلى تلك الحوارات التي كانت تدور مع أصحابه حول ما يحدث في طول البلاد وعرضها. يستوقفها حادث مروع “فتح كوبري عباس أثناء مرور الطلاب المتظاهرين عليه وإطلاق النار عليهم، ما تسبب في سقوط بعض الطلاب بين قتيل وغريق وجريح” تتساءل لماذا الطلاب هم من يتظاهرون؟ لابد أنهم يشعرون برغبة عارمة في تنسم أنفاس الحرية، كما أن شركاءهم من العمال يتظاهرون من أجل استرداد حقوقهم المُضيَّعة. فيشكلان لجانا مشتركة لتنسيق العمل الثوري.. كانت محسنة في السابعة عندما سمعت بالثورة لأول مرة.. ارتبط لديها مفهوم الثورة بالحركة الطلابية.. ربما قررت في تلك اللحظة أن تكون طالبة ثورة تناضل دفاعا عن الحق أو هكذا تمنت.
الثورة.. ذلك الإيمان الذي يشتعل في الأرواح؛ فتتصاغر إلى جواره الرغائب والتطلعات، وتهون في سبيله الحياة؛ الثورة التي ستتهجَّى مفرداتها في العيون، وتبحث عنها عند ناسها، ليس في شارع الملكة نازلي بل في الأحياء الشعبية في الوايلية والمحمدي.. ستطرق “محسنة” الأبواب فتفتح لها القلوب وتتحفز العقول.. لتدرك أن الثورة أصيلة في روح هذا الشعب الذي يرى أن كل شيء بأوان، فهو يصنع ثوراته على مهل، ويبتكر زعماءه ويلهمهم؛ لكنه يحتفظ لنفسه بحق إخراجهم من التاريخ إن هم “زاغوا وضلوا وأعوزهم مجد الشعب” فليس هناك حسب ما فهمت “محسنة” خبراء في صناعة الثورات، إنها تراكم وعي وليست لحظة غضب، تفسر ذلك بقولها: “عندما أراد “كارل ماركس” أن يفهم الثورة لم يستغرق في دراسات معمقة حولها، بل ذهب إلى “كوميونة” باريس ليلتقط الثورة من زفرات أفئدة العمال الثائرين”.
تقول “البهية”: “في مدرسة غمرة الابتدائية كنت أغني وأعزف على العود، تغمرني محبة معلماتي وناظرة المدرسة التي التقطت مسامعها كلماتي وأنا أشاهد بروفة عرض مسرحي مدرسي، حين قلت لزميلتي: “أستطيع أن أؤدي هذا الدور” فعرضت على المشرف المسرحي الآتي خصيصا من مدرسة البنين لتدريب فريق التمثيل، أن يدربني على الدور لأكون بديلا جاهزا إذا تغيبت الفتاة بطلة العرض.. لكنه عندما شاهد أدائي قال بحسم: محسنة من ستؤدي الدور فهي الأجدر به. كان أدائي الأول يشبه حالة من السحر أخذتني ربما دون إرادة مني.. أنا لا املك هذه الحالة ولا أعرف كيف أستدعيها.. إنها تأسرني متى شاءت ولا سلطان لي عليها.. هكذا فكرت، فشعرت بخوف شديد هذا الخوف الذي لازمني لوقت طويل جدا قارب الخمسة عشر عاما بعد احترافي التمثيل”.
لكن دماء محسنة التي جرى فيها الفن كانت الثورة قد استوطنته أيضا.. ليظهر اسم فتاة التاسعة عشرة ضمن مئة وثلاثة وستين اسما شملهم الأمر العسكري الصادر بالاعتقال في الحادي والثلاثين من ديسمبر 1959، لتحل محسنة نزيلة بسجن القناطر لفترة قاربت العامين، تصهرها التجربة وتزيدها إيمانا بمواقفها التي كانت تراها ضرورة لا يمكن التنصل منها.. أكملت دراستها التي كانت قد بدأتها بكلية الزراعة جامعة القاهرة، ثم التحقت بالمعهد العالي للفنون المسرحية، وبدأت طريق احتراف التمثيل فعليا بالاشتراك في مسرحية مأساة جميلة مجسِّدة دور المناضلة الكبيرة جميلة بوعزَّة، وظّلَّ هذا الدور هو الأقرب لقلبها على مدى تاريخها الفني الحافل بالأدوار الرائعة.
في المسرح يحصل الفنان على عدة مكافآت فورية، يتوحد جمهور العرض المسرحي ليصير عقلا جمعيا متقدا بالوعي، يتواصل مع الفنان بوسائل عديدة.. استراق السمع، الصمت الرهيب المتأمل، النظرات المتفحصة الباحثة عن اختلاجات الخوف والتأثر والأداء الملهم في ملامح الفنان ثم الإعجاب الذي يعبر عنه بالتصفيق.. ليقبض الممثل على لحظة فن حقيقي تغنيه بشعور قوي يمنعه من الزلل في مهاوي الابتذال والإسفاف. تقول محسنة: “لم أتصور يوما نفسي وأنا أمثل في عرض هزلي رخيص.. تلك خسارة لا تعوضها الملايين”.
تألقت محسنة في كثير من العروض المسرحية.. منها “أجاممنون” و”إيرما” و”دماء على ملابس السهرة” و”حاملات القرابين” و”الدخان” و”الأسلاف يتميزون غضبا” و”القصة المزدوجة” و”ثورة الزنج” ونالت وسام الفنون والعلوم عام 1967، فكانت أول ممثلة تحصل على هذا الوسام الرفيع، وأصغر من حصل عليه، فلم يتجاوز عمرها وقتها الثامنة والعشرين.
برغم انحياز “بهية” وهذا لقبها واسمها المحبب لدى مقربيها للمسرح؛ إلا أن أدوارها السينمائية لم تقل روعة، بداية من دور “مِسْعِدَة” في فيلم “حادثة شرف” ودور “بهية” في “العصفور” وهو الدور الذي صنع مجدها السينمائي.. برغم أنها لا تعتبره كذلك.. لكن الدور حمل رسالة قوية للشعب المصري في محنة الهزيمة.. فلا يمكن أن تكون هذه النكسة هي نهاية المطاف لتجربة آمن بها الشعب، ودفعثمنها فلم يكن من المقبول التخلي عن الحلم الذي أٌجهض بفعل أطراف عديدة؛ فجاءت صرخة “بهية”في نهاية الفيلم “هنحارب.. هنحارب” قوية مزلزلة دون دموع أو انهيار، وكان هذا هو اختيار الفنانة.. التي انهارت في بكاء مرير بعد انتهاء التصوير.
رفضت “محسنة” قول من قالوا أن “بهية” العصفور هي مصر.. رأت أن هذا تبسيط مخل، ما أحسته الفنانة وآمنت به أن “بهية” هي نبضة من قلب مصر.. وقلب مصر هو الناس. ناسها الذين يخبئون تحت الجلد طبقات آلاف السنين من الحضارة.. تستدعى وقت أن يجد الجد.. كما في ليلة التنحي.. تقول: “هذا وعي حقيقي يتقد بفعل تراكم التجربة وثرائها.. لا توجيه فيه ولا إرغام.. لذلك أقول أن مظاهرات رفض التنحي.. كانت مشهدا ثوريا بامتياز.. لأنه حمل في طياته رفض الهزيمة والانكسار، والإعلان عن الاستعداد لتقديم المزيد من التضحيات لاستعادة الأرض والكرامة”.
وفي رائعة “فيكتور هوجو” “البؤساء” تقدم العملاقة دور من أجمل أدوارها السينمائية أمام العملاقين فريد شوقي وعادل أدهم.. ويعتقد الكثيرون أن أداءها لدور “فضيلة” المرأة المسكينة المظلومة التي تضطر للعمل بالبغاء قد فاق أداء كل من قام بهذا الدور في كل ما أنتج من أفلام عن القصة الشهيرة وهي كثيرة.
مع شاهين أيضا قدمت في “إسكندرية ليه” دور الأم بأداء شديد النعومة، وإحساس حقيقي بالأزمة التي تمر بها الأسرة، التي تسعى لتحقيق حلم الابن في استكمال دراسته للفن بأمريكا.. كانت مباراة في الأداء الراقي مع “المليجي” وكان الفوز للجمهور الذي استمتع بهذا الحضور الفني الساحر للنجمين.
في “الوداع يا بونابرت” تعود “محسنة” لدور الأم بأداء مختلف، فالأبناء هنا ثلاثة (بكر ويحيى وعلي) منهم من انحاز لخيار المقاومة ومنهم من فضّل التعاون مع الغازي، وتعلم لغته.. وهي ممزقة القلب بينهم تخشى أن تفقدهم في هذه الظروف الخطرة.
رغم تقديرها الشديد لـ “شاهين” إلا أنها لم تسامحه عندما انتزع منها دور البطولة في فيلم “اليوم السادس” ليسنده إلى “داليدا” سعيا وراء وهم العالمية الذي كان يسيطر عليه. كانت “البهية” قد مثلت بالفعل عدة مشاهد في الفيلم، بعد أن أحبت الدور منذ أول وهلة.. لكن حزنها تضاعف عندما شاهدت الفيلم، ورأت كيف قضت “داليدا” على الدور بأداء باهت، ما تسبب في سقوط الفيلم سقوطا مروعا.
بعد ذلك تعاونت “محسنة” مع عاطف الطيب في فيلم “الزمار” وهو عمل رائع بكل المقاييس واجه ظروفا حالت دون عرضه سينمائيا، لكنه عُرض في الفضائيات بعد إنتاجه بسنوات، لعبت الفنانة دور “مريم” التي قُتل والدها بعد أن تآمر عليه كبار القرية، وتتزوج “مريم” من “جابر” قاتل والدها، وتُتهم ظلما في شرفها وتقتل على مرأى من أهل القرية لتذهب ضحية لأطماع كبار القرية وأكابر مجرميها هي والطالب “حسن الزمّار” الهارب من الأجهزة الأمنية الذي قاد حركة توعية بين أهالي القرية البسطاء حتى لا يتم استغلالهم في مشروع الخزان الذي سيكسب من ورائه العمدة وأعوانه الملايين.
استمرت بعد ذلك مشاركاتها المتميزة في السينما كما في “قلب الليل” و”الانتفاضة” الذي منع من العرض ثم اختفى لإدانته للممارسات الإجرامية لجيش الاحتلال الصهيوني بحق الفلسطينيين في ثورة الحجارة، و”بيت القاصرات” الذي نالت عنه جائزة، وكذلك في “ديل السمكة” من إخراج سمير سيف.
في الدراما التليفزيونية صالت “محسنة” وجالت بداية من “على باب زويلة” و”الحلبي” و”الكتابة على لحم يحترق” و”العقاب” ثم “الشوارع الخلفية” أواخر السبعينات مع المبدع إبراهيم الصحن.. ثم أدوارها الرائعة في “الوسية” و”أم كلثوم” و”المرسى والبحار”.. وصولا إلى “أنيسة الزهَّار” في “ليالي الحلمية” بأجزائه الخمسة.
قدمت “فردوس عبد الحميد” دور “أنيسة” أولا ثم اعتذرت.. عندما عُرض الدور على “محسنة” تأكدت أولا أن الاعتذار لم يصاحبه ضغوط من أي نوع، ثم قبلت الدور؛ ليكون من أجمل أدوارها. بعد أن فكت شفرة الشخصية التي كتبها “عكاشة” ببراعة.. حلَّقت “البهية” بأدائها بعيدا جدا؛ ليس عن “فردوس” وحدها بل بعيدا عن كل من سبقنها إلى تجسيد مثل تلك الأدوار.. دور الأم البديلة التي تربي ابن أختها وتتعلق به.. لكنه بمجرد أن يشب عن الطوق تجذبه دوامات الحياة فيغرق في مأساته الخاصة، ويعيش مرارة الاعتقال بعد أن عانى مرارة إهمال أبيه له.. و”أنيسة” بين كل ذلك كأنما تسير على حبل مشدود فوق الهاوية، تخشى منه على نفسه، ومن خوفها عليه.. لا تعوزها الحكمة.. لكن القلق يفتك بها.. كيف صاغت “محسنة” كل هذه الانفعالات لتخرج لنا “أنيسة” بشحمها ولحمها.. هذا سر من أسرار البهية المكنونة.
تجاوزت أعمال الراحلة العظيمة حاجز الثمانين عملا تنوعت بين الإذاعة والتليفزيون والسينما والمسرح.. برغم أنها منعت من العمل بأوامر عليا لفترات طويلة عقابا لها على مواقفها الوطنية والمبدئية التي لم تتخل عنها في أصعب الظروف.
وفي ثورة الخامس والعشرين من يناير كانت “محسنة” في قلب ميدان التحرير يوم جمعة الغضب، ولم تغادر الميدان إلا نادرا طوال الثمانية عشرة يوما حتى تنحى رأس النظام.. وقد نالت في العام التالي جائزة الدولة التقديرية.. كما كرمها مهرجان أسوان السينمائي قبل وفاتها بنحو عام.. رحم الله البهية النقية المناضلة الثائرة “محسنة توفيق” النموذج والمثال للفنان الملتزم.