رؤى

كيف هزمت أيسلندا فيروس كورونا؟! (1)

عرض وترجمة: أحمد بركات
في صباح يوم الجمعة 28 فبراير، استدعى رئيس قسم شرطة ريكافيك المحقق إيفار بالمي بالماسون. في هذا الوقت لم يكن في أيسلندا حالة كوفيد – 19 واحدة مؤكدة، لكن “شعبة الحماية المدنية وإدارة الطوارئ” أرادت أن تكون على أهبة الاستعداد. “لنفترض أن تحاليل شخص ما جاءت إيجابية سنكون بحاجة إلى فريق لتعقب كل من اتصل به هذا الشخص”، كما أخبر رئيس قسم الشرطة بالماسون، مضيفا: “ستكون رئيسا لهذا الفريق”.

“كنا فقط نتحدث: ’إذا حدثت أول حالة – ربما تكون هذا الأسبوع، لا أحد يعرف”، كما يتذكر بالماسون. “ولم تمر سوى ساعتين حتى تلقينا المكالمة المرتقبة”. لقد بات الرجل الذي كان يتزلج مؤخرا على الجليد في جبال الدولوميت أول حالة كوفيد – 19 في أيسلندا.

تم تعيين ضابطين آخرين وممرضتين واختصاصي في علم الجريمة في فريق بالماسون. “من خلال تقنيات التحري المتوافرة لدينا للعثور على الأشخاص، بدأنا جمع بعض المعلومات من المريض”، كما أخبرني بالماسون. كان الرجل قد عاد إلى أيسلندا قبل عدة أيام من تشخيص حالته. في هذه الأثناء، كان قد قام بجميع الأشياء التي يقوم بها الناس في الأوضاع الطبيعية، فقد ذهب إلى عمله، وقابل زملاءه، وقام ببعض المهام الخاصة.

كورونا في أيسلندا

تم اعتبار كل من قضى أكثر من 15 دقيقة بالقرب من الرجل في الأيام السابقة على ظهور الأعراض الأولية عليه مصابا محتملا (تم تعريف “بالقرب” على أنها: ’داخل دائرة نصف قطرها مترين، أو ما يزيد قليلا عن ستة أقدام‘). وخرج الفريق بقائمة ضمت 56 اسما. وبحلول منتصف الليل، تم تحديد أماكنهم جميعا، وأمروا بعزل أنفسهم لمدة 14 يوما.

تبع الحالة الأولى ثلاث حالات أخرى، ثم ست حالات، ثم توالت الأعداد. وبحلول منتصف مارس، كانت حالات كوفيد – 19 المؤكدة تتزايد بمعدل 60، و70، بل و100 حالة في اليوم الواحد. بالنسبة إلى عدد سكان أيسلندا، كان هذا المعدل أسرع من نظيره في الولايات المتحدة. وكانت أعداد الأشخاص التي يقوم فريق التحقيق بتتبعها في هذه الأثناء ترتفع بوتيرة أكثر تسارعا. فالشخص المصاب بالفيروس ربما كان “قريبا” من 5 آخرين، وربما 56، وربما أكثر. كانت إحدى الشابات نشيطة بشكل لافت قبل أن تظهر نتيجة اختبارها الإيجابية – حيث كانت تذهب لتعلم أشياء مختلفة، وتتدرب على مسرحية، وتحضر تدريبات فريق الكورال، إلى درجة أن قائمة معارفها الذين اتصلت بهم ضمت حوالي 200 شخص، تم إرسالهم جميعا إلى الحجر الصحي.

ضم فريق البحث أيضا مزيدا من الأعضاء حتى بلغ 52 عضوا عملوا جميعا بالتناوب من غرف اجتماعات في أحد فنادق ريكافيك الذي كان قد أغلق بسبب عدم وجود سياح. وللعثور على الأشخاص الذين تعرضوا للإصابة، قام فريق البحث بمسح بيانات الطائرات ولقطات الكاميرات الأمنية. وحاولوا تحديد من كان يجلس بجوار من في الحافلات وقاعات المحاضرات. كان أحد الرجال الذين أصيبوا بالمرض قد حضر مؤخرا حفلا موسيقيا. وكان الشخص الوحيد الذي يذكر أنه تواصل معه عندما كان هناك هو زوجته. لكن فريق البحث قام ببعض التحريات، ووجد أن الرجل أقام حفل استقبال في بيته بعد الحفل الموسيقي.

“في هذا التجمع، تعانق المحتفلون، وأكلوا معا من نفس الصواني”، كما أخبرني بالماسون. “ومن ثم جاء القرار بدخول الجميع إلى الحجر الصحي”. إذا كنت عائدا إلى أيسلندا من الخارج، فقد تلقيت بلا شك مكالمة قيل لك فيها: “ضع نفسك في الحجر الصحي”. في الوقت نفسه، كان الجميع داخل أيسلندا يجرون اختبارات للكشف عن الفيروس بأعلى معدل في العالم في ذلك الوقت.

كورونا في أيسلندا

لم تفرض أيسلندا إغلاقا على الإطلاق، باستثناء بعض أنواع الأعمال القليلة، مثل النوادي الليلية وصالونات قص الشعر. ولم يرتد أحد في ريكافيك قناع الوجه. وبرغم ذلك، في منتصف مايو، عندما ذهبت للحديث إلى بالماسون، لم يكن فريق البحث ترك فردا واحدا دون أن يتعقبه. وفي الأسبوع السابق، لم يظهر في جميع أنحاء أيسلندا أي إصابات مؤكدة بفيروس كورونا سوى حالتين. إن أيسلندا لم تتمكن من معالجة المرض فحسب، وإنما – في واقع الأمر – من استئصاله.

كنت قد خططت للذهاب إلى أيسلندا في مارس من أجل موضوع لا علاقة له بفيروس كورونا. وفجأة، أُلغيت الرحلة، بعد أن حظر الاتحاد الأوربي دخول الأمريكيين، وحظرت الولايات المتحدة دخول الأوربيين؛ ومن ثم قررت أن أكتب عن تعامل ايسلندا مع كوفيد – 19.

بحثت على الإنترنت، وعلمت أنه يتعين على جميع القادمين إلى أيسلندا تعبئة استمارة يعرضون فيها بإيجاز خططهم لقضاء فترة الحجر الصحي لمدة أسبوعين. فتقدمت بطلب إلى وزارة الخارجية للحصول على استثناء كصاحفية، لكنه قوبل بالرفض.

أرسلت بعض رسائل البريد الإلكتروني وأجريت بعض المكالمات الهاتفية؛ فأيسلندا التي يبلغ عدد سكانها 365 ألف نسمة – أي ما يعادل نصف سكان دنفر- تمثل في نهاية المطاف شبكة وثيقة الترابط. وإذا أراد شخصان أن يعرفا كيف تتشابك عائلاتهما فبإمكانهما ببساطة الرجوع إلى قاعدة بيانات الأنساب التي تديرها شركة تكنولوجيا حيوية أيسلندية تسمى “ديكود جينيتكس” (deCODEGenetics).

استطاعت أيسلندا أن تختبر الغالبية الغالبة من سكانها لأن شركة deCode ساهمت بتحويل منشآتها وإمكاناتها المتطورة في وقت الذروة لخدمة إجراء الفحوص من أجل اكتشاف الفيروس. وقد قمت بالاتصال برئيس الشركة، كاري ستيفانسون، وهو طبيب أعصاب شهير وشخصية وطنية مرموقة. وقال لي إنه سيحاول إيجاد حل لمشكلة دخولي إلى البلاد.

وبعد أيام قليلة، وافقت وزارة الخارجية على قدومي إلى أيسلندا بشروط صحية تبلغ حد التعقيد. وفي اليوم التالي لوصولي قابلت ستيفانسون، وأخبرني أنه قرر المشاركة في بحوث كوفيد – 19 بعد أيام قليلة من الإعلان عن الحالة الأولى في أيسلندا. آنذاك، كان ستيفانسون يقود سيارته إلى مكتبه ذات صباح عندما سمع في الراديو تقديرات عن معدل الوفيات الذي يسببه الفيروس. “لقد توقعوا موت 3.4% من المصابين. في الحقيقة، لم أستطع فهم طريقتهم في حساب معدل الوفيات، دون معرفة توزيع الفيروس في المجتمع. لذلك، عندما وصلت إلى مقر عملي، جلست إلى زملائي، وأخبرتهم بأننا يجب أن نقوم بفحص عامة سكان أيسلندا”.

في هذه الأثناء، كانت مستشفى جامعة أيسلندا تقوم فعليا باختبار من ظهرت عليهم أعراض كوفيد – 19. لكن، باختبار من لا يعانون من هذه الأعراض، أو يعانون منها بدرجات خفيفة، تمكنت شركة deCODE من وضع يديها على حالات كثيرة لم تكن لتكتشف بغير ذلك. وتم إحالة هذه الحالات أيضا إلى فريق البحث. وبحلول 17 مايو، كان 15.5% من سكان أيسلندا قد خضعوا لاختبارات كوفيد – 19، بينما لم يخضع من الأمريكيين سوى 3.4% فقط.

كورونا في أيسلندا

في غضون ذلك، كانت شركة deCODE قد أجرت تسلسلا للفيروس من كل أيسلندي جاءت نتيجة اختباراته إيجابية. ومع انتقاله من شخص لشخص، كان الفيروس يتطفر بشكل عشوائي. وبتحليل هذه الطفرات، تمكن علماء الوراثة من رسم خريطة لانتشار المرض.

في المراحل الأولى من تفشي المرض، بدا أن الأيسلنديين العائدين من جبال الألب في إيطاليا يشكلون المصدر الرئيس للعدوى. لكن الباحثون في deCODE وجدوا أنه بينما كان جل التركيز يتجه إلى إيطاليا، كان الفيروس يتسلل إلى أيسلندا من عدة دول أخرى، منها بريطانيا. كان المسافرون من الساحل الغربي قد جلبوا معهم سلالة واحدة، بينما جلب المسافرون من الساحل الشرقي سلالة أخرى. وكانت سلالة الساحل الشرقي قد وصلت إلى الولايات المتحدة من إيطاليا أو استراليا، ثم تم تصديرها مرة أخرى إلى أوربا.

وبإجراء تسلسل للفيروس من جميع المصابين بالعدوى، تمكن الباحثون في deCODE من التوصل إلى استنتاجات بشأن كيفية انتشار الفيروس. “أحد الأمور المثيرة للاهتمام هو أنه في جميع بياناتنا لا يوجد سوى حالتين فقط انتقلت فيهما العدوى من الطفل إلى أحد الوالدين، في مقابل حالات كثيرة اتخذ فيها الفيروس مسارا معاكسا”، كما أخبرني ستيفانسون.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إليزابيث كوليرت – كاتبة بمجلة The New Yorker، ومؤلفة كتاب The Sixth Extinction: An Unnatural History(الانقراض السادس: تاريخ غير طبيعي)، الحائز على “جائزة بوليتزر” في عام 2015

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock