بين أفلام اجتهدت في رصد قضايا مجتمعية و كانت عين الكاميرا فيها أقرب لرقيب يتابع المحيط الخارجي لحياة الإنسان، وأفلام اهتم صناعها بالغوص داخل النفس الإنسانية، والسير فى أغوارها المظلمة، و أخري مثل بندول الزمن تأرجحت في المنطقة الفاصلة بين الداخل والخارج، تنوعت «فنيا» و «جغرافيا» أفلام النسخة رقم 42 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي والذي انتهت فعالياته قبل أيام.
الطريف أن عدد كبير من هذه الأفلام أثبتت و بما لا يدع مجالا للشك أن «الهم الإنساني» وعلي مستوي العالم يكاد يكون متشابها، حيث نفس القبح و الشرور، الفساد والفقر، البؤس والقهر، الهزائم النفسية والاجتماعية والتي قد تدفع أصحابها إما الانزواء و الاغتراب، أو التفكير في الهجرة لمجتمع آخر ربما يكون أفضل.
فهل هي فقط الصدفة التي دفعت بهذه الإختيارات لأقسام المهرجان المختلفة؟ أم أن تلك الأفلام ليست إلا تنبيه وتحذير من قبل صناعها لما وصلت له أحوال العباد في «مشارق الأرض ومغاربها»، حيث الأرض باتت ضاغطة تلفظ الجميع يوما بعد الأخر و تقهر كل أحلامهم، كما تحكي كيف فشل الجميع في التعامل مع معطيات الحياة و ظروفها.
لا للرحيل
شاركت في مسابقات المهرجان المختلفة أفلام عديدة تناولت علاقة الإنسان بالمكان الذي ينتمي له سواء الوطن بالمفهوم الأعم و الأشمل، أو الأرض التي اختار أن يعيش فيها وإن ظل الحنين لوطنه الأم يطارده كما في فيلم «التيه» أو limbo (المملكة المتحدة) للمخرج بن شاروخ والذي شارك في المسابقة الرسمية، وفاز بثلاث جوائز هي الهرم الذهبي لأفضل فيلم، وجائزة هنري بركات لأحسن إسهام فني إضافة لجائزة الاتحاد الدولي للنقاد فيبريسي.
https://www.youtube.com/watch?v=CWw-7MSVxr4
والفيلم يناقش مشاكل وأوضاع اللاجئين أو المهاجرين غير الشرعيين لعدد من الدول الأوروبية بسبب المشاكل التي تمر بها أوطانهم، وتدفعهم للهروب منها لجحيم أخر لم يتخيلوه، وعلى غير العادة في تلك النوعية من الأفلام كان المخرج حريصا على إضفاء لمحات كوميدية لم يخل بالمضمون ولكنها زادته رقيا وإنسانية، حيث تركز الأحداث على عمر الفنان السوري الذي أجبرته ظروف الحرب على الابتعاد عن أسرته و العيش في ذلك المكان النائي في إحدي الجزر الاسكتلندية ينتظر البت في طلب اللجوء السياسي الذي قدمه مع مجموعة ممن ينتظرون مثله، حاملا في يديه عوده أو حلمه/قدره غير قادرا علي العزف عليه وان لم يفقد الأمل في أن يخرج يوما ما من هذه المرحلة المتجمدة، وقد نجح أمير العمري بطل الفيلم في إتقان دوره والذي اعتمد كثيرا علي المشاعر و الأحاسيس ونظرات العيون التي قالت ما تعجز عنه الكلمات.
التمسك بالأرض أو المكان الذي ينتمي له الإنسان حيث الميلاد و الذكريات و مجمل التفاصيل التي تشكلت منها حياته كانت محور أكثر من فيلم وإن اختلفت طرق المعالجة، منها الفرنسي«جاجارين» الذي شارك في المسابقة الرسمية وهو من إخراج الثنائي فاني لياتارد و جيرمي تروله، و للوهلة الأولى قد تتخيل أن ما تراه على الشاشة تم تصويره هنا في أحد الأحياء القديمة التي تقرر إجلاء سكانها وهدم بيوتهم تحت مبررات مختلفة بدلا من إعادة إصلاحها، ما دفع بطل الفيلم المراهق يوري لأن يقاتل وحيدا من أجل إنقاذ المدينة السكنية والتي تحمل اسم رائد الفضاء يوري جاجارين والتي تم بناؤها في ظل تولي الحزب الشيوعي الفرنسي الحكم في ستينيات القرن الماضي و افتتحت في حضور رائد الفضاء الروسي، ما يعني أن فكرة الهدم إشارة أيضا لتجاوز عصر بأكمله وبكل ما ينتمي له،خصوصا و أن معظم سكانها ليسوا من أهل البلد الأصلي.
علي نفس الدرب (التمسك بالمكان) عرض بالمسابقة الرسمية أيضا أحداث الفيلم الصيني «أنيما» للمخرجة تسجن-لنج حيث يرفض أحد سكان الغابة مغادرة المكان رغم صدور قرار بإجلاء الجميع لإعادة إعمارها ، إلا أن علاقة هذا الشخص بالمكان و اختلاط الذكريات بالأساطير القديمة والتي ظل مؤمنا بها مدافعا عنها تدفعه إلى التمسك بالبقاء وحيدا حتي آخر العمر.
رغم أن المكان / الأرض كثيرا ما تكون طارده لأهلها ولأسباب عديدة، بعضها عامة (احتلال- حصار- سلطه متشددة – أوضاع معيشية صعبة) كما في الفيلم الفلسطيني «غزة مونامور» والذي حصد تنويه خاص من قبل لجنة التحكيم ما أصاب الحضور بالغضب نظرا لجودة الفيلم علي كافة المستويات، فإن الفيلم لا ينتصر فقط لضرورة التمسك بالأرض مهما كانت المصاعب الحياتية، ولكنه ينتصر أيضا لقيمة الحب والحياة .
https://www.youtube.com/watch?v=Z08RPCotrgI
«دروس اللغة الألمانية» والذي حصد عنه بطله جوليان في جوف جائزة أحسن ممثل عن دوره في الفيلم، نجده هو الآخر لا يستطيع الرحيل عن بلده (بلغاريا) ألمانيا حيث قرر الهجرة رغبة في التخلص من ماضيه وفتح صفحة جديدة، إلا أنه و في الساعات الأخيرة والتي اجتهد فيها بترتيب حياته الجديدة نجده يتصالح مع الماضي و طالبا صفح كل من أساء لهم، باختصار يعيد اكتشاف ذاته ورغباته ومن ثم يقرر عدم الرحيل مهما كانت الحياة ضاغطة ورغم كل الأبواب المغلقة التي دفعته للتفكير بالهجرة.
المحك و المصير
محاربة الفساد و”المحكات” التي يواجهها الإنسان إما بقبول المشاركة بانصياع تام والانخراط ضمن منظومة الفساد، القبح ، ممارسة كل الشرور و…و…، أو برفض كل ذلك مهما كان الثمن الذي يتحمله الإنسان ومن حوله كما في أحيان كثيرة .
من فرنسا وفي قسم العروض الخاصة تواجه بطلة فيلم «التربة الحمراء» للمخرج فريد بنتومي المحك القاسي، حيث تقف في مواجهة والدها المتستر على الفساد، اذ تكتشف بعدما نجح الأخير في إلحاقها بالعمل معه في مصنع للكيماويات، إصابة عدد من العمال بحالات مرضية بسبب تسرب المواد السامة، إلا أن حرصهم ألا يفقدوا مصدر رزقهم الوحيد يدفعهم وفي مقدمتهم والدها للتستر علي هذه الأحداث و محاولة معالجتها في الخفاء، إلا أن بطله الفيلم الممرضة الصغيرة تواجه الجميع بل وتجبر والدها علي أن ينضم لصفها ليعيشوا معا حياة خالية من الكذب والفساد والرياء.
أما الفيلم الإيراني«لا يوجد شر» للمخرج محمد رسول أف والذي سبق وفاز دب برلين الذهبي في دورته رقم 70، و يرصد من خلاله محك إنساني مختلف، تحديدا عقوبة الإعدام و تأثيرها ليس فقط علي من صدر بحقهم الحكم، أو إحساسهم في أيامهم الأخيرة كما في أعمال أخرى سابقة و لكن مخرج الفيلم يضعنا و يضع أبطاله أمام محك صعب حيث يتساءل كيف يحيا من ينفذ عقوبة الإعدام، وكيف سيشعر لو التقي أهل أحد من نفذ فيهم العقوبة، وموقف كل شخصية من تنفيذ هذه العقوبة هل هي مجرد عمل مكلف به عليه تنفيذه خصوصا لو كان يقضي سنوات تجنيده ومن ثم فإن التمرد يعني حياة تفتقد لكل المقومات فلا وظيفة، ولا جواز سفر لا حياة آمنة .
مرة أخرى تثبت السينما أنها ليست فقط وسيلة للترفيه أو «التنفيس» ولكنها وهو الأهم وسيلة هامة للتواصل مع الأخر تكتشف من خلالها أن هناك على الكوكب الآخر من يشاركك نفس الأزمات و الهموم.