رؤى

السلفيون والسياسة.. “ميكافيلية” الأداء والخطاب (٢)

تحول السلفيون بعد انتفاضات الربيع العربي، إلى واحد من أهم وأكثر الفاعلين السياسيين والمجتمعيين إثارة للجدل، وذلك في ضوء التحولات التي عصفت بهذا الاتجاه، والتي نظرت إليها بعض الدوائر على أنها تتعارض حتى مع المقولات والأفكار الرئيسية المؤسسة للاتجاه السلفي، وهو ما جعل البعض ينعت هذا النهج بالميكافيلية، ولمحاولة الوقوف على طبيعة هذا الأمر، وتقدير الفارق بين الموقف السلفي “النظري” من الفكرة الميكافيلية والممارسات العملية، يجب تسليط الضوء على جانب من هذه الممارسات مع وضعها في إطار المقولات المؤسسة للاتجاه السلفي، لمعرفة ما إن كانت قاعدة “الغاية تبرر الوسيلة” عند ميكافيلي، تساوي توظيف قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات” عند السلفيين في سياق الفعل السياسي والاجتماعي لهم.

1-الموقف من الديمقراطية والمشاركة السياسية:

تقوم الرؤية السلفية التقليدية فيما يتعلق بمسألة التغيير والإصلاح على أنّ تصفية عقائد المجتمع وتربيته على “الإسلام الصحيح” سوف تؤدي على المدى البعيد إلى قيام دولة الإسلام وهي الرؤية التي يعبّر عنه مبدأ “التصفية والتربية” وهو المبدأ الذي بلوره وصاغه «محمد ناصر الدين الألبانيّ» زعيم التيار في الأردن، الذي انتقل بعد ذلك إلى السعودية، وكان يعرف هذه الرؤية على أنّها استراتيجية توجب على أهل العلم أن يتولوا تربية النشء المسلم الجديد في ضوء ما ثبت في الكتاب والسنة، وتصحيح المفاهيم الخاطئة السائدة في المجتمع.

الألباني
الألباني

وقد أشار في كتابه “التصفية والتربية وحاجة المسلمين إليها” أنّ هذه الرؤية تستهدف “أسلمة” الأفراد ثم المجموعات وأخيرًا المجتمعات، دون الاشتغال بالسياسة سواء عن طريق المشاركة السياسية في ضوء كون الديمقراطية طريقة كفرية، أو عن طريق الانقلاب والثورة باعتبارها بدعة لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي ذات السّياق يؤكد «الألباني» في العدد الصادر في 5 مايو 1995م، من مجلة «المسلمون» “أنّ الديمقراطية عند واضعيها ومعتنقيها تعني حكم الشعب نفسه بنفسه وأنّ الشعب هو مصدر السلطات جميعًا، وهي بهذا الاعتبار مناقضة للشريعة والعقيدة الإسلامية؛ لأنّها نظام طاغوت وقد أمر الله بالكفر بالطاغوت، وبالتالي فالديمقراطية والإسلام لا يجتمعان أبدًا فإمّا الإيمان بالله والحكم بما أنزل وإمّا الإيمان بالديمقراطية “الطاغوت” والحكم بها”.

وبناء على ذلك أكّد على رفض كل ما ينبثق عن الفكرة الديمقراطية خصوصًا التعددية والانتخابات، وهو موقف جلّ التيار السلفيّ، وهو ما أكّده كتاب “مدارك النظر في السياسة” الذي قدّم له الألباني، وهو من الكتب المعتمدة لدى أتباع التيار السلفيّ التقليديّ في الأردن والخليج وشمال أفريقيا، والذي ينبنى فكرة أن: “المسار الانتخابي نظام كافر؛ لأنّه يُساوى فيه بين المسلم والكافر، وأعظم ذلك كلّه أنّه يساوى فيه الإسلام بالكفر، حيث يصبحان في كفّة التصويت”.

في سياق متصل لخّص «ياسر برهامي» نائب رئيس الدعوة السّلفية الحالي، منهج التغيير لدى الاتجاه السلفيّ التقليديّ في محاضرة له بعنوان “منهج التغيير عند السلفيين” عام 2006م، بالقول: “ترتبط رؤية السلفيين بالانتقال من القاعدة إلى القمّة، عبر إصلاح الأفراد علميًا وفكريًا وتربويًا، ثم إقامة الجماعة الملتزمة بالفهم الصحيح للإسلام وعقائده وأحكامه، وصولًا إلى تغيير اجتماعيّ يشمل القاعدة” وشدّد «برهامي» في هذه المحاضرة على التعارض بين الديمقراطية والإسلام خصوصًا مع عدم إقرارها بكونه المصدر الرئيسيّ للتشريع، وفي مقال كتبه “برهامي” بمجلة “صوت الدعوة” عن السلفية ومناهج التغيير يقول: “فارق أساسي وكبير بين الحكم الإسلامي والحكم العلماني الديمقراطي: فتشريعات الحكم الإسلامي تبنى على الكتاب والسنة وهو يوجب الحكم بما أنزل الله ويرى العدول عن ذلك فسقاً وظلماً وكفراً، فلا يمكن الفصل بين الدين والدولة في نظر الإسلام، أما الحكم العلماني الديمقراطي فمصدر السلطة عنده هو الشعب، وتشريعاته تنبني على إرادته وهواه، فلا بد للسلطة من الحفاظ على رغبة الشعب ومرضاته ولا يمكن لها أن تعدل عن إرادة الشعب وهواه حتى لو أدى ذلك إلى تحليل الزنا واللواط والخمر، فالمبادئ والتشريعات كلها عرضة للتغير والتبديل في الحكم العلماني والديمقراطي حسب ما تطلبه الأغلبية” ويتابع: “المجالس التشريعية التي تسن قوانين مخالفة للشرع يلزمون بها العباد، وترى أن للأغلبية أن تفرض رأيها حتى ولو كان مخالفاً للشرع مجالس كفرية”.

 ياسر برهامي
ياسر برهامي

وعلى نفس المنوال في 31 أكتوبر 2010م، وتحت عنوان “لماذا نقاطع الانتخابات” تساءل «عبد المنعم الشحات» في بداية الحلقة: “إذا كنّا ممكنين هل نبني النموذج الديمقراطي؟ وأجاب على نفسه بالقول: “ما نجزم به، لا.. لا نبني النموذج الديمقراطيّ.. بل نبني النموذج الإسلاميّ، والنموذج الإسلاميّ يخالف النموذج الديمقراطيّ تمامًا، لدينا نظام إسلاميّ مقيّد بالشّرع، والشورى فيه مقيدة بالشّرع، بينما النظام الديمقراطيّ ليس فيه كذلك، وإن كان هناك نظام ديمقراطيّ الشورى فيه مقيدة بالشّرع فلم تكن هذه ديمقراطية؛ لأنّ قوام الديمقراطية حكم الشعب، فحينما نقيدها بالشرع فأنت تهدم الركن الأعظم للديمقراطية، فإذًا نحن سنقيم نظامًا، فسوف نقيم نظامًا إسلاميًّا وليس ديمقراطيًّا، والنظام الإسلاميّ الشورى فيه مقيدة بالشرع، والشورى لا تلزم بوجود أحزاب بل لا يجوز وجود أحزاب، فكلّ كُتب العقيدة تنصّ على التحذير من الفرقة، فالشّورى أن يشاور الإمام الأمة، فليس هناك من هو جالس في كراسيّ المعارضة ومن هو جالس في كراسي الحكومة، وليس هناك تداول سلطة، فعقدُ الإمامة عندنا عقد أبدي إلى أن يموت الإمام أو يطرأ عليه ما يوجب انخلاعه”.

هذا فضلا عن العديد من الكتابات للداعية السلفي والقيادي السابق بالدعوة السلفية “سعيد عبدالعظيم” التي يكفر فيها الديمقراطية ومن ينادون بها، ويرى أنها على النقيض من الإسلام.

لكن وبعد ثورة يناير حدث تحول “تكتيكي” فيما يتعلق بالتوجه السلفي إزاء الممارسة السّياسية، حيث قام السلفيون باستغلال رأسمالهم الدعوي والاجتماعيّ الذي كونوه على مدار سنوات من خلال الانخراط في العمل الدعوي،  وتحويله إلى رأسمال سياسيّ، وانغمست الدّعوة السّلفية السكندرية في الممارسة السّياسية المباشرة عبر ذراعها السّياسيّ “حزب النور”، الذي رفض تمرير الانتخابات البرلمانية دون المنافسة على أغلب مقاعدها «اعتبروا حينها أن الصوت الانتخابي للمرشح السلفي صدقة جارية» وبالتالي يمكن القول: إنّ هذا التحول لم يكن جذريًا أو نوعيًا أو جادًا، بمعنى أنّه لم ينبنى على قواعد منهجية واُطر فكرية واضحة، تستند إلى معطيات الفقه المقاصديّ وفقه المآلات، بما يُحدث تراجعات ومراجعات فيما يتعلق بالنظر لقضايا الوطن والديمقراطية، وما يرتبط بها من قيم وأفكار، وبالتالي فهذا التحوّل لم يكن في أيّ لحظة مؤسسًا على إيمان حقيقي بالسياسة بمفهومها المدنيّ الحديث، وإنّما هو محض انتهازية سياسية وتماشٍٍ مع الواقع واستهداف للمصلحة، وقد أكّد ذلك البرنامج السياسيّ لحزب النور في تلك الفترة، والذي لم يرد فيه أيّ ذكر لمبادئ المواطنة والدولة المدنية.

2- تناقضات الموقف من الثورة المصرية:

مع بداية ثورة يناير غلب على موقف الاتجاه السلفيّ التقليديّ الحذر والرفض لهذه المجريات، حيث أصدرت الدعوة السّلفية العديد من الفتاوى والمقالات التي أكّدت فيها على رفضها لهذه التظاهرات، ورفض المشاركة فيها، وقد كتب «عبدالمنعم الشحات» مقالة بعنوان “لن نتراجع، لن نستدرج، لن نوظف” عدّ فيها هذه الدعوات للتظاهر تأتي ضمن أجندات خارجية وداخلية تستهدف تغيير هوية مصر، وفي ذات السياق وقبل تظاهرات الخامس والعشرين من يناير بأربعة أيام أفتى «ياسر برهامي» بعدم جواز المشاركة وأنّ هذا الأمر قد حسمه المشايخ، وكذلك خرج دعاة محسوبون على نفس الاتجاه مثل: «محمود المصري ومصطفى العدوي ومحمد حسان ومحمد حسين يعقوب» عبر الفضائيات المصرية والعربية، يطالبون الشباب المصريّ بالعودة إلى منازلهم، ويحذرون من الفتنة التي ترتبط بالاعتصام في التحرير وحرمة الخروج على الحاكم، ويدافعون عن الرئيس الراحل “مبارك”.

بعد نجاح ثورة الخامس والعشرين من يناير وإزاحة النظام السّابق عن الحكم، انقلب موقف شيوخ السلفين رأسًا على عقب، وأخذوا يهاجمون ويعددون في مساوئ النظام السابق بأثر رجعيّ، وهو ما عكسته شواهد كثيرة حيث قالت الدعوة السلفية إن سبب عدم دعمها للثورة ومشاركتها هو عدم إبراز الطابع الإسلامي للثورة حتى لا يتآمر عليها الغرب!، فضلا عن «محمد حسان» الذي خرج يمدح الثورة قائلًا: “لقد فرحت وأنا أشاهد صورة «مبارك» يتمّ إزالتها، لأنّ الإله هو الربّ الواحد، ومبارك كان يؤله نفسه، ولطالما صرخنا مرارًا وتكرارًا ولكن هيهات، قلّ من يتعظ وقلّ من يعتبر”، وكذلك «حسين يعقوب» الذي خرج مهللًا مهاجمًا مبارك واصفا إياه بالظّالم والطاغية الذي عطّل تنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية “وهو الرجل الذي كان يمتدحه في عهده ويصفه بالحكمة، حتى أنّه شن هجومًا عنيفًا على حماس عندما هاجمت مبارك”.

ختاما يمكن القول إن هنالك فجوة كبيرة وتناقضا صريحا للاتجاه السلفي التقليدي/العلمي، بين موقفه النظري من الفكرة الميكافيلية، وممارساته العملية في ضوء الفعل السياسي والاجتماعي، وذلك في ضوء كون هذه الممارسات تعد تجسيدا للمذهب الميكافيلي، مع إضفاء الصبغة الدينية عليه ووضعه في إطار قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات”، وهو ما أشار إليه ميكافيلي عندما قال: ” إن الدين ضروري للسياسيين لا لخدمة الفضيلة، ولكن للتمكن من السيطرة على الناس.

محمد فوزي

باحث في العلوم السياسية
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock