رؤى

نظرية كابرال: المثقف بين الدمج والاستلاب

ثمة مشهد طالما أثار استغرابي٫ حين ينظر المتعلم من بني وطني مصر أو المتعلم العربي بشكل عام الى بعض من أهله وشعبه بشكل يشوبه التافف ولا ابالغ ان قلت التقزز ثم يلوك في فمه كلمة واحدة يحسب انه يجمع فيها كافة معاني الازدراء حين لا يتورع ان يصف قومه ب”التخلف”.

واللافت هنا أن هذا المتعلم – او المثقف كما يحلو له ان يصف ذاته/ذاتها- لا يرى نفسه بعضاً من هذا الشعب الذي يصمه بالتخلف” بل إنه يخلق مسافة بين ذاته وبين شعبه وينعكس هذا على طبيعة لغته وطريقة تعبيره حيث يستخدم “أنتم” للإشارة الى المصريين مثلاً وكأن هذه ال”انتم” لا تشمله “هو” أو كأنه ينتمي إلى شعب آخر أو أمة مغايرة.

بدا لي المشهد بحاجة إلى نوع من البحث للوصول إلى تفسير له٫ و قادني البحث الى خطاب هام ألقاه الزعيم الافريقي المناضل أميلكار كابرال.

وكابرال لمن لا يعرفه هو قائد حركة التحرر الوطني في غينيا بيساو٫ ذلك البلد الأفريقي الذي ظل لسنوات طوال مستعمرة برتغالية وظل اهله يناضلون في سبيل حريتهم حتى نالوها عام ١٩٧٤.

الا ان كابرال الذي قاد هذا النضال لعقد من الزمان (١٩٦٣- ١٩٧٣) لم يستطع أن يشهد بعينيه ثمرة كفاحه الطويل٫ اذ ان يد الغدر البرتغالية امتدت إليه عبر أحد جواسيسها واغتالته قبل عام من الاستقلال في مطلع ١٩٧٣ ليتحول باستشهاده الى ايقونة لسعي أبناء القارة السمراء للتحرر والكرامة.

ومن أجل فهم خطاب كابرال٫ لا بد من فهم سياقه التاريخي٫ إذ إن كابرال ألقاه في تأبين مناضل إفريقي آخر هو الدكتور إدواردو موندلين، الرئيس السابق لـ”فريليمو” [جبهة تحرير موزمبيق] والذي اغتيل في ٣ فبراير ١٩٦٩ في تنزانيا على أيدي الاستعماريين البرتغاليين وحلفائهم.

امتدح كابرال في خطابه موندلين باعتباره مثقفاً افريقياً تمكن بفضل انتمائه وبرغم نشأته في مدارس المبشرين البيض من “دمج نفسه بواقع بلده” كما “تمكن من فهم أبناء شعبه” و”تمثل ثقافتهم من خلال النضال الذي قاده بشجاعة وحكمة وثبات”.

ثم ينطلق كابرال من هذا الفهم لجوهر شخصية ونضال موندلين إلى تحليل عميق للأزمة المذكورة في مطلع هذا المقال٫ حيث يشير إلى أن المستعمر في إطار سعيه للسيطرة على بلد بعينه فانه يسعى إلى تحطيم ثقافة من يستعمرهم.

وهنا يجد المستعمر نفسه أمام خيارين : إما إبادة السكان الأصليين كما حدث في كل من الأمريكيتين واستراليا وإما ما يسميه كابرال ب”الدمج والاستلاب” حيث يقوم المستعمر تدريجياً بدمج قسم من السكان الأصليين في ثقافته هو وهو ما يتطلب بالضرورة سلبهم ثقافته الأصلية.

حيث إن المستعمر خلال سعيه وفقاً لكابرال لجعل استغلاله لموارد البلد الذي يحتله امراً أبدياً “لا يخلق نظاماً كاملاً لقمع الحياة الثقافية للشعب المستعمَر وحسب بل ويحث ويطور الاغتراب الثقافي في جزء من السكان”، وذلك إما “من خلال الدمج المزعوم لأفراد من السكان الأصليين أو من خلال خلق فجوة اجتماعية بين النخب المحلية وعموم الناس”.

وهنا يبدأ قسم غير قليل من السكان الأصليين وبالذات من ينتمون إلى الطبقة الوسطى وأتيح لهم التعلم في مدارس المستعمر وإتقان لغته٫ يبدأ”في تمثل عقلية المستعمِر ويشرع في اعتبار نفسه متفوقاً ثقافياً على الشعب الذي ينتمي إليه ويحتقر قيمه الثقافية ويتجاهلها”.

وهنا تتبدى مأساة هذا القسم من السكان٫ فهم من ناحية مندمجون بشكل شبه تام مع ثقافة المستعمر الى درجة انهم يتحدثون بلغته بين بعضهم البعض بدلاً من لغتهم الام ولكنهم ايضاً وفي ذات الوقت مغتربون تماماً عن ثقافة المجتمع الذي يعيشون فيه.

https://www.youtube.com/watch?v=phNZMlNZe4Y

ولا يخفى على أحد أن هذا القسم يشكل “أخلص حلفاء المضطهِد” بل إن هذه الثقافة التي زرعها فيهم الاستعمار تجعلهم يفضلون العيش في ظله عن العيش في وطن مستقل.

ولذلك فان الحل الوحيد لمواجهة كل من المستعمر و المندمجين معه على حد سواء في رأي كابرال هو “تحدي الهيمنة الاستعمارية ثقافياً” وذلك عبر البناء على ” قاعدة الثقافة السائدة بين جمهور العمال في الريف والبلدات” باعتبارها الثقافة الأصلية التي لم تمسها أدران “الدمج والاستلاب”.

ويرى كابرال أن الكفاح المسلح الذي كان يقوده في بلاده أو كان يقوده موندلين في موزمبيق هو ليس فقط أداة للوصول إلى الاستقلال وإنما ايضاً “أداة الوحدة والتقدم الثقافي”.

حيث إن قادة حركة التحرر الآتين من “البرجوازية الصغيرة” “يلتقون من خلال هذا النضال المسلح مع جموع أهالي الريف ويصبحون أكثر معرفة بالناس. فيكتشفون – وهم في المنبع – غنى القيم الثقافية” التي طالما غيبها عنهم المستعمر.

وفي ذات الوقت فإن “جمهور العمال والفلاحين – وبالأخص الفلاحون – الأميين في عمومهم، والذين لم يغادروا حدود القرية أو المقاطعة” يكتسبون وعياً سياسياً جديداً بفضل اختلاطهم مع قادتهم المنتمين إلى الطبقة الوسطى.

ورغم رحيل الفقيد كابرال عن عالمنا منذ ما يقرب من نصف قرن إلا أن كلماته لا تزال تجد لها صدى فيما يسمى بدول “العالم الثالث” اليوم٫ حيث ان لقاء المتعلمين مع البسطاء من أبناء تلك الدول على قاعدة الكفاح من أجل الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية هو السبيل الوحيد لسد الفجوة بين الطرفين٫ في عملية يكتشف فيها المتعلم مدى ثراء ثقافته الأصلية التي يمثلها البسطاء والتي تعالى عليها ذات يوم.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock