ذاعت أنباء الحركة العرابية في أوروبا بعد سقوط وزراة رياض باشا وتأليف حكومة جديدة برئاسة شريف باشا، واختلفت أراء الساسة الأوربيين في تقديرها، فرأى زعماء الحركة أن يصدروا بيانا رسميا يعلنون فيه خلاصة مقاصدهم ومبادئهم، على أن يرسلوه إلى صديقهم المستشرق الإنجليزي مستر ألفريد سكاون بلنت ليتولى نشره في صحافة أوروبا.
أرسل مستر بلنت بيان زعماء الحركة العرابية الذي سُمي بـ «برنامج الحزب الوطني» إلى جريدة التايمز الإنجليزية، ونُشر في الأول من يناير عام 1882، بتوقيعقادة الحزب الوطني، ومنهم الشيخ محمد عبده ومحمود باشا البارودي وأحمد عرابي باشا.
اعترف برنامج الحزب الوطني بتبعية الدولة المصرية للخلافة العثمانية «يعترف الحزب الوطني بالسلطان عبد الحميد كمتبوع وإمام الملسلمين ولا يريد تبديل هذه الصلات والروابط مادامت الدولة العلية في الوجود».وشرط رجال «الوطني» هذا الخضوع بـ«العزم الأكيد على عدم عودة الاستبداد والأحكام الظالمة التي أورثت مصر الذل وبالإلحاج على تنفيذ الحضرة الخديوية ما وعدت به من تأسيس حكم نيابي واحترام حقوق الأمة».
برنامج الحزب الوطني
أقر رجال الحزب بأهمية العلاقات الودية مع فرنسا وإنجلترا، وباستمرار المراقبة الأوربية كضرورة اقتضتها الحالة المالية لمصر، وأعلنوا صراحة تحمل الحكومة المصرية لأعباء الديون الأجنبية «حرصا على شرف الأمة، علما بأن تلك الأموال لم تُقترض لصالح مصر بل أنفقت في مصلحة حاكم ظالم كان لا يُسأل عما يفعل».
وأكد رجال الحزب الوطني أن حزبهم حزب سياسي لا ديني فأنه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب، «لأن تسعة أعشار المصريين من المسلمين وجميع النصارى واليهود وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها مدعوون للانضمام إليه، حزبنا لا ينظر إلى اختلاف المعتقدات، ويعلم أن الجميع إخوان وأن حقوقهم في السياسة والشرائع متساوية».
وأكدوا أن آمال الحزب معقودة على إصلاح البلاد ماديا وأدبيا، «لا يكون ذلك إلا بحفظ الشرائع والقوانين وتوسيع نطاق المعارف، وإطلاق الحريات السياسية التي هيحياة للأمة، ويعتقد المصريون أن دول أوروبا التي تمتعت ببركة الحرية والاستقلال ستدعم تمتعهم بهذه البركة، وهم يعلمون أنه لم تنل أمة من الأمم حريتها إلا بالجد والكد، فهم ثابتون على عزمهم آملون في تقدمهم، واثقون بجانب الله تعالى إذا تخلى عنهم من يساعدهم».
إنجازت حكومة شريف
وجه شريف باشا بعد تأليفه الوزارة عنايته إلى إصلاح الإدارة فأرسل إلى المديرين والمحافظين في 26 سبتمبر سنة 1881، منشورا بالقواعد الأساسية التي يجب أن يسيروا عليها، يتضمن حثهم على الاستقامة وإقرار العدل بين الناس وحسن القيام على حفظ الأمن، وينبههم فيه على مبدأ من أهم المبادئ في النظم الحكومية وهو الفصل بين السلطة الإدراية والسلطة القضائية.
عنت وزارة شريف برفع المظالم عن الناس، وإطلاق سراح المسجونين وإعادة المبعدين، وأصدرت مجموعة من القوانين التي تعمل على إصلاح شئون الجيش، وصدرت بهذه القوانين مراسيم خديوية، ترمي إلى تحسين حالة الضباط والجنود وكفالة حقوقهم في الترقيات والمرتبات والمعاش، كما صدر مرسوم بتأسيس المدارس الحربية.
ولتعهده بإصلاح القضاء أصدر شريف باشا عدد من القوانين، لترتيب المحاكم الأهلية وتحديد اختصاصات القضاة، وكان أهم ما جاء في قوانين إصلاح شئون القضاء المادة التي تنص على عدم جواز عزل قضاة المحاكم
وكان من أهم منجزات حكومة شريف، استصدر الأمر العالي بإجراء التعداد العام لسكان القطر المصري، وحُدد لهذا الإحصاء يوم 3 مايو سنة 1882، وصدر منشور بطريقة إجرائه، وكانت النتيجة التي ظهرت بعد ذلك أن سكان مصر (عدا السودان) بلغوا يوم 3 ماوي سنة 1882 ( 6.806.381 نسمة)، وهو أول إحصاء دقيق للسكان بعد محاولات متعددة أجريت منذ الحملة الفرنسية.
وفي ملف التعليم أدخل شريف باشا عناصر جديدة من كبار الموظفين الوطنيين في مجلس المعارف، وعمل على تحسين دخول المدرسيين واقترح تأسيس مجلس أعلى للمعارف، كما أجرى إصلاحات على الميزاينة، وخصص اعتمادات للأشغال والسكك الحديدية والتعليم.
تقييد حرية الصحافة
ورغم إنجازات حكومة شريف التي أوردها المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي»، إلا أن الرافعي تحدث عن نقيصة كبرى لحكومة شريف عندما أصدرت قانون المطبوعات التي مكنها من إغلاق الصحف وإنذارها.
كانت لهجة الصحف المتأثرة بانتصار الثورة العرابية قد علت، فوجهت حملاتها إلى الأجانب، فأصدرت إدارة المطبوعات إنذارا رسميا إلى الصحف تطلب منها أن تلزم حدود الاعتدال في كتباتها، استبقاءً للعلاقات الودية بين مصر والدول الأجنبية.
لم تستجب بعض الصحف للإنذار الحكومي، فصدر قرار بإلغاء جريدة «الحجاز» لصاحبها السيد إبراهيم سراج المدني، وإلغاء جريدة «ليجبيت» التي تصدر باللغة الفرنسية بعد أن نشرت مقالا فيه تعريض بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام.
ويرى عبد الرحمن الرافعي إن قانون المطبوعات الذي أصدرته حكومة شريف في 26 نوفمبر سنة1881 مقيد لحرية الصحافة، «لا ندري ما الباعث على صدوره، ومن الذي أوعز بوضعه، وهل كانت الحكومة وقتئذ تخشى إطلاق حرية الصحف فوضعت لها هذا القانون».
ويوكد الرافعي أن إصدار هذا القانون الذي ضاعف القيود على الصحف وضع حكومة شريف موضع النقد، ونال هذا النقد من الإمام محمد عبده الذي عُين رئيسا لقلم المطبوعات العربية والتركية.
إبعاد عرابي وحلمي عن العاصمة
ولتخفيف ضغط العسكريين على الوزراة، وتحقيق مبدأ إبعاد الجيش عن السياسة جهد المستطاع، أقنع شريف باشا عرابي وصحبه بأن مصلحة البلاد تقتضي إبعاد الآلايات التي يتولون قيادتها عن العاصمة حتى تهدأ الخواطر.
استقر رأي وزارة الحربية على نقل آلاي عبد العال باشا حلمي إلى دمياط، وآلاي أحمد عرابي باشا إلى رأس الوادي بالشرقية، ويقول عرابي في مذكراته أنهم قبلوا بذلك على شرط صدور الأمر الخديوي بانتخاب النواب لكي يطمئن على إنشاء المجلس النيابي، وبالفعل صدر الأمر المذكور في 4 أكتوبر سنة 1881.
غادرت قوات حلمي وعرابي في مشهد احتفالي حضره وزير الحربية محمود سامي البارودي، وألقى خطيب الثورة السيد عبد الله نديم خطابا موجها إلى الضباط والجنود تضمن الثناء على الجيش ورجاله لما قاموا به من «دك صرح الظلم والاسبتداد وإحياء روح العدال والحرية ونشر الإخاء والمساواة والاتحاد».
قال عرابي في حفل وداعه: «سادتي وإخواني: بكم ولكم قمنا وطلنا الحرية وقطعنا غرس الاستبداد، لن ننثني عن عزمنا حتى نُحي البلاد وأهلها، وما قصدنا بسعينا إفسادا ولا تدميرا، ولكن لما رأينا أننا بتنا في إذلال واستبعاد ولا يتمتع في بلادنا إلا الغرباء.. فقد حركتنا الغيرة الوطنية والحمية العربية إلى حفظ البلاد وتحريرها والمطالبة بحقوق الأمة».
بقى عرابي في الشرقية، وهي مسقط رأسه وفيها أهله وعشيرته ثلاثة أشهر ينتقل في الجهات ويستقبل الوفود، أوجست الحكومة خيفة من ابتعاده عن العاصة وتركه يجمع حوله الاتباع والأنصار بعيدا عن رقابتها، فاقترح البارودي باشا تعيينه وكيلا لوزراة الحربية، فصدر الأمر العالي بذلك في 4 يناير عام 1882، وعاد إلى العاصمة واستقر بها وتوطدت الثقة بينه وبين البارودي، وصارت داره كعبة لطلاب الحاجات وذوي الشكايات، وتردد عليه مراسلو الصحف الأوربية وبعض السياسين الإنجليز ليأخذوا عنه الأحاديث.
كان نحو 1600 من وجهاء البلاد وأعيانها قد تقدموا بعريضة إلى حكومة شريف باشا تطالب بتأسيس مجلس نواب له من السلطة مثل ما للمجالس النيابية في أوروبا.
وتعد تلك العريضة من الوثائق المهمة في تاريخ مصر الدستوري، إذا شبهها الرافعي في أهميتها باللائحة الوطنية التي قُدمت إلى الخديوي إسماعيل من كبراء البلاد وأعيانها لتوسيع سلطة مجلس شورى النواب.
تأسيس مجلس النواب
في 4 أكتوبر سنة 1881 رفع شريف باشا إلى الخديوي تقريرا بإجابة مطالب الأمة بتأسيس مجلس نيابي له صلاحيات واسعة، ضمنه مزايا النظام الدستوري وضرورة إقراره في مصر، وطلب تمهيدا لتأليف المجلس الجديد إجراء انتخابات عامة طبقا للائحة مجلس شورى النواب القديم على أن تعرض الوزراة على المجلس المنتخب مشروع اللائحة الأساسية التي تكفل نهوضه إلى مستوى المجالس النيابية الصحيحية، «بعبارة أخرى أنه دعا إلى انتخاب مجلس شورى نواب على أن يكون جميعة تأسيسية تضع الدستور الجديد»، يقول الرافعي.
وفي نفس اليوم الذي رفع فيه شريف باشا تقريره إلى الخديوي صدر الأمر العالي بإجراء الانتخابات العامة على أن يفتتح المجلس أعماله في 23 ديسمبر من عام 1881.
أجريت الانتخابات في أجواء من الحرية، وحرص شريف باشا على أن تجرى بعيدة عن التدخل الحكومي، وأصدر منشورا بذلك إلى جميع المديريات والمحافظات نبه فيه على المديرين والمحافظين بترك الانتخابات حرة، وهو أول منشور انتخابي في تاريخ مصر الحديث يقضي باحترام حرية الانتخابات العامة.
تشكل مجلس النواب من 75 عضوا يمثلون المديريات المختلفة، وأصدر الخديوي أمرا بتعيين محمد باشا سلطان رئيسا للمجلس، وعبد الله باشا فكري كبيرا لكتاب المجلس وأديب أسحق كاتبا ثانيا.
افتتح مجلس النواب في 26 ديسمبر من عام 1881، في قاعة ديوان وزارة الأشغال، حضر الخديوي توفيق جلسة الافتتاح مصطبحا معه رئيس الوزراء شريف باشا وأحمد خيري باشا المهردار رئيس الديوان وطلعت باشا كاتب الديوان الخديوي، واستقبل الخديوي وزراء الحكومة ورئيس مجلس النواب وبعض أعضائه.
افتتح المجلس بتلاوة خطبة العرش، وهي أول خطبة لولي أمر في افتتاح مجلس نيابي كامل السلطة في تاريخ مصر، وقد تلاها توفيق بنفسه، أبدى فيه سعادته بانعقاد المجلس، ودعاه إلى مساندة الحكومة في إصلاح أحوال البلاد، وأعلن انضمامه إلى الأمة في إقرار النظام الدستوري.
بعد رحيل الخديوي، ألقى سلطان باشا رئيس المجلس خطبة دعا فيها الأعضاء إلى الحكمة والاعتدال والثبات، وإصلاح شئون الوطني والعمل على تنظيم أموره، وطالبهم بمراعاة الحفاظ على ذمم الرعاية، والحفاظ على علاقةمصر بالدولة العلية، والمواثيق والعلاقات مع الدول الأجنبية.
تلت خطبة سلطان باشا خطبة سليمان باشا أباظة نائب الشرقية، وتضمنت ترحيبا بالمجلس والخديوي، وتعهدا منهومن زملائه بأداء واجباتهم نحو الوطن والرعية.
وفي ذات اليوم انتخب المجلس من بين أعضائه لجنة عهد إليها بتحضير جواب على خطاب العرش وتقديمه إلى الخديوي، تألفت اللجنة من عشرة نواب، وهم أحمد بك الشريف وعبد السلام بك المويلحي، ومحمد بك الشواربي، وأمين بك الشمسي، وهلال بك منير، ومحمود بك سليمان وأحمد بك علي، ومراد أفندي السعودي، وإسماعيل أفندي سليمان وعلى بك شعير.
أعدت اللجنة الجواب وعرضته على المجلس فأقره، وذهب به سلطان باشا رئيس المجلس ومعه عبد الله باشا فكري كبير الكتاب وأعضاء اللجنة العشرة إلى سراي الإسماعيلية بملابسهم الرسمية، فقابلهم الخديوي بحضور أعضاء الحكومة، وتلا محمود بك سليمان الجواب الذي تضمن عبارات الشكر والثناء للخديوي توفيق على الاستجابة لمطالب الأمة بتشكيل مجلس نيابي، والتعهد بدعم الحكومة ما دامت تعمل على مسائل الرعية، والحفاظ على روابط التبعية للذات السنية السلطانية والدولة العلية العثمانية، والتأكيد على العلاقات الودية مع الدول الأجنبية.
وانتخب المجلس في يوم افتتاحه لجانا «أقلاما» وأسفرت عن انتخاب عبد السلام بك المويلحي لرئاسة لجنة المدن، وأمين بك الشمسي لرئاسة اللجنة الشرقية، ومحمد بك المنشاوي للجنة الغربية، وإسماعيل أفندي سليمان للجنة الأقاليم الوسطى، ومحمود بك سليمان للجنة قبلي.
دستور لم يكتمل
وقرر المجلس في جلسة 29 ديسمبر العمل على اللائحة الأساسية القديمة التي انتخب على أساسها، إلى أن تقر اللائحة الجديدة «الدستور»، وانتخب المجلس لجنة لمناقشة مشروع دستور جديد للبلاد ستقدمه حكومة شريف لاحقا.
اشتغلت حكومة شريف على وضع الدستور، الذي عرف اصطلاحا في ذلك العصر بـ«اللائحة الأساسية» أو «القانون الأساسي»، وقد وُضع على أحدث المبادئ العصرية إذ يتضمن القواعد الرئيسية للنظم البرلمانية، كتقرير مبدأ المسئولية الوزراية أمام مجلس النواب، وتخويل المجلس حق إقرار القوانين، وتقرير الميزاينة، والرقابة على أعمال الحكومة وموظفيها، وإلزامها بعدم فرض أي ضريبة أو إصدار أي قانون أو لائحة إلا بعد تصديق المجلس. وأخذ المشروع بنظرية الهيئة النيابية الواحدة فجعلها ممثلة في ممجلس النواب دون وجود مجلس للشيوخ.
ولما اتمت لجنة الدستور مشروعها عُرض على مجلس النواب لمناقشته وإقراره، أي أن مجلس النواب كان بمثابة جمعية تأسيسة لوضع الدستور.
وفي 7 يناير حضر شريف باشا إلى مجلس النواب، وعرض على المجلس مشروع الدستور، وألقى خطبة ذكر فيها خلاصة ما احتواه المشروع من قواعد، وألمح إلى أنه بوضع هذا الدستور إنما ينفذ الخطة التي رآها من ثلاث سنوات عندما كان رئيسا للوزراء في عهد إسماعيل.
أُحيل مشروع الدستور الذي سلمه شريف إلى اللجنة الدستورية التي سبق انتخابها، فأخذت تناقش مواده في اجتماعات متتالية، ولما أتمت مهمتها قدم سلطان باشا رئيس مجلس النواب إلى شريف باشا عددا من الملاحظات على المشروع، وكاد الأمر يتم بالاتفاق بين الحكومة والمجلس على نصوص الدستور لولا الأزمة السياسية التي نتجت عن تدخل فرنسا وإنجلتر في وضع الدستور وانتهت بسقوط حكومة شريف.
في الحلقة المقبلة نعرض أسباب اعتراض فرنسا وإنجلترا على الدستور الجديد، وموقف حكومة شريف التي أعلنت استقالتها احتجاجا على التدخل الأجنبي، وتكليف محمود سامي باشا البارودي بتشكيل حكومة جديدة.
…………………………………………………………………………….
المراجع:
«الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي» – عبد الرحمن الرافعي
«أحمد عرابي الزعيم المُفْتَرَى عليه» – محمود الخفيف
«التاريخ السرى لاحتلال إنجلترا مصر» – المستشرف الإنجليزي مستر ألفريد سكاون بلنت