رؤى

السلفيون والسياسة.. “ميكافيلية” الأداء والخطاب 

مثّلت الحالة السلفية إحدى أبرز الظواهر الاجتماعية والفكرية التي انتابها شيء من الغموض والتعقيد، خصوصًا مع تحوّلهم إلى فاعل رئيسيّ في معادلات الفعل السياسيّ والاجتماعيّ في مرحلة ما بعد الربيع العربيّ، وذلك في ضوء كمّ التحولات تارة والتناقضات تارة أخرة، التي تميّز بها التعاطي السلفيّ مع هذه المتغيرات، وهو ما جعل الكثيرين ينعتون هذا التعاطي وهذه الممارسات بالميكافيلية نسبة إلى الدبلوماسي والمفكر السياسي الإيطالي نيكولو مكيافيلي (1469- 1527 )، وهو مذهب يعرفه قاموس أوكسفورد على أنه نوع من “توظيف المكر والازدواجية والخداع في الممارسة السياسية”، وعادة ما يتم تلخيصها في العبارة الشهيرة “الغاية تبرر الوسيلة”.

جدير بالذكر أنّ الاتجاه السلفي عمومًا يشهدُ حالة من التعقيد والسّيولة في خرائطه التصنيفية بين سلفيات «تقليدية أو علمية، وجامية أو مدخلية، وجهادية، وحركية»، فهو لا يمثل كتلة واحدة أو اتجاه واحد، لكن يغلب على الاتجاه السلفيّ بمختلف مدارسه واتجاهاته وحدة دوائر الاعتقاد والمناهل المعرفية التي تنبني عليها التصورات الخاصّة بها، فضلًا عن اتفاق هذه المدارس المتنوعة تقريبًا في طريقة التعامل مع هذه المناهل حيث الجمود والانغلاق والنصوصية أو الحرفية، وهو ما يترتب عليه ما نراه من أفكار يغلب عليها التّشدد والماضوية.

وفي محاولتنا لرصد العلاقة بين السلفيين والفكرة الميكافيلية – خصوصًا فيما يتعلق بدوائر الفعل السياسيّ والاجتماعيّ ما بعد الربيع العربيّ- من خلال هذا المقال والمقال التالي، سوف نحاول التركيز على الاتجاه الذي يُطلق عليه “السلفية التقليدية أو العلمية” والذي يوجد بكثرة في دول شمال أفريقيا ويعبّر عنه نموذج الدعوة السلفية في مصر، وهو الاتجاه الذي ينتمي إليه دعاة سلفيون منهم ياسر برهامي، ومحمد حسان، وأبو إسحاق الحوينيّ، ومحمد حسين يعقوب وغيرهم، وهو التّيار الذي يُمثّل الاتجاه الوهابي مرجعًا رئيسيًا له.

محمد حسان ومحمد حسين يعقوب والحويني
محمد حسان ومحمد حسين يعقوب والحويني

أولًا: مفهوم الميكافيلية:

تُعدُّ الميكافيلية من أكثر المفاهيم السّياسية إثارة للجدل، وذلك في ضوء كونها تقوم على قاعدة “الغاية تبرر الوسيلة”، وهي القاعدة التي تراها قطاعات واسعة أنّها تتجاوز الاعتبارات القيمية والأخلاقية، وقد أصّل الكاتب والسياسيّ الإيطاليّ “نيكولا ميكافيلي” لهذه النّظرية أو المنهج السياسيّ من خلال كتابه “الأمير”، وهو الكتاب الذي تفاعل بشكل رئيسيّ مع القضايا والإشكالات المرتبطة بما يجب أن تكون عليه علاقة السياسيين بالمواطنين، ومصادر السلطة وحدودها، وعلاقات الدول ببعضها.

وقد اتّسم «ميكافيلي» بالوضوح الشديد في طرحه، حتى أصبح كلّ من ينشد القوة السياسية أو ترسيخ دعائم مشروعه السياسيّ بحاجة إلى مراجعة ما طرحه، وهو الأمر الذي ربّما يُفسّر حرص بعض الملوك والوزراء على دراسة الكتاب لعل أشهرهم  كريستينا ملكة السويد، وفريدريش الثاني ملك بروسيا، وبسمارك موحد ألمانيا.  ثم اتسعت قاعدة دارسي الكتاب في القرن العشرين؛ لتضمّ أشخاصًا مثل: «موسوليني» الذي اختاره كموضوع لأطروحته التي قدّمها للدكتوراة، و«هتلر» الذي قيل إنه كان يضع الكتاب على مقربة من سريره؛ ليقرأ منه كلّ ليلة قبل النوم، وقد أشار “ماكس لينز” الكاتب الصحفيّ الأمريكيّ في مقدمة كتابه “أحاديث” إلى أنّ «لينين» و«ستالين» نشآ على كتابات «ميكافيلي» خصوصًا “الأمير”.

وكما أشرنا، ترتبط الفكرة الميكافيلية بالقاعدة التي وضعها صاحب الكتاب “الغاية تبرر الوسيلة” حيث ذهب من خلال هذه القاعدة إلى أنّ الهدف السامي والكبير يُضفي المشروعيّة على جميع السّبل والآليات التي يمكن من خلالها تحقيق هذا الهدف، بغضّ النظر عن مدى أخلاقية هذه الوسيلة، فالأهمّ هو مدى ملائمة هذه الوسيلة وقدرتها على تحقيق هذا الهدف.

الأمير ميكيافيللي

ثانيًا: الميكافيلية والخطاب السلفيّ:

الميكافيلية -كما أشرنا- نظرية أو نهج سياسيّ ركيزته الأساسية تتمثل في “الغاية تبرر الوسيلة” أي أنّ القاعدة الحكمية الميكافيلية تُنحي جانبًا الاعتبارات الأخلاقية والقيمية لحساب النتائج العملية المبتغاة، حيث يمكن أن يصبح المحظور مباحًا إذا ما اقتضى تحقيق المصلحة أو الهدف المعين، وبالتالي يمكن القول: إن الميكافيلية بما تحمله من منطلقات تتعارض بالأصل مع ما تتبناه التيارات الإسلامية عمومًا، وفي القلب منها التّيار السلفيّ من أيديولوجيات ومبادئ دينية وأخلاقية؛ لوجود تناقض شديد وعلاقة عكسية بين الأيديولوجيا السياسية التي تحكم مسار الميكافيلية والتي في الغالب تقود نحو “اللا أخلاقية” وبين الثوابت القيمية الدينية والاجتماعية التي تُصدرها التّيارات السلفية عن نفسها والمستقاة من الشريعة الإسلامية.

في هذا السياق يجد المتابع للخطاب السلفيّ أنّ هذا الخطاب يتعاطى مع الفكرة الميكافيلية برفض شديد، مع نعت كافّة خصومه السياسيين أو الدينيين -من كافّة الاتجاهات- بـ “الميكافيلية” في محاولة للطعن في مصداقيتهم والتأكيد على عدم إيلائهم أي اهتمام للاعتبارات الأخلاقية والقيمية حسب الخطاب السلفيّ.

في مقال له على موقع «أنا السلفي» بعنوان “السياسة الميكافيلية … هل تأثر بها الإخوان وكيف يتجنبها حزب النور؟” ذهب القيادي السلفي «أحمد الشحات» إلى أنّ المنهج الميكافيلي في جملته منهج فاسد يساعد السّاسة الخائنين والفاسدين والمنافقين على الحفاظ على نفوذهم وسلطتهم، وأنّ هذا المنهج يبرز بشكل أكبر عند الدخول في أيّ معترك انتخابيّ، حيث انتشار الممارسات غير الشّريفة والاعتماد على الغشّ والخداع والتضليل والمال السياسيّ، وهو ما يحوّل الممارسة السّياسية من وسيلة للحفاظ على مقدرات الوطن وحفظ حقوق الضعفاء والمحتاجين، إلى وسيلة نهب وسرقة وهدم لدولة القانون.

أحمد الشحات
أحمد الشحات

ثم شرع الكاتب يتحدث عن تنظيم الإخوان المسلمين، وكيف أنّهم تأثروا بالمنهج الميكافيلي؟ وكيف لوّثتهم السياسة؟ وفي نهاية المقال تحدّث القيادي السلفيّ عن حزب النور وكيف أنّه حزب يخلق “نوعا جديدا من الممارسة السياسية” التي تقوم على مبادئ التشريع الإسلاميّ، والتي لا ترى تعارضًا بين أن يكون السياسيّ محترفًا وماهرًا وأن يكون خلوقًا ومنضبطًا.

وفي سياق متصل نجد أن “ياسر برهامي” نائب رئيس الدعوة السلفية، يذهب إلى أنّ مقولة “الغاية تبرر الوسيلة” ليست قاعدة وأنّها كلام ميكيافيلي، يخلو من أيّ ضوابط للوسائل ولمسألة الموازنة بين المصالح والمفاسد، كذلك الحال بالنسبة ل “عبدالمنعم الشحات” القيادي في الدعوة السلفية بالإسكندرية يوظف دائما مصطلح “الميكافيلية” في سياق حديثه عن خصوم الاتجاه السلفي الذين يتجاوزون اختلافاتهم وتناقضاتهم ويتحالفون لضرب الاتجاه السلفي، وهو تجسيد للمذهب الميكافيلي حسب زعمه.

ياسر برهامي
ياسر برهامي

إذا فالحاصل أن الاتجاه السلفي يتعامل – نظريا – مع الميكافيلية على كونها منهج فاسد يتعارض ومجموعة المبادئ التي يتبناها، وهو ما يحتم مع كم الجدل المثار فيما يتعلق بالممارسات والتحولات لسلفية خصوصا في مرحلة ما بعد الربيع العربي، أن نسلط الضوء على جانب من هذه الممارسات في ضوء المقولات والأفكار المؤسسة لهذا الاتجاه، لنستطيع تقدير ما إذا كان هنالك فجوة بين الخطاب والممارسة الفعلية من عدمه، وما إن كانت قاعدة “الغاية تبرر الوسيلة” عند ميكافيلي، تساوي توظيف قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات” عند السلفيين في سياق الفعل السياسي والاجتماعي لهم.

*باحث في العلوم السياسية

محمد فوزي

باحث في العلوم السياسية
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock