ثقافة

صلاح عيسى ..حكاية من دفتر الوطن

“اكتشفتُ أنني بسذاجة، إن لم يكن بحماقة، مارستُ ما أظنّه حريتي، فدستُ بقلمي أسلاكًا عارية كثيرة، وأحدثت انفجارًا لم أكن أقصده”

هكذا قال “صلاح عيسى ” عن نفسه وكأنه يختزل مسيرة طويلة وغنية بالعطاء والنضال والمشاغبات والسجون .

فى ذكرى رحيله الثالثة تبدو محاولة الكتابة عنه أمر بالغ الصعوبة فهو الذى عَلم أجيال متعاقبة كيف تُكتب التراجم فهل لنا أن نلملم تفاصيله الكثيرة واهتمامته المتعددة وكل ما أحاط بها من ظروف اجتماعية وسياسية جعلت منه أحد ” أسطوات ” الصحافة فى زمن العمالقة وفخر مؤرخى جيله – كما وصفه زميله الدكتور رفعت السعيد – ومشاركا بفاعليه فى كل معارك الوطن بداية من التظاهر ضد الإهمال الذى تسبب فى حريق القاهرة 1952 مرورا بمشاركته فى مظاهرات 1968 للمطالبة بمحاسبة حقيقية لقادة سلاح الطيران والتى اعتبرها المتظاهرين أحكاما مخففة ووصولا لمشاركته فى مظاهرات الطلاب أعوام 1971-1972 وانتفاضة الخبز واحتجاجته الدائمة ضد التطبيع .هو النقابى الجسور والسياسى المنحازللبسطاء والفقراء  “ملح الأرض” هو الصحفى المشاغب والمثقف الموسوعي .

إننا فى حضرة صلاح عيسى حكاية من دفتر الوطن بكل ما فيه من سحر وجمال وبكل ما به من جراح وآلام …..

فهل لنا أن نلملم فى سطور مقامه الرفيع وعطائه المتعدد وقيمته الثمينة فى ثقافتنا المعاصرة ؟ فقد علينا أن نحاول الإقتراب من شخص غير عادى فى زمن لم يكن عاديا على الإطلاق .

زمن صلاح عيسى

فى قلب دلتا مصر وبعد شهر تقريبا من اندلاع الحرب العالمية الثناية ( 1939- 1945) كانت الأسرة على موعد مع طفلها الصغير عشية الرابع من أكتوبر1939

وفى قرية هادئة بدلتا مصر جاء المولاد “صلاح ” فى قرية بشلا التابعة لمركز ميت غمر بالدقهلية كان الأب الذى ينتمى لحزب الوفد – حزب الأغلبية الشعبية حينذاك – حرص على تعليم أبنائه و يوما بعد يوم كان الفتى الصغير يتجول فى طرقات القرية على صوت طائرات وصفارات الإنذار بغارة جديدة كان يقرأ ما يوفره والده له من كتب التى كان معظمها قصصا للأنبياء وفى المساء يروى لوالدته ما قرأ من أحاديث الأولين

فى عام 1946 بعد أن وضعت الحرب أوزارها ولم تحصل مصر على استقلالها بعد ولم يف الإنجليز بوعدهم انتقل “صلاح ” إلى القاهرة حيث المركزية التى شغلته كثيرا . عرف خلالها حياة مختلفة بالمدينة الساحرة ليدخل فى طاحونتها التى لا تتوقف و فى عام 1961 حصل على بكالوريوس في الخدمة الاجتماعية وجاب عددا من القرى المصرية رئيسا لعدد من الوحدات الاجتماعية .

تشكل وعي “صلاح ” الفكرى على عدة مراحل حتى وجد ضالته فى الاشتراكية العلمية لكن المدخل الحقيقى للارتباط بهذا المنهج العلمى كانت الثقافة والأدب

التأريخ والصحافة

فهو القاص الموهوب الذى جرفته أمواج الصحافة وخطفته نداهة التاريخ ليغوص فى تفاصيل حياة الناس – العادية – ويبحث عن بطولاتهم وأوجعاهم ويفتش فى أوراق هزائمهم الكبرى وأحلامهم الصغيرة وانتصاراتهم المحدودة .

فى عام 1962 قرر “المشاغب ” التفرغ للصحافة والسباحة فى التاريخ مستلهما نموذج ” الجبرتى” مستعينًا بأدوات التحليل الاجتماعى والاقتصادى فى تفسير الظواهر التاريخية – تلك المدرسة التى عرفت بين المؤرخين بالمنهج “الاشتراكي العلمى ” فى كتابة التاريخ – .

كانت مصر على موعد مع ميلاد مؤرخ استثنائى 1972 عندما قدم دراسته المهمة حول الثورة العرابية تلك التى كشفت عن تفاصيل غير معتاده فى البحث التاريخى وأعادت للزعيم “أحمد عرابى ” قدر كبير من مكانته التى تأثرت بتجنى البعض عليها  وتشويه صورته خلال العصر الملكى

وكان “صلاح ” قد تفرغ للعمل بالصحافة والتحق بجريدة الجمهورية في نفس العام وفى 1973 خاض تجربة شديدة الغرابة عندما تجول على دورات المياه العمومية فى عاصمة المعز ليسجل العبارات التى يكتبها المصريون على جدرانها ويرصدها بالتحليل فى محاولة لتفسير موقفهم الحياتى ورؤاهم السياسية بجرأة شديدة لأنها خلت من توقيع أصحابها فسمحت لهم أن يكتبوا دون رقابة عن كل شئ وتمثل تلك التجربة الرائدة والملهمة لكثير من الصحفيين

https://www.youtube.com/watch?v=Zqq7_pNuMtE

جبرتي مصر المعاصر

فى عام 1974 قدم “عيسى ” إحدى دُرره حين صدرت الطبعة الأولى من “حكايات من دفتر الوطن ” ذلك التاريخ الموزاي الذى يحتل فيه المواطن العادى صدارة الصورة ويسبح الكاتب بلغة أدبية ساحرة أشبه بعوالم القصة القصيرة

سبح فى بحار الحياة اليومية للمصريين متكأً على ثقافة رفيعة وإلمام بالغ الدقة بالمحيط الاجتماعى والسياسى للأحداث فقد أعاد هذا الكتاب اكشتاف معنى الوطن لدى أجيال متعاقبة وكان ومازال محطة مهمة من محطات تشكيل الوعي لدى القراء الذين كانوا يتلقفون نسخه بشغف لا حدود له .وقد أعاد تقديم الكتاب بعد أضافة عدد من الفصول ضمن سلسة كتاب ” الأهالى ” عام 1992

وتوالت كتابات “عيسى ” فى التاريخ المصرى لينحت لنفسه مدرسة شديدة التمايز فى التأريخ وقدرة فائقة على الموضوعية والتجرد حين يكتب فى شخصياته ولعل دراسته ” محاكمة فؤاد سراج الدين باشا” التى صدرت 1983 والتى حقق خلالها بالتحليل مسيرة الزعيم الوفدى الكبير .

ظل “صلاح “مفوتنا مُولعا بالتاريخ وتفاصيله وهذا ما أثر بشكل كبير على عمله الصحفي فصار يحول الخبر من مجرد حدث يتناوله الناس بشكل مجرد إلى قصة تحمل دلالات عديدة ومتشعبة وقدم فى بحثه التوثيقي عن “رجال ريا وسكينة .. سيرة اجتماعية وسياسية “دراسة توثيقية عن مصر فى تلك المرحلة ولم يتوقف الأمر عند تناول تفاصيل جريمة شغلت الراى العام كما أنه عندما تناول مسيرة وتجربة الشاعر “أحمد فؤاد نجم ” من خلال كتاب “شاعر تكدير الأمن العام – الملفات القضائية للشاعر ” والتى قدم من خلال محاضر التحقيق مع “نجم ” تحليل بديع وشديد العمق عن تجربة الشاعر النضالية وكافة الظروف المحيطة به

كل ذلك يكتبه “صلاح ” برشاقة القاص وتدفق المبدع فقد ألقت تجربته القصصية بظلالها على لغته وكان قد كتب عدة قصص قصيرة بعد تجربته الروائية الأولى “أحزان شارع القمر” التي حاول كتابتها في السجن عام 1968م، لكنه كُشف وتم إحراقها على أيدي مسؤلى السجن .وخرجت هذه المجموعات القصصية للنور في كتابٍ واحد نشره عام 1992م اختار لها عنوانًا “بيان مُشترك ضد الزمن”

إذا كان التأريخ هو غواية المشاغب الكبرى فإن الصحافة هى النداهة التى سحرته بفتنها وظل راهبا فى محرابها حتى النفس الأخير فقد كان أكثر أبناء جيله – ذلك الجيل الإستثنائى – تمرداً على التقليدى والمعتاد وأقدرهم على التجديد والمغامرة ربما لأنه كان هكذا فى حياته لا فرق بين ما يحياه وما يكتبه فقد رفع دوما شعاره المفضل وهو عبارة الروائى “مكيم جوركي ” والتى تقول “جئت الدنيا لأعترض ” وظل محتفظا بلافته تحمل تلك العبارة يضعها بمكتبه أينما كان .

كما أنه اختار لمقاله فى صحيفة الأهالى عنوان “مشاغبات ” وظل العنوان يلازمه فى كل الصحف والمجلات التى شارك فى إصدارها أو كتب فيها مثل الكتاب، والثقافة الوطنية، واليسار، والصحفيون وأدب ونقد وغيرها حتى وصل إلى محطة جريدة القاهرة التى ترأس تحريرها حتى وفاته والتى كانت أكثر محطات عيسى إثارة للجدل ودفعت من وصفتهم “أمينة النقاش ” بجنرالات المقاهى إلى الهجوم عليه .

المشاغب مناضلا

ولم يات اختيار هذا العنوان من فراغ فهو المشاغب الذى دفع ثمن مشاغباته بالفصل من العمل والسجن لسنوات خلال فترة حكم كل من عبد الناصر والسادات

كان العام 1966 شاهدا على علاقة “عيسي ” بسجون الأنظمة حيث كتب دراسة بمناسبة مرور 14 عام على ثورة يوليو وكانت تحليل شامل لمسيرة يوليو بعنوان “الثورة بين المسير والمصير ” أثارت غضب عنيف لدي عبد الناصر نفسه

وقال عيسى أنه “حرص على أن تكون نظرته للثورة لبقة وفي جوٍّ واضح من الحرص على ثورة يوليو” ولم يحمه ذلك من الاعتقال لكن لحسن حظه أن مصر كانت على موعد مع زيارة ” جان بول سارتر ” و” سيمون دى بوفوار ” عام 1967 وكان سارتر قد اشترط الإفراج عن المعتقلين لقبول دعوة الحكومة المصرية للزيارة وبالفعل استجاب “عبد الناصر ” وتم الإفراج عن أعداد كثيرة من بينهم “صلاح عيسى ” الذى لم ينعم بحريته مدة طويلة حيث عاد إلى السجن فى 1968 على خلفية مشاركته فى مظاهرات نفس العام للمطالبة بإعادة محاكمة قادة سلاح الطيران وبالفعل استجابت الدولة لطلبات المتظاهرين وأعادت محاكمة ضباط الطيران وأفرجت عن عدد من المتظاهرين ليس من بينهم صلاح عيسى، وعندما حاول خالد محيي الدين التوسّط لصلاح عند عبد الناصر أقسم ناصر غاضبًا: “طول ما أنا عايش مش هيطلع من السجن “وعندما كرّر الزعيم الفلسطيني نايف حواتمه رئيس الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين الطلب على عبد الناصر أتاه الرد نفسه .

وكان ما أكده ناصر وفى عام ولم يخرج عيسى من سجن طُرة إلا عام 1971م ولم يتوقف عن الكتابة داخل السجن مستخدمًا مكتبًا مصنوعًا من الأقفاص ثم منضدة من صفيح ومستعينًا بدعم «رفاق الزنزانة» له عبر إعفائه من واجبات الكنس وتنظيف دورة المياه كي يتفرغ للإبداع، فنشر 15 مقالاً في جريدة المساء التى كان يرأسها “خالد محي الدين ” واستخدم “عيسى “اسما مستعار كما وضع اللبنات الأولى لكتابه التاريخي الأول الثورة العرابية .

وظل “عيسى “خلال حكم السادات ضيفا دائما على السجون حيث تم اعتقاله فى سنوات 1972، 1975، 1977، 1979، 1981 وكانت أغرب التهم التى وجهت إليه فى تلك الحقبة هى تهمة “العداء لإسرائيل ” وذلك على خلفيه وقوفه أمام جناحً إسرائيل في معرض القاهرة الثالث عشر للكتاب وهو يُعلِّق على صدره علم فلسطين

كان عيسى نقابى شديد الصلابة يدرك أوجاع الصحفيين لأنه عانى الفصل من عمله بسبب مواقفه وعرف قسوة السجون والتضييق الأمني على آرائه لذلك كان نموذجا للنقابى البارع المدافع عن حرية المهنة واستقلالها

وشغل وكيل نقابة الصحفيين فى مرحلة من أصعب مراحلها ونائب رئيس المجلس الأعلى للصحافة عقب ثورة يناير 2011

فى صحيفة الجمهورية تعرف على رفيقة الدرب وحُبه الكبير الكاتبة “أمينة النقاش ” وتزوجا بعد صعوبات وتحفظات من رجاء النقاش الذى استجاب لإصرارهما ووافق على إتمام الزواج فى 1977 .

فى 25 ديسمبر 2017 رحل “المشاغب” .. رحل جبرتيى مصر .. والمناضل اليساري المثقف الموسوعي ..

رحل بعد أن أرهقته المعارك ولوعه حب الوطن فآن لقبله المتعب أن يسترح  . تاركا أكثر من 20 كتابا من أهم ما كتب خلال النصف قرن الأخير ومن بينها “مثقفون وعكسر ” و”تباريح جريح ” و” دستور فى صندوق القمامة ” و”شخصيات لها العجب ” و”هوامش المقريزى ” ومئات المقالات فى مختلف الصحف العربية ومازال له تحت الطبع عدد من الكتب تعكف زوجته على تحريرها وطرحها تباعا .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock