يستعرض المقال الثالث والأخير ضمن هذه السلسلة عملية انتقال “القوة” من الفكر إلى التطبيق عند حسن البنا بهدف استكمال المراحل الثلاث التي وضعها (التعريف،التكوين، التنفيذ)،وكيف أثر ذلك على ممارسات الإخوان وتبريرهم لاستخدام القوة حتى اليوم.
استخدام القوة في زمن البنا:
انطلاقًا من أفكاره السابقة والتي اعتمد من خلالها القوة كخيار وأداة للتغيير، ومن خلال مفهومه عن الجهاد؛ عمد البنا إلى تكوين جهاز سري يقوم على اختيار العناصر المناسبة والتي يتم تدريبها بدنيًا وعسكريًا وروحيًا حتى تكون هي الأداة في التغيير المنشود عندما تسنح الفرصة.
في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين بدأ البنا بتكوين ما أسماه بفريق الرحلات أو الجوالة، والذي كان يتسم بالنمط العسكري من حيث الإعداد والتدريب الذي يتلقاه أفراده الذين يتم اختيارهم بعناية، وكان المنطلق في تكوين هذه الفرق التي أخذت في الاتساع داخل الجماعة هو تحقيق مفهوم الجهاد “وقد ذكر البنا أن الفكرة في تأسيس فرق الرحلات هو التأثر بفكرة الجهاد الإسلامي، وتحقيقأ لنيته، وتنفيذًا لأمر الإسلام”(19)، كما كانت هذه الفرق تمثل نواة التنظيم السري أو النظام الخاص الذي تم إنشاؤه فيما بعد ليكون هو جيش الإخوان المسلمين المعني بالتنفيذ واستخلاص الحكم كما صرح البنا “والحقيقة أن الهدف الأساسي للجوالة لم يكن مجرد تكوين أداة ردع منظمة على أسس عسكرية وانضباط صارم، وإنما كانت الجوالة أيضّا حقلًا تتابع فيه أعين المرشد اليقظة العناصر الأكثر حماسًا والأكثر اخلاصًا والأكثر طاعة وتلتقطها في نواة خاصة”(20)، وهذه النواة كانت هي النظام الخاص الذي يرجح العديد من الباحثين نشأته في العام 1942.
https://www.youtube.com/watch?v=06IyLH10Nqo
وقد كان النظام الخاص يتكون من ثلاثة أجهزة رئيسية: الجهاز المدني والذي يتكون من أفراد الإخوان المدنيين، وجهاز الجيش، وجهاز البوليس واللذين يتكونان من أفراد الجماعة من الجيش والشرطة “وقد جُهز هذا الجيش السري بالرؤوس المفكرة والعقول المدبرة، والمال الوفير، والأسلحة والمفرقعات والذخائر، ووسائل النقل، وأدوات التراسل والإذاعة، فضلًا عن الأوكار في مختلف الجهات في المدن والريف”(21).
وعن أهداف هذا النظام الخاص يذكر الدكتور عبد العظيم رمضان أن ما كان يتم الإيحاء به في البداية هو أن النظام يهدف إلى الجهاد ضد الانجليز لتحرير الأراضي المصرية، لكن فيما بعد تم تحويل أفكار الأفراد نحو الداخل تدريجيًا، ويستشهد هنا باعترافات عبد المجيد حسن قاتل النقراشي بما قاله بأنه في أحد اجتماعات التنظيم تم سرد بعض الروايات التي حدثت في صدر الإسلام والتي تفيد بأن قتل المسلمين الذين يعاونون أعداء الإسلام أمر مقرر في الشريعة، كما يؤيد ذلك اعترافات محمود عبد اللطيف الذي قام بمحاولة اغتيال عبد الناصر في المنشية بقوله في صدد الحديث عن أغراض النطام الخاص بأن “الغرض منه محاربة أعداء الدعوة الإسلامية”(22)، وقد قام هذا الجهاز السري بالفعل بعدة أعمال استخدم فيها العنف والاغتيالات مثل اغتيال الخازندار، وأحمد ماهر، والنقراشي، واستخدام العنف في إطار الصراع مع حزب الوفد في منتصف الأربعينيات وغيرها، إلى أن تم حل الجماعة في عام 1948 على إثر اكتشاف وثائق تخص هذا الجهاز فيما عُرف بقضية السيارة الجيب.
