رؤى

بين الإمام واللورد.. عن علاقة “محمد عبده” باللورد كرومر والاستعمار الإنجليزي

 في كتاباته يحلل محمد عبده الأسباب الحقيقية لتقدم الغرب، فيرى أن ذلك كان نتيجة التحدي الذي طرح على الشعوب الأوروبية، والاستجابة من قبل هذه الشعوب لمواجهة هذه التحديات ” لو تأملنا تاريخ سير التقدم الأوروبي لرأينا أن أسباب التقدم يجمعها سبب واحد، وهو إحساس نفوس الأهالي بآلام صعبة الاحتمال من ظلم الأشراف (النبلاء) وغدر الملوك، وضيق وجوه الاكتساب، ونفرة دينية من المسلمين الذين استولوا على حرمهم المقدس”، إن هذه الآلام هي التي دعت الشعوب الأوروبية إلى ضرورة الشروع في بناء الجمعيات، والنشاط فى جلب الثروة ، وطلب حقوقهم ، وفى سبيل مواجهة هذه الآلام تعرضوا لمعاناة كبيرة ولذلك فإن “الممالك الغربية لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بعد معاناة أتعاب، ومقاساة مشاق، وسفك دماء شريفة ، وثل عروش ملك رفيعة (…) حتى بدلت الحوادث الدهرية طبائع الأهالي ، وغيرت أخلاقهم ونبهت الضرورات أفكارهم ، وهذبت المخالطات التجارية عقولهم”، وكذلك فإنهم على عكس ما نفعل الآن في تقليدنا لهم في النهايات حينما احتكوا بالشرقيين بحثوا في أحوالهم، ورأوا عاداتهم الجميلة، وأسباب قوتهم “ولهذا أخذ أهالي أوروبا في تقليدهم لا في البهارج والزخارف بل في أسباب التقدم والموصلات إليها، وهى توسيع نطاق الصناعة، والتجارة، ونحوهما من وجوه الكسب، فكان ذلك أساسا للعمل، وقرحا للنفوس”، وهنا نلاحظ مدى إدراك الإمام محمد عبده العميق بكيفية تحول الشعوب الغربية من الانحطاط إلى الرقى، ومن التخلف إلى التقدم، وإن كان لابد من التقليد فإن ذلك لابد أن يكون في الضروريات لا النهايات والزخارف كما نفعل.

فتاوي محمد عبده
فتاوي محمد عبده

ورغم أن الإمام محمد عبده يرفض التقليد المظهري الذي لا يمس جوهر المدنية فإنه لا يرفض التعلم من الغرب ، فيرى أن اختلاطنا بالأمم الأوروبية سنين عديدة علمنا أسباب الضعف ، ووسائل القوة، وعرفنا مقدار المدنية ودرجة الخشونة، وبالتالي فعلينا “أن ننظر فى أحوال جيراننا من الملل والنحل ، وما الذي نقلهم عن حالهم الأول، وأدى بهم إلى أن صاروا أغنياء أقوياء حتى كادوا أن يتسلطوا علينا بأموالهم ورجالهم ، إن لم نقل أنهم قد تسلطوا بالفعل، فإن حققنا السبب وجب علينا أن نسارع إليه حتى نتدارك ما فات ، ونستعد لخيرنا فيما هو آت ، وها نحن بعد النظر لا نجد سببا لترقيهم في الثروة والقوة إلا ارتقاء العلوم والمعارف فيما بينهم ، فإذًا أول واجب علينا هو السعي بكل جد واجتهاد في نشر هذه العلوم في أوطاننا .

التقية مع الإنجليز

كان الأفغاني ومحمد عبده قد نفيا من مصر بعد قضاء الإنجليز على الثورة العرابية عام 1882 فسافرا إلى باريس ،وهناك أصدرا جريدة “العروة الوثقى” دعوا فيها إلى إصلاح حال الأمة الإسلامية، ومواجهة الاستعمار وبعد ذلك انتقل الإمام محمد عبده إلى بيروت، وفى تلك الفترة عانى الإمام محمد عبده من وطأة الغربة ، ومن الثمن الباهظ للمشاركة فى العمل السياسي، وفى عام 1888 ساعده اللورد كرومر* فى العودة من منفاه إلى مصر لأنه كان يرى فى الإمام وزملائه “الخلفاء الطبيعيين للمصلح الأوربي “وقد توطدت العلاقة بين الإمام واللورد كرومر، ولقد دار الكثير من اللغط حول هذه العلاقة، فقد بدا من الواضح أن الإمام يمارس التقية مع الإنجليز، ويحاول رشيد رضا أن يبرر طبيعة هذه العلاقة فيقول “ما كان من حسن العلاقة بين الشيخ واللورد كرومر، فقد كان اللورد يبجله ويقدره قدره، ويستشيره فى بعض المسائل الحكومية المهمة، ويتحاشى أن يهيج وجدانه ووجدان حزبه الراقي على الإنجليز، وكان الأستاذ الإمام يداريهم لعلمه أنه لا يستطيع البقاء في مصر بدون ذلك”.

جريدة العروة الوثقى
جريدة العروة الوثقى

فائدة البنوك حلال

ولأن الاستعمار قد طرح العديد من الإشكاليات الحديثة على الفقه التقليدي الإسلامي، مثل البنوك ، وصناديق التوفير، وغيرها من القضايا التى كانت تطرحها المؤسسات الحداثية على البناء الثقافي الإسلامي ، فكان اللورد كرومر يرى فى الإمام المصلح الذي يمكن أن يحل مثل هذه المشاكل، فيقول اللورد كرومر فى تقريره السنوي عام 1905 “كان لمعرفته – الإمام- العميقة بالشريعة الإسلامية ولآرائه المتحررة المستنيرة أثرها فى جعل مشورته والتعاون معه عظيم الجدوى، وضرب لذلك مثلاً بفتواه الشهيرة عن ربح التوفير”.

ولقد أشاد بلنت كثيرا بصديقه الإمام محمد عبده ، ولكن الإنجليز كانوا يشيرون إلى نزعة ارتيابية واضحة فى فكر الإمام محمد عبده فبلنت يقول “بأن الإمام رغم أنه المفتى الأعظم ليس له من الثقة فى الإسلام أكثر مما لى من الثقة في الكنيسة الكاثوليكية”، ولعل هذا ما يفسر لنا تعدد دلالات خطاب محمد عبده الإصلاحي الذي انطلقت منه كافة الاتجاهات الفكرية العلمانية، والليبرالية، والسلفية فمن عباءة محمد عبده خرج رشيد رضا السلفي، وقاسم أمين ولطفي السيد الليبراليان ، ولعل هذا ما دعا ألبرت حوراني إلى القول بأنه ” نوى محمد عبده إقامة جدار ضد العلمانية ، فإذا به فى الحقيقة يبنى جسرا تعبر عليه العلمانية لتحتل الموقع الواحد بعد الآخر، وليس من قبيل المصادفة أن يستخدم معتقداته فريق من أتباعه فى سبيل إقامة العلمانية الكاملة”.

قاسم أمين وأحمد لطفي السيد
قاسم أمين وأحمد لطفي السيد

الإستعمار الإنجليزي أرحم من الفرنسي

وإذا كان ثمة مهادنة وتقية تبدوان فى موقف الإمام من الإنجليز ، فعلى أي نحو واجه الإمام الغرب المستعمر فى مصر”؟ كان الإمام يرفض الغرب المستعمر، ولكن بلغة هادئة ترى أن خروجهم من مصر قد يستلزم عدة قرون من العمل والجهاد للوصول إلى التحرر منهم، وكان يرى ” أن الإنجليز يمتصون ثروة مصر ، ويستخدمون الرجال المقتدرين على العمل فيها، ويحافظون على الشيء أو الشخص ما وجدوا فيه فائدة لهم حتى إذا رأوا أنه لم يبق فيه فائدة  ألقوه ، وكان الإمام محمد عبده ينتقد الاستعمار الإنجليزي على استحياء، وينتقد الفرنسيين بضراوة فيقول “إن الاستعمار الإنجليزي يراعون من عقائد الناس من يستولون عليهم، ومن استعدادهم العلمي والاجتماعي ما لا يراعى الفرنسيون، وأنه يمكن إقناعهم والاستفادة منهم ما لا يمكن مثله مع الفرنسيين لأن أخلاقهم أعلى، وهم إلى مواتاة الطبيعة والعقل أدنى” .

والمفارقة الغريبة أن فرنسا عموما ، وباريس خصوصا كانت فى خيال المثقفين المصريين فى عصر التنوير العربي هي بلد النور والحرية، وكانت معظم البعثات التى ترسل إلى الخارج ترسل إلى فرنسا، ولعل ذلك يعود إلى تقليد رسخه محمد على فى مصر، وكان معظم المثقفين فى تلك الفترة يتغزلون فى باريس ، كما أن الإمام نفسه سافر إلى فرنسا وعاش فيها فترة، وتعلم اللغة الفرنسية، فلماذا لم يحمل الإمام على إنجلترا نفس الحملة التى حملها على فرنسا ؟! هل ذلك يعود إلى ممارسته التقية الواضحة مع الإنجليز؟ وبالمقابل ينتقد فرنسا انتقادا حادا فيرى “أنه لا توجد أمة تبغض المسلم لأنه مسلم لا لأمر آخر إلا فرنسا ، كما أن الفرنساوى إذا مدح الإسلام وذكر شيئا من مزاياه فلابد أن يكون غرضه من ذلك منفعة فرنسا”(40) .

التاريخ السري لاحتلال انجلترا لمصر
التاريخ السري لاحتلال انجلترا لمصر

ومما لا شك فيه أن الاستعمار الفرنسي يختلف إلى حد كبير عن الاستعمار الإنجليزي وذلك لأن فرنسا لم تسع فقط إلى احتلال البلاد، وجباية ثرواتها، ولكنها كانت تسعى إلى فرض لغتها، وثقافتها فى المستعمرات ، وإدماج هذه المستعمرات كامتداد للدولة الفرنسية، و هذا ما حدث فى بلاد المغرب العربي ، وبدا هذا الاستعمار فى أبشع صوره فى الجزائر، ولذلك كانت مواجهة خطاب الإصلاح الديني لهم فى الجزائر حادة ودامية، وذلك بسبب “الجاذبية التى كانت تمارسها الثقافة الفرنسية، والمثل العليا للنظام الجمهوري على النخب الحديثة كانت قوية جدا، فهذه النخب كانت مطبوعة بالثقافة الفرنسية، بل إن بعضهم كان عبارة عن نتاج خالص للمدارس الجمهورية ، وكذلك سعت فرنسا إلى فرض لغتها الفرنسية على التعليم ، وفى الحياة اليومية مثل إصدار الصحف والمجلات، ولا شك أن وعى فرنسا بتصدير الاستعمار الثقافي جعل الأمر فى الجزائر بالذات ، وبقية دول المغرب العربي شديد التعقيد .

د. أحمد سالم

أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة طنطا
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock