رؤى

ناجي العلي ابن شجرة الجليل ومبدع شخصية «حنظلة» (1)

«الدجاجة لها بيت .. بيت الدجاجة اسمه القن .. الأرنب له بيت .. بيت الأرنب اسمه الجحر .. الحصان له بيت .. بيت الحصان اسمه الأسطبل .. الكتائب الذين ذبحوا أطفالنا في المخيمات لهم بيت .. اسمه بيت الكتائب .. أمريكا التي تساعد الإسرائيلي لها بيت .. اسمه البيت الأبيض .. الفلسطيني يسكن المخيمات وما عنده بيت .. بيت الفلسطيني اسمه بيت المقدس .. كيف يعود الفلسطيني إلى بيته .. بالوعي» .. هكذا خط فنان الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي على إحدى لوحاته الخالد.

الباحث الفلسطيني خالد محمد أحمد الفقيه في دراسته المعنونة «التنمية السياسية المترتبة على حركة الوعي في كاريكاتير الفنان ناجي العلي» .. يطرح قضية طبيعة الدور الذي لعبته رسوم فنان الكاريكاتير ناجي العلي في نشر الوعي بالقضية الفلسطينية وفي التاثير على مواقف الجماهير والقيادات السياسية الفلسطينية والعربية تجاه الإصرار على الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني في كامل أراضيه.

عن فن الكاريكاتير

استهل الباحث خالد الفقيه دراسته بالحديث عن نشأة فن الكاريكاتير مشيرا إلى أنه كفن تعبيري يعود إلى تلك الرسوم والمنحوتات الصخرية التي أبدعها الإنسان الأول وقد تفاوتت درجة السخرية -التي يتمتع ويتميز بها فن الكاركاتير- بتلك الرسوم الأولى من حضارة إلى أخرى.

لفت الباحث النظر إلى ما أشار إليه كاظم شمهود طاهر في كتابه «فن الكاريكاتير لمحات عن بداياته وحاضره عربيا وعالميا» من أن الفنان الإيطالي دافنشي يعد أول فنان وضع الأسس والقواعد الفنية لفن الكاريكاتير وأن الأخوين البولنيين أوغسطين وأنيبالي كانا أول من بدأ رسم الكاريكاتير وذلك لخوفهما من تصوير الوجوه بدقة بسبب تلك العادات والتقاليد والأحكام الصارمة التي كانت تفرضها الكنيسة آنذاك وأن هولندا تعد ثاني بلد في العالم عرف فن الكاريكاتير وقد تعرض هذا الفن للكثير من المضايقات من قبل النخب السياسية والاجتماعية الأوربية ومن ثم فُرِضَت عليه القيود خاصة في بريطانيا إبان العهد الفيكتوري.

فن الكاريكاتير لمحات عن بداياته وحاضره عربيا وعالميا
فن الكاريكاتير لمحات عن بداياته وحاضره عربيا وعالميا

غير أن تلك القيود التي فُرِضَت على فن الكاريكاتير لم تحد من انتشاره وشيوعه حيث أصبح هذا الفن وسيلة تعبير حرة تهدف إلى نقد القيم المجتمعية المتحجرة والنظم السياسية الديكاتورية حول العالم ويضرب الباحث المثال بفنان مثل هونراد دومير الذي شارك برسوماته النقدية الساخرة في ثورة 1830 بفرنسا وفيما بعد شارك برسومه بثورة 1848 حتى سمى بالشاهد على العصر، ذلك أنه قد تمكن عبر رسومه من رصد واقع المجتمع الفرنسي بكل تناقضاته فأصبحت رسومه رمزا للصراع ما بين بقايا العهد القديم والثوار الجدد.

على صعيد العالم العربي تعد مصر صاحبة أول صحيفة عربية مختصة بفن الكاريكاتير ظهرت بالقاهرة في «21/3/1877» تُدعى «أبو نضارة زرقا» وفي سوريا كانت أول صحيفة كاريكاتير هزلية هى «حُط بالخرج» صدرت في «2/4/1909» لصاحبها محمد عارف الهبل.

أبو نضارة زرقا
أبو نضارة زرقا

دفعت الأحداث السياسية التي مر بها العالم العربي خلال القرن العشرين إلى شيوع فن الكاريكاتير ومن ثم تحول من فن يقوم على السخرية والنقد الاجتماعي فقط إلى ما عُرِفَ بفن الكاريكاتير السياسي وكان ناجي العلي من أبرز فرسان ذاك الفن.

ناجي العلي من قرية الشجرة بالجليل إلى لندن

«اسمي ناجي العلي.. ولدت حيث ولد المسيح، بين طبرية والناصرة، في قرية الشجرة بالجليل الشمالي، أخرجوني من هناك بعد 10 سنوات، في 1948 إلى مخيم عين الحلوة في لبنان .. أذكر هذه السنوات العشر أكثر مما أذكره من بقية عمري، أعرف العشب والحجر والظل والنور، لا تزال ثابتة في محجر العين كأنها حفرت حفرًا ! .. أرسم .. لا أكتب أحجبة، لا أحرق البخور، ولكنني أرسم، وإذا قيل أن ريشتي مبضع جراح، أكون حققت ما حلمت طويلاً بتحقيقه .. كما أنني لست مهرجًا، ولست شاعر قبيلة – أي قبيلة ! .. متهم بالانحياز، وهي تهمة لا أنفيها .. أنا لست محايدًا، أنا منحاز لمن هم “تحت” .. الذين يرزحون تحت نير الأكاذيب وأطنان التضليلات وصخور القهر والنهب وأحجار السجون والمعتقلات، أنا منحاز لمن ينامون في مصر بين قبور الموتى، ولمن يخرجون من حواري الخرطوم ليمزقوا بأيديهم سلاسلهم، ولمن يقضون لياليهم في لبنان شحذًا للسلاح الذي سيستخرجون به شمس الصباح القادم من مخبئها .. ولمن يقرأون كتاب الوطن في المخيمات» .. هكذا قدم نفسه فنان الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي مبدع شخصية حنظلة الرمز الأبرز في تاريخ النضال الفلسطيني.

ولد ناجي العلي بفلسطين عام 1936 بقرية الشجرة التي شهدت العديد من المناوشات بين الفلسطينيين والمستوطنيين اليهود الجدد واستشهد العديد من أبناء القرية وظل الحال على ما هو عليه حتى سقوط الجليل بأكمله في يد الإسرائيليين ونزوح الأهالي إلى مخيم عين الحلوة بلبنان عام 1948.

مخيم عين الحلوة بلبنان عام 1948
مخيم عين الحلوة بلبنان عام 1948

حين زار الأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني مخيم عين الحلوة لأول مرة شاهد رسوم ناجي العلي التي ملأت جدران المخيم فبادر بنشر أول رسم كاريكاتير له وكانت عبارة عن خيمة على شكل هرم وفي قمته بركان ترتفع منه يد تنشد التحرير بمجلة «الحرية»الناطقة بلسان حال حركة القوميين العرب التي كان يرأس تحريرها وكان ذلك عام 1961.

انخرط ناجي العلي بحركة القوميين العرب التي أسسها جورج حبش غير أنه استُبعد عن الحركة عدة مرات رغم إيمانه بشعارتها بدعوى عدم انضباطه الحزبي ورغم علاقته غير الثابتة مع حركة القوميين العرب إلا أنه شارك ورفاقه في إصدار نشرة سياسية أطلق عليها «الصرخة» كانت تكتب باليد حتى عام 1961.

جورج حبش
جورج حبش

خلال مشاركته في إعداد النشرة لاحظ رفاقه ميوله للرسم فشجعوه على الالتحاق بأكاديمية بطرس للفنون في بيروت غير أنه لم يستمر كثيرا بها لاعتقاله من قبل قوى الأمن اللبنانية أكثر من مرة أمضاها بعدة سجون لبنانية حول خلالها جدران الزنازين إلى لوحات فنية تنبض بالحياة والآلم والحلم بالعودة للوطن.

حافظ ناجي العلي على علاقته بحركة القوميين العرب رغم عدم التزامه التنظيمي بصفوفها وظل يواظب على نشر رسومه بمجلة «الحرية» ومع صعوبة الحياة بلبنان والمضايقات الأمنية التي كان يتعرض لها، توجه للكويت عام 1963 للعمل بمجلة «الطليعة» الأسبوعية التي كانت تتبع فرع تنظيم حركة القوميين العرب بالكويت.

وجد ناجي العلي ضالته المنشودة في عمله الصحفي داخل مجلة الطليعة الكويتية حيث استطاع أن يعبر عما يجول بخاطره ملامسا هموم المواطن العربي ومن ثم انتقل إلى جريدة «السياسة» الكويتية اليومية واستمر بالعمل بها حتى عام 1974.

أزعج ناجي العلي خلال فترة عمله بالكويت بريشته ملاك الثروة والإعلام والسياسة بالعالم العربي منتقدا أمراض المجتمع والفساد الإداري والمالي وعدم أهلية الحكام وكانت أول رسوماته بالكويت عبارة عن لص يدخل بلدية الكويت ليخرج منها صائحا سرقوني.

الفن مقاومة

تزوج ناجي العلي بذات العام الذي تأسست به منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، وبتاريخ «13/8/1969» قدم ناجي العلي لجمهوره على صفحات جريدة السياسة الكويتية شخصية «حنظلة» ذلك الرمز الذي لازمه حتى وفاته والذي خاض معه رحلة نضاله كمدافع عن هموم المواطن العربي.

حنظلة
حنظلة

حيا ناجي العلي برسومه مجمل عمليات المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي وانتقد الدعم الأمريكي لإسرائيل والعلاقات الإيرانية في عهد الشاه مع تل أبيب، حيا الثورة بالجزائر وحين اندلعت حرب فيتنام حيا الثورة الفيتنامية، ودافع عن الحرية والديمقراطية بالوطن العربي.

انتقد ناجي العلي القوى الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية كما انتقد أعداءها وحين لاحت عمليات التسوية السياسية شحذ ريشته مدافعا عن القضية الفلسطينية فأشبع هنري كيسنجر سخرية برسومه، على أثر تلك الرسوم النقدية الحادة تلقى العديد من التهديدات ممن طالتهم رسومه بالنقد والسخرية.

أصدر ناجي العلي كتابه الأول عام 1976 الذي ضم أغلب الرسوم التي تخص القضية الفلسطينية ما جعله يقبع بدائرة الضوء على المستوى العالمي حتى وصفته صحيفة «إيفنتس» بأنه أحد شواهد المرحلة التاريخية.

شهد ناجي العلي العديد من الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان وحين وصلت مدينة صيدا توجه من بيروت إلى صيدا ليشد من أزر المقاوميين ومكث بها شهرا كاملا وحين انقطعت أخباره ولم يعد بإمكانه إرسال رسوماته إلى جريدة السفير، كثرت الشائعات حول مصيره، فرثاه بعض أصدقائه بالصحف والمجلات، وبقى الحال على هذا الأمر حتى تسربت بعض أعداد نشرة المعركة من صيدا إلى دمشق متضمنه عددا من رسومه.

كاريكاتير ناجي العلي .. بيروت
كاريكاتير ناجي العلي .. بيروت

عاد ناجي العلي من صيدا مخترقا الحصار الذي كان قد فرض على بيروت ليباشر بريشته دوره في رفع الروح المعنوية للمقاوميين وليواصل رحلته بعد خروجه الأخير من لبنان في نقد غالبية القادة العرب في تعاطيهم مع القضية الفلسطينية وعلى رأسهم ياسر عرفات الذي رسمه حين توجه للقاهرة وهو يرتدي زيه العسكري ويرفع شارة النصر وقد تحول إصبعاه إلى يدين مستسلمتين.

عام 1985 أصدرت وزارة الداخلية الكويتية قرارا بإبعاد ناجي العلي عن الأراضي الكويتية ولم تفلح جهود رئيس تحرير «القبس» محمد جاسم الصقر في وقف هذا القرار، غير أن أصحاب الجريدة دعوه للعمل بجريدة القبس الدولية التي كانت تصدر من لندن فتوجه وأسرته واستمر في نقد كل من كان سببا في ضياع أرض فلسطين.

استشهد ناجي العلي بمدينة لندن عام 1987 وسط ظروف غامضة … وبات التساؤل المطروح أهو الموساد الإسرائيلي الذي فعلها أم أحد الأنظمة السياسية العربية التي طالما انتقدها ناجي العلي برسومه أم منظمة التحرير الفلسطينية التي كان قد حضر إلى لندن مسئول عنها ليطالب ناجي العلي بالتخفيف من لهجته ضد ياسر عرفات .. حتى نشرت صحيفة «يديعوت أحرنوت» العبرية في وقت لاحق قائمة بسلسلة العمليات الاستخبارية التي أطلقت عليها «المظفرة» وتضمنت لأول مرة اعتراف إسرائيل بإغتيالها لمبدع الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي.

وللحديث بقية..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock