«العابرون سريعًا جميلون. لا يتركون ثقلَ ظلّ. ربما غبارًا قليلاً، سرعان ما يختفي .. الأكثر جمالًا بيننا، المتخلّي عن حضوره. التارك فسحةً نظيفة بشغور مقعده. جمالاً في الهواء بغياب صوته. صفاءً في التراب بمساحته غير المزروعة. الأكثر جمالاً بيننا: الغائب» .. مقطع من قصيدة «جمال العابر» للشاعر اللبناني وديع سعادة.
رغم القسوة الشديدة التي اتسم بها عام 2020 إلا أن عشاق قصيدة النثر كانوا على موعد طيب مع شاعر قصيدة النثر الشاعر الجميل وديع سعادة حين أصدرت هذا العام الهيئة المصرية العامة للكتاب أعماله الكاملة لتفتح من جديد باب النقاش حول قصيدة النثر وإبداعات وديع سعادة التي تؤكد على أن مسيرة جيل رواد قصيدة النثر أمثال أدونيس والماغوط مازالت مستمرة.
الباحث عمرو عبد الفتاح الشيخ في دراسته للماجستير التي تمت مناقشتها مؤخرا بكلية الآداب جامعة دمنهور تحت عنوان «الإنسان في شعر وديع سعادة .. دراسة تحليليّة أسلوبيّة» يطرح العديد من القضايا المتعلقة بقصيدة النثر وكيف أولى وديع سعادة بكل منتجه الشعري اهتماما خاصا بالإنسان بعيدًا عن أي تمييز سواء بسبب اللون أو الجنس أو الدين إلى جانب التعرف على رؤيته للذات والآخر وهل يوجد أي خلاف بينهما في ظل رؤيته للإنسان التي تقوم على عدم التمييز؟
النشأة وبداية الرحلة
«أنا ابن قرية وديعة في شمال لبنان، ولدت في بيت سقفه من تراب، وأرضه من تراب، وعشت طفولتي مع الشجر والتراب، وأظن أني لا أزال أحمل ذاك التراب إلى اليوم في قلبي … كتبت قصيدة النثر وأنا في قريتي شبطين بعمر عشرين سنة قبل أن أزور بيروت وأعرف أن هناك من يكتب هذه القصيدة».
ولد الشاعر اللبناني وديع سعادة بمنطقة «شبطين» شمال لبنان عام 1948 وعمل بمجال الصحافة في مدينة بيروت وعدة بلدان من بينها إنجلترا وفرنسا قبل أن يهاجر إلى إستراليا عام 1988 وتُرجمت أعماله إلى لغات عدة: «الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والإيطالية والكردية والسويدية».
استمدت تجربة وديع سعادة أهميتها من كونه قد نجا من فخ الطائفية الذي عصف بوطنه لبنان منذ سبعينيات القرن الماضي ووصلت إلى حد نشوب تلك الحرب الأهلية التي مزقت وطنه بين الشمال والجنوب والسنة والشيعة ومسيحيين ودروز.
في حوار مع الشاعر أجراه الباحث حول حالة التمزق الطائفي تلك التي ضربت عمق وطنه أوضح الشاعر موقفه مشيرا «أنا هويتي الإنسان، أينما كان وأعتبر العالم كله وطني. أنا مسيحي وإثنتان من شقيقاتي تزوجتا مسلمين ولم نسأل عن دينهم، وأصدقائي من جنسيات مختلفة ولا أسأل عن انتماءاتهم ولا عن جنسيتهم».
قصيدة النثر واقع؟ أم إثبات وجود؟
يطرح الباحث في مستهل دراسته حول قصيدة النثر تساؤلا مؤداه: «قصيدة النثر واقع؟ أم إثبات وجود؟» ومن ثم يستشهد بما أشارت إليه سوزان برنار في دراستها المعنونة «قصيدة النثر» من أن قصيدة النثر قد ولدت من رغبة في التحرر والانعتاق والتمرد على تقاليد الشعر والعروض وتقاليد اللغة.
كان المطلوب وفقا لسوزان برنار مع ميلاد فن القصيدة النثرية فصل الشعر عن فن نظم الشعر، فالنثر على نقيض الشعر يمقت القوالب الجاهزة تماما، والإيقاعات المفروضة عليه من الخارج ومن ثم تمضي قصيدة النثر هاربة من الشعر داخل عالم النثر ومن التراكيب البلاغية والسمات المنطقية المفخمة ويصبح الشكل المنثور أكثر تقبلا لكل ملامح الحقيقة المعاصرة على نحو أفضل من الشعر بصورة لا مثيل لها.
ولدت قصيدة النثر آذن كفعل مقاومة لكل تلك القيود التي كانت مفروضة على القصيدة العربية الكلاسيكية ومن ثم أسست لذاتها جماليات خاصة بها تقوم على اللغة المتداولة.
عالم وديع سعادة
شب وديع سعادة في ظل أسرة فقيرة بإحدى القرى الفقيرة بشمال لبنان .. «في هذه القرية .. تُنسى أقحوانات المساء .. مرتجفةً خلف الأبواب .. في هذه القرية التي تستيقظ لتشرب المطر .. انكسرت في يدي زجاجة العالم» .. كان طبيعيا أن تنتشر مفردات البيئة الريفية بأعمال الشاعر .. «تقول القابلة القروية .. ولدت في زاوية البيت .. بين قمر النعاس والعيون المطفأة .. كانت الأزهارُ صغيرةً .. الطريقُ عجوزًا .. وشجرة الرحمة تهتزّ في النهر .. حيث الغصون والعصافير .. ترى نفسها مكسورة» .. حين يستعد الشاعر للرحيل عن قريته يستدعي مفردات قريته ليحتض عالمها معه «أيتها الكلمات، يا غابتي، يا شجرتي اليابسة».
«لبنان» الوطن يحظى بحضور قوي على إمتداد أعمال وديع سعادة ففي ظل وطأة الاغتراب لا يجد المبدع من ملجئ حقيقي سوى الشعر «بلاد .. كل رجالها يغادرون .. لذلك كانت نساؤها يقترن بالأشجار».
نداء الآخر في أشعار وديع سعادة
يواصل الباحث إبحاره داخل عالم وديع سعادة فيشير إلى كون الشاعر قد مضي في رحتله مُعليًا لقيمة الإنسان فوق أي شعار أو راية حتى لو كانت راية الحرية ذاتها: «تغرق في بئر المحبة اليابسة .. سكران .. ماذا تقول للمارة كي تخطف مرفأ؟ .. شربت نهارك دفعة واحدة .. رقصنا في الساحة ولم تقدم نشوتك .. رفعنا مياهنا إلى حدودها .. وأنت تفكر في صحراء يدك .. بعها .. قلنا لك بعها وارفع وجهك لا راية الحرية .. قل هذه شجرتي .. وأنا أرغب في عريها .. لكنك حركت إبرة الألم .. وأعدت حياكة يأسنا جميعا».
ينطلق الشاعر من نقطة تتسامى فوق الأيديولوجيات والطائفية والعنصرية، ينطلق من الإنسان ذاته من ابتسامات البسطاء ورقصهم ونضالهم كي تستمر الحياة، يدعو الشاعر ذلك الآخر كي يتخلى عن تلك الأوهام التي تفصل إنسان عن الآخر حتى لو كانت راية الحرية، يدعو الشاعر الإنسان بوضوح إلى رفع وجهه فلا راية أشرف للإنسان من وجهه كما هو.
تألم الشاعر من الحرب الأهلية التي ضربت عمق وطنه لبنان واستمرت ما بين عام 1975 حتى عام 1989 تألم من الدماء والجثث التي راحت هباء «أحاول أن أذهب إليك .. وذلك لا يستدعي سوى رحلة بسيطة .. نزهة رصاصة .. بين التباريس وشارع الحمراء .. لكن ضفتيك مفصولتان ببحرٍ لامعٍ من المتفجرات .. وحراس بابك يركلونني بأن أتدحرج .. أتدحرج .. بلا قرار».
حين تتوقف آلة الحرب ويأتي وقت التفاوض يقف الشاعر الرافض للحرب لا يفهم عن أي سلام يتحدثون؟! فكل أطراف النزاع قد خرجت من الحرب خاسرة .. «أكملت تدريبات الانتظار .. كحصانٍ يقف حائرًا بعد معركة مات فيها جميع الجنود .. يتأمل حبر معاهدة السلام .. ولا يفهم» .. ألم الشاعر وألم الجماعة يصبح هو التاريخ من وجهة نظره «إن أمكن تعريف التاريخ يمكن القول: أنه تاريخ الألم».
الاغتراب والانتماء والحنين في شعر وديع سعادة
«يتركون عيونهم ويمشون .. متكئين على نظرات قديمة .. مسجى على أجسادهم صمت .. مسجاة نسائم موتى .. أرواح أمكنة أُبيدت .. وفي بالهم إذا مر غيم .. ينزل المطر على حقولهم البعيدة .. يمشون وحين يتعبون يفرشون نظرة .. وينامون».
الباحث عمرو الشيخ في دراسته يؤكد على أن «الاغتراب والانتماء والحنين» يعد ثالوث مقدس لم يفترق في شعر وديع سعادة حيث يتناول غربته وغربة الآخرين كحدث واحد فهو ينتمي إلى واو الجماعة تلك التي كثيرا ما استخدمها بنصوصه، هو ينتمي لهؤلاء الذين تركوا عيونهم ومشوا وحين تعبوا افترشوا نظرة وناموا، فالعيون في الغربة لم تعد لها ذات جدوى لأنها لن ترى الوطن ولن ترى الأحباب.
هاجر الشاعر إلى إستراليا ولاذ بالشعر ولكنه عاد فهجر الكلمات أيضا «إنها الكلمات الأخيرة .. وها أنا أهجرها» .. هل حقا هجر الشاعر كلماته التي طالما لاذ بها؟! يجيب الشاعر ذاته «كنت، فقط أحاول العبور بالكلمات: إرسال صوت ليعبر عني فوق هذا الجسر. لكن الصوت لم يكن يعبر، وكان صداه يرتد، ليقتلني! .. كنت تقريبا ميتا دائما. كنت مجموعة موتى: ضحية كل صوت وكل صدى ميت حين أرسل الكلام، وميت حين أتلقى صداه. ولأني تكلمت كثيرا، مت كثيرا … والآن أريد الصمت، أريد أن أحيا».
شعر وديع سعادة كان ومازال جسرا يصل بين الوطن والغربة وإن شاب شعره الكثير من الألم والمعاناة فذلك لأن رحلته نبعت من عمق أزمة الوطن الذي مازال ينزف ومازال يبحث عن مرفأ سلام.
«صوتي هناك يحاول وحده عبور الجسر، حذرا مرعوبا، موازيا طرفيه، متجردا من كل ثقل حتى من صداه .. يحاول، عله يعبر .. صوتي هناك وأنا هنا».