أثارت سلسلة مقالات “الكتب العشرة المؤسسة للعنف” نقاشا واسعا على بعض صفحات السوشيال ميديا ، وكان موقع “أصوات” قد نشر السلسلة مؤخرا والتي كتبها الدكتور كمال حبيب الباحث المرموق في العلوم السياسية وشؤون الجماعات الإسلامية، وهو من أخبر الناس في هذا الحقل المعرفي وأكثرهم نزاهة ومصداقية.
قدمت المقالات تحليلا عميقا للدور الهام الذي لعبته الأفكار، كتابا بعد كتاب، في تقديم التبرير الشرعي والفقهي لحالة التوحش والتوسع في العنف والقتل من قبل هذه الجماعات طوال العقود الأخيرة، بداية من كتب المودودي ثم سيد قطب وصالح سرية حتى كتب سيد إمام الشريف وما تلاها من كتب اعتمد عليها تنظيمي الجهاد وداعش وغيرها من التنظيمات العنيفة في تجنيد الكثير من شبانا حتى يومنا هذا.
مثّل هذا الاهتمام والجدل من قبل القراء حول الموضوع نوعا من الخرق الملفت لحالة العزوف العام عن النقاش الفكري، بما فيه ما يخص الإسلام السياسي عموما والحركات التي ترفع راية الدين لتبرير استخدام العنف ضد مخالفيها خصوصا.
واستجابة لهذا الاهتمام، سيوالي الموقع نشر عدد مختار من المقالات المهمة التي علقت على سلسلة د. حبيب، تأييدا أو اختلافا أو تصحيحا أو تطويرا من أجل المزيد من الفهم لهذه الظاهرة المعوقة لأى أمل في استعادة تماسك مجتمعاتنا واستئناف نهضتها المؤجلة.
ثم سننشر في النهاية تعليقاً ختامياً إضافياً للدكتور كمال حبيب كاتب السلسلة يستوعب ويتفاعل مع هذا الجدل وهذه التعليقات، ويضع رؤيته الخاصة كخبير في هذا الملف عن خطر هذه الكتب وانحرافها العقدي..
وهذا هو المقال الثاني في تلك التعليقات.. لـمحيى عيسى
تعد ظاهرة العنف إحدى الظواهر التي شغلت الأوساط السياسية، وكثيرا ما تلصق بالحركات السياسية الدينية ، لاسيما الإسلامية منها ، وتعد إحدى الإشكاليات الاساسية في التحليل السياسي والاجتماعي، وهي تختلف طبقا لدوافع وأسباب سياسية واجتماعية وثقافية وقد لعبت الكتب والمؤلفات الفكرية دورا كبيرا في انتشار تلك الافكار المدمرة ومن ثم أعمال العنف خاصة في المجتمعات الإسلامية.
والقصة قديمة فظاهرة العنف ظاهرة قديمة قدم الإنسانية نفسها ومرافقة للوجـود الإنسـاني، فقـد ظهـر العنـف والوحشية والقسوة وأشكال أخرى من الأفعال الإنسانية منذ بداية تاريخ البشرية ، مع قتل قابيل لأخيه هابيل ، وأصبح العنف في العصور الأخيرة أكثر تنظيما وأكثر انتشارا ويمكن القول إن العنف يتخذ أشكالًا عديدةً ومتنوعةً ، فهناك العنـف السياسـي والعنـف الاجتمـاعي والثقافي ، وهناك كما ذهب المفكر (محمد أركون) ، عنف مقدس يخلع مشروعية دينية مقدسة عبر تفسيرات لنصوص دينية تلزم الأتباع بها دون تردد أو تفكير وهذا هو مكمن الخطورة .
سيظهر محمد بن عبد الوهاب كرمز من رموز الفكر السلفي التي أضفت طابعا مقدسا علي تفسيره للنصوص الدينية والتي التزم بها أتباعه في القرن الثامن عشر الميلادي (1703-1791). بعد ذلك سيكون لفكر المودودي وسيد قطب بالغ الأثر على الحركات الإسلامية في المنطقة، وكان لمفهوم الحاكمية الإلهية الذي جاء به المودودي وتبناه قطب فيما بعد تأثير كبير في رسم معالم أيديولوجية دينية تسعى إلى تغيير الواقع، لكن من خلال استجداء الحلول من «السلف الصالح» و«عقيدة أهل السنة والجماعة “
ولد أبو الأعلى المودودى في 3 أكتوبر عام 1903 بما يعنى أنه بكبر حسن البنا بثلاثة سنوات (6 أكتوبر 1906) لكنه أسس الجماعة الإسلامية في عام 1941 وتعتبر مؤلفات المودودى خاصة المصطلحات الاربعة هى المؤسسة لكل الأفكار التكفيرية وأعمال العنف وقد مزجت بين سلفية محمد بن عبد الوهاب وبين ترجمة ذلك إلى التكفير والعنف، والغريب أن المودودي كان من مؤسسسى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وعمل بها كأستاذ رغم أنه لم يكمل تعليمه الجامعي.
القاسم المشترك في كلمات المودودى وسيد قطب وحتى مع بعض كلمات البنا وهى جميعها تشترك في التميز والاستعلاء وخلق جماعة الاصطفاء الإلهى فعقب تأسيسه الجماعة الإسلامية عام 1941 كانت كلماته لأتباعه هى هى كلمات البنا وسيد قطب (لا بد من وجود جماعة صادقة في دعوتها إلى الله، جماعة تقطع كل صلاتها بكل شيء سوى الله وطريقه، جماعة تتحمل السجن والتعذيب والمصادرة، وتلفيق الاتهامات، وحياكة الأكاذيب، وتقوى على الجوع والبطش والحرمان والتشريد، وربما القتل والإعدام، جماعة تبذل الأرواح رخيصة، وتتنازل عن الأموال بالرضا والخيار) لكن الكارثة الكبرى كانت في كتابه المصطلحات الأربعة والذى استقى منه سيد قطب كل أفكاره تقريبا، ومن ثم كان المعالم والمصطلحات الأربعة هى المرجع الرئيسى لكل جماعات التكفير والعنف التي استلهمت الأفكار التي دُونت في الكتابين
في مقدمة كتابه يتشدد «المودودي» إلى حدٍّ لم يسبقه إليه غيره من المتشددين المحسوبين على الفكر الإسلامي، فنراه يشدد على أهمية وضرورة تعليم المسلمين معاني المصطلحات الأربعة وفقًا لتفكيره، هو ورؤيته الشخصية فقط، وإلا فلا معنى لإسلامهم من الأساس، فيقول:
«في البداية لابد لمن أراد أن يدرس القرآن ويتفهم معانيه الصحيحة أن يعلم معاني هذه المصطلحات الأربعة، فإذا كان الإنسان لا يعرف ما معنى الإله، ولا ما معنى الرَّب، وما العبادة، وما تطلق عليه كلمة الدين، فلا جرم أن القرآن كله سيعود في نظره كلامًا مهملًا لا يُفهم من معانيه شيئًا، فلا يقدر أن يعرف حقيقة التوحيد أو يتفطن ما الشرك ” نافيًّا التوحيد عمن لم يتفهم معانيها، وبقي له تكفير كل من لم يحز نسخة من كتابه ويحفظ ما جاء فيه، وهذا من الغلو الذي يفكر به «المودودي» وينقله بل يفرضه بكتاباته.
ويري «المودودي» أن معاني تلك المصطلحات الأربعة ضيقت جدًّا بعد عصر نزول القرآن وتبدلت معانيها، فهو يشير إلى أن معاني هذه المصطلحات قد تبدلت بعد عصر النبي (صلى الله عليه وسلم)، وتم اختزال معانيها و أنه بعد هذا العصر لم يفهم المسلمون معاني هذه المصطلحات، فيقول
«لما نزل القرآن في العرب، وعرض على الناطقين بالضاد، كان حينئذٍ يعرف كل امرئ منهم ما معنى الإله، وما المراد بالرَّب، وكذلك كانت كلمتا العبادة والدين شائعتين في لغتهم، ولكنه في القرون التي تلت ذلك العصر الزاهر جعلت المعاني الأصلية تتبدل لجميع الكلمات، وتلك المعاني كانت شائعة بين القوم عصر نزول القرآن، حتى أخذت تضيق كل كلمة من تلكم الكلمات الأربع عما تتسع له، وتحيط به من قبل، وعادت منحصرة في معانٍ ضيقة محدودة ويُرجع «المودودي» سبب تضييق هذه المصطلحات إلى سببين، الأول؛ قلة الذوق العربي السليم، ونضوب معين العربية الخالصة في العصور المتأخرة، والثاني؛ أن الذين ولدوا في المجتمع الإسلامي ونشأوا فيه لم يكن قد بقي لديهم من معاني كلمات الإله، والرب، والدين، والعبادة، ما كان شائعًا في العصر الجاهلي وقت نزول القرآن ووقع المودودى في تكفير مبطن للمجتمعات الإسلامية وهو ما فعله تلميذه سيد قطب حيث ردد نفس الكلمات والمعاني وقال بأن الأمة المسلمة انقطع وجودها التاريخي لأنها لم تعد تفهم معني العقيدة الصحيحة وهي قضية الحاكمية
وهو نوع من التجهيل للمجتمعات الإسلامية، كما أن حديث المودودي عن فقدان المعاني الأربعة في القرآن الكريم يتعارض مع صريح كلام الله تعالى بحفظ كتابه الكريم وقدرته علي التوضيح والإبانه ، والحفظ والإبانه هنا للفظ والمعنى، كما يتعارض مع حديث النبي (صلى الله عليه وسلم): «لاتزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس»، ويشير النبي إلى أنه ستكون طائفة تعلم كلام الله وتفهمه وتحقق معانيه، وبذلك يُخالف كلام المودودى ما جاء في قدرة جيل الصحابة ومن بعدهم علي فهم ما جاء في القرآن والسُّنة وأن هذا الفهم لا ينقطع أبدا من حيث وضوحه وإبانته للمعاني التي جاء بها الكتاب العزيز .
استقى قطب أفكاره من المودودي وأصبحت مزيجا من فكر البنا والمودودي ففي كتاب المعالم والذى يعتبر مع كتاب المودودى مرجعا رئيسيا لجماعات التكفير والعنف.
تأسيس الحركة الإسلامية من جماعة الإخوان وغيرها ممن جاء بعدهم يقوم في أساسه على الاصطفاء والتميز ويصل إلى صبغ الأفراد المنتمين إليهم بصفات متفردة ومن هنا كان العمل على تكفير باقى المسلمين ومن ثم استحلال ممارسة العنف تجاههم
قضية التكفير والعنف من أعظم البلايا التى ابتليت بها الأمة فهى فضلا عن الخسائر في أرواح الشباب والأبرياء فهى تقدم صورة مشوهة للدين وتعطل انتشاره وتقدمه ولا يمكن مقاومة هذا الفكر إلا بدحض ما كتبه المؤسسون له دون خوف أو تردد ونحن بحاجة إلى مؤسسات تعمل في هذا المجال وفق دراسات منهجية لمعرفة الأسباب الحقيقية للغلو والتشدد والتطرف العنيف بعيدا عن دعاوى الاضطهاد أو المظلوميات.