أثر ما قاله البنا بالأمس على إخوان اليوم:
لكلام البنا وتراثه بالغ الأثر في نفوس وعقول الإخوان؛ فقد شكّل وعيهم ووجدانهم وأصبحت آراؤه وأفكاره بمثابة دستور به يسترشدون وإليه يرجعون في الكثير من الأمور.
منذ بداية الأزمة الحالية التي تعيشها الجماعة والتي بدأت بعزل الإخوان عن الحكم؛كانت الجماعة أمام خيارات عدة وعلى مفترق طرق، وكان عليها أن تحسم أمرهابشأن كيفية التعامل مع الوضع القائم وسبل مواجهته، وكان التخبط سيد الموقف كماالحال في الكثير من مراحل الجماعة وبشأن العديد من المواقف التي تتعرض لها،ففي البداية وفي خِضمّ أحداث ما قبل الثلاثين من يونية 2013 استعانت الجماعة بالسلاح لحماية مقراتها خشية الهجوم عليها، وعندما بدأت في الاعتصام بميدان رابعة قبل أسبوع من الثالث من يوليو كانت تستعين أيضًا ببعض الأسلحة لحمايةالاعتصام من أي هجوم يستهدفه، ثم ما لبثت أن غيرت استراتيجيتها حيث أرادت تحويل الأمر من مواجهة مسلحة بين تنظيم ودولة إلى ثورة أو موجة جديدة من ثورةيناير على اعتبار أن ذلك استكمال لها يستهدف الحفاظ على مكتسباتها، فاتخذت قرارًا تكتيكيًا بإخلاء الميدان من الأسلحة، ثم ما إن حدث فض ميدان رابعة حتى غيرت الجماعة مرة أخرى أسلوبها وقررت المواجهة العنيفة ظنًا منهم بأن اللحظةمناسبة لتحويل مسار الأحداث وإمكانية الرجوع خطوة إلى الوراء بإعادة الأمور إلى ما قبل الثالث من يوليو، عاقدين الأمل على أن يتسبب ما حدث برابعة في انتفاضةشعبية قد تساعدهم في العودة إلى الحكم، فكانت أحداث الرابع عشر من أغسطس والتي استمرت لفترة غير طويلة، وتمثلت في التعدي على بعض المنشآت والمؤسسات وما إلى ذلك .
ثم ما لبثت الجماعة أيضًا أن رجعت عن هذا المسار، ربما لقناعة بعدم توافرالإمكانات المطلوبة للمُضي فيه، أو ربما لإدراكها أن الخسائر سوف تكون أكبر،وربما لشعورها بالخطأ الذي وقعت فيه بالتعامل بهذا الأسلوب، أيًا كان الأمر، ولكن ذلك من الأسباب الرئيسية التي أحدثت انقسامًا حاداً داخل الجماعة؛ إذ رأى جزءٌليس بالقليل أن التعامل السلمي ليس هو الحل وأن المقاومة العنيفة هي التي تُجدي في مثل هذا الظرف، ولم يكن أسلوب المواجهة العنيفة واستخدام القوة بالنسبة لهؤلاءمجرد رد فعل على الأحداث أو نتيجة أسلوب براجماتي بحت، لكنه كان موقفًاأيديولوجيًا، حيث تم استدعاء كل المعاني السابقة التي رسخها البنا والمتعلقةبالجهاد والحرب على الإسلام، ومشروعية استخدام القوة، مما أدى إلى تحول الأمرمن صراع سياسي إلى حربٍ عقيدية إما الصدر فيها أو القبر، إما النصر أوالشهادة .
وبدأ التأصيل لذلك تأصيلًا شرعيًا، مع التأكيد على أن ذلك هو منهج البنا الذي لابد من الالتزام به، ويتحدث عن هذا الأمر الدكتور “مجدي شلش” أستاذ أصول الفقه والقيادي بالجماعة وعضو اللجنة الإدارية العليا التي كانت تدير الجماعة لقترة من الفترات بعد فض رابعة في مقابلة له علي قناة مكملين في العام 2016، وصرح بأن هذا الخيار لا يمثل مجرد رد فعل فقط علي عزل مرسي، ولكن له تأصيل شرعي قامت به هيئة تم تكليفها من جانب اللجنة الإدارية العليا وسميت بـ “الهيئة الشرعية”، مكونةمن باحثين في العلوم الشرعية من داخل الاخوان وخارجها، وكانت مهمتها إعداد دراسة للإجابة عن ثلاثة أسئلة:
1 – ما هو التوصيف الشرعي للنظام وأفراده؟
2 – ما هو الحكم الشرعي الواجب تطبيقه؟
3 – ما جدوي المقاومة واقعيًا؟
ثم يقول إن الهيئة أصدرت بيانًا في أغسطس 2015، أشارت فيه إلى أنها قامت بإعداد هذه الدراسة وهي منشورة على شبكة الانترنت بعنوان “فقه المقاومة الشعبية”(23)، تعلن فيها مجمل ما توصلت له من نتائج بخصوص الأسئلة المطروحة، وهذه النتائج هي :
الحاكم الذي جاء بطريقة غير شرعية لا شرعية له.
الوصف الشرعي للنظام أنهم خوارج وبغاة ومحاربين لله ورسوله.
الحكم الشرعي وجوب المقاومة بكل أشكالها.
هذه أحكام عامة يجب مراعاة الضوابط الشرعية عند تنفيذها، لعدم إستهداف أبرياء .
ثم يشير البيان إلى أنه:
قُرِأَت هذه الدراسة كلمة كلمة أمام الإدارة واعتمدتها ونزلت لجميع الإخوة فاستحسنوها وأقروها فكان الأداء رائعاً في 25 يناير الماضي “ذكرى ثورة يناير 2015”.
هذه الدراسة أصبحت ملكاً لجميع الاخوان ولا يجوز لأحد إلغاؤها.
وبالاطلاع على الدراسة المذكورة، نرى أنها تحدثت تحت عنوان فرعي هو “موقف الإخوان من الجهاد والمقاومة” عن أن “الانتقال للعمل النوعي لا يعد تغييرًا في منهج الجماعة، لكن المواقف تتغير، كما أن السلمية ليست من ثوابت الإسلام ولا الجماعة”،كما تقول إن “البنا أفرد رسالة خاصة للجهاد، وقد حدد البنا للحركة الإسلامية متطلبات الجهاد في رسالة المؤتمر الخامس قائلًا في الوقت الذي يكون فيه معشرالإخوان ثلاثمائة كتيبة كل كتيبة قد جهزت نفسها إيمانيًا بالعقيدة وفكريًا بالثقافةوبدنيًا بالرياضة عند ذلك طالبوني أن أخوض بكم لجج البحار وأتصدى لكل جبارعنيد”، كما تحدثت الدراسة عن إمكانية استخدام القوة من جانب الإخوان، وبيّنت موقف البنا حيث قال “إن الاخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها”، ثم تحدثت عن موقف الإخوان فيمن تستخدم القوة ضده؛ فبينت أنها غيرقاصرة علي المحتلين بل تتسع لتقويم الحكومات الفاسدة، حيث قال البنا بخصوص الحكومات الرافضة لتطبيق الشريعة ولمطالب الإصلاح “فالنصح والارشاد، ثم الخلع والإبعاد”.
وهكذا فإن هذا المسار الذي اختاره جزءٌ ليس بالقليل من الجماعة والذي رأوا فيه ضرورة استخدام القوة في إحداث التغيير كان صدى لما قاله البنا قبل أكثر منستون عامًا ولا يزال تأثيره حاضرًا في عقول الإخوان حتى اللحظة.
خاتمة:
يتضح من العرض السابق أن منهج التغيير الذي صاغه البنا يقوم على عدة مراحل ويهدف إلى تحقيق هدف رئيسي تسبقه أهداف مرحلية، وأن استخدام القوة في إحداث التغيير المنشود هو أمر واضح في منهج البنا على كلا المستويين النظري والعملي، وأن هذا المنهج لازال حاكمًا لجماعة الإخوان حتى اليوم بشكل كبير.
ونخلص مما سبق إلى نتيجة هامة، وهي أن ما تتعرض له الجماعة منذ نشأتها من صدامات وأزمات وهزائم متكررة وفشل في تحقيق الأهداف إنما يعود بشكل رئيسي إلى عيوب ذاتية في الجماعة من أهمها منهج التغيير الذي ينطلق من منطلقات ومفاهيم غير سليمة تحتاج إلى مراجعة شاملة.
المراجع:
(19) مذكور في: عبد العظيم رمضان، الإخوان المسلمون والتنظيم السري، الهيئة العامة للكتاب 1993، ص 37
(20) رفعت السعيد، حسن البنا: متى، كيف، ولماذا،مكتبةمدبولي 1977، ص 125
(21) عبد العظيم رمضان، المصدر السابق، ص50
(22) رفعت السعيد، المصدر السابق، ص132