رؤى

المسيحيون بين الاستيعاب والإقصاء في الفقه الإسلامي

منذ اندلاع ثورة 25 يناير، وحتى العزل الشعبي الذي أطاح بمحمد مرسي في 30 يونيو الماضي قدم الأقباط دماء ذكية فداء لوطنهم، لم يقتصر الأمر على ما دفعه الأقباط من استشهاد عدد غير قليل منهم، سواء في ماسبيرو أو في إمبابة، بل تعرضت 102 كنيسة للاعتداء ما بين حرق أو هدم كلي أو جزئي، وزادت حدة الاعتداءات على الكنائس وممتلكات الأقباط الخاصة بعد فض قوات الأمن المصرية لاعتصامي رابعة العدوية بمدينة نصر والنهضة بالجيزة.

وغيرها من الأحداث التي تدفعنا إلى النبش في جذور التعايش بين أبناء الأديان التوحيدية على مستوى الاجتماع البشري، ما يدفعنا أيضا إلى التعامل بحذر مع الروايات والأفكار التي تتحدث عن إقصاء الأخر الديني أو العرقي، ولو اتخذنا مصادر الفكر الإسلامي في تحديد الموقف من الآخر الديني لوجدنا تفاوتا في التناول، فالمصادر التي قدمت التصور التاريخي للعلاقة، بدءا من القرآن الكريم مرورا بكتب الخراج والأحكام السلطانية وصولا إلى معاجم الرجال والتراجم، نجدها تختلف عن كتب الأموال والحسبة، وكتب الردود على المشتركة حول الأمور العقائدية، بينما كتب الأدب وفنون العمارة وأخبار الديار يظهر فيها التسامح جليا في المجالين الأدبي والعمراني، ولا شك أن النماذج المعبرة عن رحابة الحضارة الإسلامية نجدها متمثلة في بناء الكنائس في العصرين الأموي والعباسي تأكيدا لأهمية الكنيسة في النسيج الاجتماعي والحضاري.

مسيحيون يحيطون المتظاهرين المسلمين أثناء الصلاة في ثورة 25 يناير
مسيحيون يحيطون المتظاهرين المسلمين أثناء الصلاة في ثورة 25 يناير

إلا أن جماعات العنف الديني لا تعترف إلا بالإقصاء والطائفية وبعض الفتاوى التي تم تصديرها في أوقات النزاعات والحروب، وردا على هذه الجماعات نحاول الاقتراب من البدايات.

بداية لابد من الاعتراف بأن المنظومة الفقهية لم يكن لها تأثير كبير في الفترات الأولى للدولة الإسلامية، خصوصا أيام ما يطلق عليها “الفتوحات”، فلم تكن هذه المنظومة تشكلت بعد، حيث جاء تشكلها حوالي منتصف القرن الثاني الهجري، وفي هذه البدايات وقبل تشكل الفقه لم تكن المسيحية غريبة عن العرب، فكانوا يعرفونها جيدا، ولم يكن لها قوة سياسية داخل الجزيرة العربية، ولذا لم يتصارع معها النبي، عكس ما حدث مع اليهود، ولهذا كان موقف القرآن من المسيحية إيجابيا بدرجة كبيرة سواء من الناحية السياسية أو السلوكية.

في القرن الثاني الهجري وبعد تشكل المنظومة الفقهية الكبرى في الإسلام (المذاهب الأربعة، المذهب الجعفري، المذهب الإسماعيلي،والمذهب الإباضي) بما يتضمنه كل منها من أحكام خاصة بأهل الذمة نشأت وتطورت في ظروف كانت فيها المتغيرات السياسية والاجتماعية قد هيأت مناخا ملائما لعلاقة مستمرة ومستقرة نسبيا.

فلم يكن العرب الفاتحين يملكون سياسة واضحة وواحدة للعلاقة بأهل البلاد المفتوحة من مختلف الأديان، يدل على ذلك الخلاف العميق بين الفقهاء حول وضع المجوس والصابئة، وهل هم أهل كتاب وبالتالي من أهل الذمة أم لا؟!

كما أنه ترتب على حالة الحرب هذه تقسيم العالم من جانب الفقهاء فيما بعد إلى دارين (دار إسلام ودار حرب)، الأولى التي يسيطر عليها المسلمون وتطبق فيها أحكام الإسلام، والثانية هي التي تقع خارج نطاق سيطرة الإسلام ولا تطبق فيها شعائره وأحكام شريعته.

وكما لم تكن هناك سياسة واحدة وثابتة تجاه الفئات الاجتماعية والدينية في الأقطار المفتوحة، لم تكن هناك سياسة واحدة تجاه المسيحيين بالذات، فقد جرى التمييز بعد تجارب سلبية بين مسيحية عربية “بدوية” ومسيحيات أخرى ومثال لذلك نصارى تغلب ومضاعفة الصدقة عليهم.

المسيحية والاسلام

منظومة الاستيعاب والوحدة:

رأى الإمام أبو حنيفة أن الدين واحد والشرائع مختلفة فإن اتفق آخرون مع المسلمين في الأصل فإن اختلافات الشرائع جزئية وعلى الفقيه أن يفهم هذا المعنى الوحدوي للإسلام المستوعب، والذي يريد جمع الناس وتوحيد المجتمع في الداخل من مبدأ اختلاف الشرائع أي إمكان وجود شريعة اجتماعية أخرى غير الشريعة الإسلامية لفئات اجتماعية تعيش مع المسلمين في مجتمع واحد، تأسيسا للنص القرآني ” شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ” الشورى (13) فالدين لم يبدل ولم يحول ولم يغير، ولكن الشرائع هي التي تغيرت وتبدلت لأنه رب شيء كان حلالا لأناس قد حرمه الله على غيرهم، “لكل جعلنا شرعة ومنهاجا” المائدة (48).

ومن هنا قام الفقهاء الأحناف بتعريف أهل الكتاب الذين تحدث عنهم القرآن بأنهم ليسوا النصارى واليهود فقط بل: “كل من اعتقد دينا سماويا وله كتاب منزل مثل التوراة وصحف إبراهيم وزبور داود…”.

أهل الكتاب على اختلاف الفقهاء هم الذين يمكن للمسلمين أن يقيموا معهم عقدا أو عهدا للذمة، والذمة هي: عقد بمقتضاه يعتبر غير المسلم في ذمة المسلمين أي في عهدهم وأمانهم على وجه التأبيد..”، وحول حكمة مشروعية عقد الذمة يقول الفقهاء: “حكمته أن يترك الحربي القتال مع احتمال دخوله الإسلام عن طريق مخالطته المسلمين واطلاعه على شرائع الإسلام، وليس المقصود من عقد الذمة المال..”، لهذا يرى فقهاء الحنفية والحنابلة والزيدية وبعض الشافعية أن غير المسلم إذا طلب عقد الذمة فيجب على الإمام إجابته للحكمة الكامنة وراء ذلك والمتجلية في إمكان إسلامه، فإذا جرى هذا العقد بين المسلمين والكتابيين فإنه عقد مؤبد لا يستطيع المسلمون أن ينقضوه أو يعلنوا حله لمخالفة ذلك للتوحيد الذي دعا إليه القرآن، والذمي هو الذي يملك نقض العقد وحده إما صراحة أو بقرينة مثل قتال المسلمين مع محاربيهم، وإذا انعقد عقد الذمة فإن المقيم على أرض الإسلام من السكان الأصليين يعتبر حكما جزءا من الأمة، غنه جزء من أهل دار الإسلام، أما إن كان طارئا فإن عقد الذمة يعتبر بمثابة جنسية له تحوله إلى عضو في الجماعة السياسية الإسلامية الموجودة، وعندما يتحول الكتابي إلى ذمي ينطبق عليه منطوق الأثر المعروف عن السلف “لهم ما لنا وعليهم ما علينا” مع بعض الاستثناءات التي تمس المسائل الدينية وما يتصل بها.

يقول السرخسي الفقيه الحنفي: “لأنهم قبلوا عقد الذمة لتكون أموالهم وحقوقهم كأموال المسلمين وحقوقهم.. ، ولأن الذمي كما يقول الكاساني: “من أهل دار الإسلام” فمن حق الذمي أن يتولى مناصب عامة في دار الإسلام كالمسلم مادام مؤهلا إلا ما اتصل بالإسلام نفسه مثل الخلافة أي الإمامة أو الإمارة على الجهاد”، ذلك لأن الإمام كما يعرفه الماوردي “خليفة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا”، والجهاد دعوة إلى الإسلام بمختلف الوسائل فلا يتصور أن يترأس غير المسلم دعوة للإسلام، وللذمي بعد ذلك أن يتولى كل منصب أخر مثل الوزارة أو قيادة الجند، وطالما عقد الذمة يجعلهم جزء من المجتمع يكون لهم الحق في التمتع بخيراته شأنهم في ذلك شأن الفئات الاجتماعية الأخرى.

أصول السرسخي
أصول السرسخي

وذهبت مجموعة من الفقهاء إلى أن اشتراك ذمي في تمرد داخلي ينهي عقد الذمة بينه وبين المسلمين ويجعله من أهل دار الحرب، أما الأحناف فيرون أن عقد الذمة ينقضه فقط الخروج إلى العدو والقتال معه، أما التمرد الذي هو “البغي” وهو التمرد لأسباب ومسوغات سياسية داخلية فيعتبر نزاعا اجتماعيا داخليا ولا يمكن حسبانه عملا عدوانيا واغذا ارتكب أي جناية كالقتل أو السرقة فيعاقب بنفس عقاب المسلم.

منظومة الإقصاء:

لم تكف الدعوة السلفية يوما عن إصدار فتوى ضد الأقباط أو التحريض ضدهم، ونذكر جميعا فتاوى «برهامي» بحرمانية تهنئة الأقباط بـ«عيد ميلاد المسيح» أو «الكريسماس»، حيث قال «إن تهنئة الكفار بعيد الكريسماس أو غيره من أعيادهم الدينية حرام بالاتفاق»، مستندًا إلى فتاوى سابقة لـ«بن عثيمين» والشيخ “بن باز”. كما أفتى «برهامي» أن حضور حفلات عقد قران الأقباط حرام، لأنها تذكر فيها عبارات تخالف العقيدة، لكنه أباح الذهاب للتهنئة بالقران في البيت، ولكن ذلك بشرط «إن كان العروسان من غير المحاربين للإسلام”.

وتاريخ التكفير وتحريض السلفين على الأقباط مليء بالكثير من الفتاوى المتشددة التي تتنافى مع سماحة الدين الإسلامي، لكن زادت حدة الخطاب التكفيري، بعد اندلاع ثورة يناير ٢٠١١، ففي أول اختبار انتخابي للاستفتاء على الدستور في ١٩ مارس، أعلن مشايخ السلفية، محمد حسين يعقوب وياسر برهامي، وعبدالمنعم الشحات، أنه يجب على الجميع الإدلاء بـ«نعم» للحفاظ على هوية الدولة الإسلامية، وأن ذلك لعدم إعطاء فرصة للأقباط بتغيير الدستور وتغيير هوية الدولة، حسب زعمهم.

ليس هذا فقط بل هناك المزيد من الفتاوى السلفية التي تحرض على الأقباط ومن أهمها: تحريم بناء الكنائس يقول أبو اسحاق الحويني: «في ميثاق عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه إذا هدمت كنيسة وسقطت لا ينبغي لها أن تجدد»

أما فوزي عبدالله: فيقول: “يجب عليهم الامتناع من إحداث الكنائس والبيع، وكذا الجهر بكتبهم وإظهار شعارهم وأعيادهم في الدار، لأن فيه استخفافا بالمسلمين”

وفي قضية فرض الجزية نجدهم يصرون عليها رغم اختلاف الزمان وأسباب النزول، وها هو قائد سلفية الإسكندرية  ياسر برهامي يقول “اليهود والنصارى والمجوس يجب قتالهم حتي يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وصاغرون أي أذلاء”

وها هو أبو إسحاق الحويني يقول بكل عجرفة: يجب أن يدفعها المسيحي – يقصد الجزية – وهو مدلدل ودانه» بنص كلامه  أما فوزي عبدالله فيقول «يجب عليهم أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون في كل عام”

إن الخطاب السلفي في تعامله مع الملف القبطي إنما يتعامل من خلال مرجعيته الدينية التي يؤمن بها بغض النظر عن أن تلك المرجعية يشوبها الكثير من التشدد والماضوية، فالتيار السلفي في مصر يرتبط ارتباط وثيق بالوهابية وبآراء المتشددين من علماء الإسلام أمثال ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ووريثهم محمد بن عبد الوهاب، الذين ينظرون إلى الآخر الديني على أنه كافر تجب محاربته ومن هنا جاء خطاب التيار السلفي الموجه للأقباط على أنهم:

1- كفار يجب محاربتهم

2- لا يتولون الوظائف العامة في الدولة

3-عدم القصاص للمسيحيين

4-الطعن في زعماء الأقباط

5-عدم تهنئة الأقباط بأعيادهم

6-تحريم إلقاء السلام علي المسيحيين

7-فرض الجزية

ومن هذا كله نجد أن جوهر المشكلة هي النيران المشتعلة تحت الرماد؛ لأننا جميعا نعلم أن السلفيين هم المعادل الموضوعي لجماعة الإخوان، وأصبح السلفيون الآن الوصي على تنفيذ مشروع الخلافة الإسلامية وما تصريحات قادتهم بشأن مدنية الدولة وقبول الآخر إلا من قبل التقية وفقه الاستضعاف والابتلاء.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock