لم ترض الدول الأوروبية بأن تتحول مصر إلى دولة مدنية ديمقراطية عصرية بقواعد وأسس القرن التاسع عشر، فعملت إنجلترا وفرنسا على إجهاض حلم الدستور الذي سعى إلى تحقيقه المصريون. فبعد أن قدمت حكومة شريف باشا مشروع الدستور «اللائحة الأساسية» إلى البرلمان المنتخب لمناقشته واعتماده، وأجرت اللجنة الدستورية عليه بعض التعديلات، ولم يبق سوى إجراءات شكلية لإقراره، قررت فرنسا وإنجلترا خلق حالة من الاضطراب، بزرع الفتنة بين الخديوي من جهة والحكومة وممثلي الأمة من جهة، حتى يتمكنا من إيجاد مبرر للتدخل المسلح.
في 8 يناير من عام 1882، توجه السير إدوار مالت المعتمد البريطاني في مصر والمسيو سكنفسكس المعتمد الفرنسي إلى سراي عابدين، وقدما إلى الخديوي مذكرة مشتركة من الدولتين، مكتوبة بصيغة برقية من وزارة خارجية كل منهما إلى معتمديهما في مصر، وأرسلا منها نسخة أيضا إلى شريف باشا رئيس الوزراء.
جاء في البرقية أن الدولتين كلفتا ممثليها في مصر بأن يعلما الخديوي توفيق عزمهما على تأييده للتغلب على الصعوبات المختلفة التي قد تعترض انتظام الشئون العامة في مصر، «إن الحكومتين على تمام الاتفاق في هذا الصدد، وأن الحوادث الأخيرة، وبخاصة الأمر الصادر من الخديوي باجتماع مجلس النواب، قد هيأت الفرصة لتبادلهما الآراء مرة أخرى في هذا الشأن، أن الحكومتين الفرنسية والإنجليزية تعتبران تثبيت الخديوي على العرش طبقا لأحكام الفرمانات التي قبلتها الدولتان رسميا هو الضمان الوحيد في الحال والاستقبال لاستتباب النظام ولتقدم سعادة مصر ورفاهيتها التي يهم فرنسا وإنجلترا أمرها».
لم تكن تلك المرة الأولى التي تتآمر فيه أوروبا على مصر وعلى محاولة إقامة نظام ديمقراطي يؤسس لدولة حديثة، فبعد أن أغرق الخديوي إسماعيل مصر في الديون، وسمح بالتدخل والوصاية الأجنبية، سعى إلى مد الجسور مع رموز الحركة الوطنية، وتبنى «اللائحة الوطنية» التي أصدرها عدد من قادة الرأي ورجال السياسة والعسكريين، وطالبوا فيها بوضع حد للتدخل الأجنبي في إدراة شئون البلاد، وإقامة نظام نيابي دستوري يأتي بحكومة مسئولة أمام البرلمان.
تواطأ الإنجليز والفرنسيس مع الدولة العثمانية قبل أن يتم تفعيل ما جاء في تلك اللائحة وعزلوا إسماعيل ونصبوا ابنه توفيق خلفا له ليخضع لمخططاتهم.
إنجلترا وفرنسا وفتنة الميزانية
وكما ضربت فرنسا وإنجلترا المحاولة الأولى قررتا أن يوأدان المحاولة الثانية بتفويت فرصة إصدار دستور ينظم العلاقة بين سلطات الدولة الثلاث «الخديوي، الحكومة، والبرلمان».
البرقية التي تسلمها توفيق من معتمدي فرنسا وإنجلترا، كشفت أن الدولتين اتخذتا حق القوامة والرقابة على مصر والتدخل في شئونها الداخلية، ويظهر من توقيت تسليمها إلى الخديوي أنهما لم ترضيا عن تأليف مجلس نواب وقيام نظام نيابي دستوري في مصر.
وترمي البرقية بحسب تفسير المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي»، إلى تأييد الدولتين للخديوي وإغرائه باسترداد سلطته المطلقة، والعبث بالنظام الدستوري الذي لم يكن استقر بعد.
تسببت البرقية في حالة من القلق والسخط العام، وأدرك قادة الجيش أن البرقية موجهة إليهم وإلى حركتهم، فاجتمعوا في ديوان وزراة الحربية للتشاور في الأمر، وهناك وافاهم محمود سامي البارودي باشا وزير الحربية، وحاول تهدئة نفوسهم، ثم توجه إلى زملائه في مجلس الوزراء واستقر الأمر على إبلاغ الباب العالي بعدم قبول ما جاء في البرقية، وتوجه رئيس الحكومة إلى معتمدي فرنسا وإنجلترا وأبلغهما باعتراضه على البرقية.
ويقول الرافعي أن مذكرة الدولتين كانت حلقة من سلسلة خطة مبيتة لإحراج مركز الحكومة البرلمانية التي تأسست في مصر، فقد أعقبها اعتداء آخر على حقوق البلاد، إذ طلب قنصلا الدولتين من شريف باشا بإيعاز من الرقيبين الأوربيين ألا يخول لمجلس النواب حق تقرير الميزاينة، وقدما إليه في 26 يناير سنة 1882 مذكرة بهذا المعنى أثناء اشتغال اللجنة الدستورية بالنظر في مشروع الدستور الجديد «اللائحة الأساسية».
المذكرة التي قدمها الرقيبان إلى قنصليهما جاء فيها: «إن مجلس النواب يريد أن يُخول في حق تقرير الميزانية، وهذ الحق ولو كان مقتصرا على المصالح التي لم تخصص إيراداتها للدين العام فإنه يضر بالضمانات المقررة للدائنين، لأن من نتائجه إحلال مجلس النواب محل مجلس الوزراء في إدارة شئون البلاد».
وأشار الرقيبان إلى عدم خبرة مجلس النواب وميوله العدائية نحو العنصر الأوربي في الحكومة، وأيدت حكومة فرنسا وإنجلترا ما جاء في مذكرة الرقيبين، «كان هذا التدخل تحديا بالغا لكرامة البلاد وحقوقها، وتدبيرا مبيتا من الدولتين للتدخل المسلح وخلق الذرائع للاحتلال»، يضيف الرافعي في كتابه.
ويشير الرافعي إلى أن شريف باشا كان يرى أن الموقف كان على جانب كبير من الخطر، «هناك أولا حقوق الأمة وكرامتها، ولا تقبل أمة تحترم نفسها أن تنزل على إرادة دولتين غاصبتين تريدان حرمان مجلس النواب حقا من أقدس حقوقه، وهو تقرير الميزانية، وهناك من جهة أخرى الخطر الماثل أمام رجل الدولة، إذا يرى البلاد هدفا للتدخل المسلح من جانب الدولتين المتحفزتين للاحتلال».
رأى شريف باشا رئيس الحكومة درءًا للأزمة، ألا يبت مجلس النواب بقرار نهائي في المادة المتعلقة بالميزانية، وأن يرجئها إلى حين تنجلي الغمة، وبذلك يتفادى التدخل المسلح الذي لم يكن في استطاعة مصر أن تصده، لما كانت عليه وقتئذ من ضعف وارتباك، علما بأن ميزانية عام 1882 كان قد صدر مرسوم باعتمادها في 22 ديسمبر سنة 1881، أي قبل انعقاد مجلس النواب، وبالتالي أزمة نص الميزانية يمكن إرجاؤها إلى وقت لاحق.
ونصح المستر ويلفريد سكوين بلنت المستشرف الإنجليزي أصدقاءه العرابيين بالتروي في اتخاذ موقف في تلك الأزمة ومنح الحكومة فرصة التفاوض مع إنجلترا وفرنسا، وأيده في ذلك الشيخ محمد عبده، الذي قال: «قد لبثنا عدة قرون في انتظار حريتنا، فلا يشق علينا أن ننتظر الآن بضعة أشهر»، لكن نصيحة الاثنين ذهبت عبثا، بحسب تعبير الرافعي.
البرلمان على خط الفتنة
عرض شريف باشا على البرلمان تأجيل البت في النص الخاص في الميزانية بالدستور إلى حين التفاوض مع قنصلي إنجلترا وفرنسا، وطلب في كتابه إلى مجلس النواب إقرار الدستور «اللائحة الأساسية» كما عدلها مجلس الوزراء وأن تترك النصوص المتعلقة بالميزانية إلى حين، وان يبدي النواب رأيهم في أمر الميزانية لتجعله الحكومة أساسا للمفاوضة مع الدولتين.
لم يقبل زعماء النواب وقادة الجيش مقترح التأجيل، وأصروا على إقرار مادة الميزانية في الحال، ويرى الرافعي أن العرابيين كانوا قد بيتوا النية لإقصاء شريف باشا عن الحكم وإسناد الوزارة إلى رجل منهم، «إذا لم يكن يكفي أن شريف باشا قد ألف وزراته على قاعدة إجابة مطالب العرابيين، لكنه كان يشعر حيالهم بشئ من الاستقلال والكرامة، وهذا ما جعل العرابيين يرغبون في التخلص منه، وساعد على هذا طموح محمود سامي البارودي في رئاسة الوزراة».
تعقدت الأزمة، بإعلان مجلس النواب في 31 يناير رفض طلب تأجيل البت في المادة الخاصة بالميزانية، ومن ثم إسقاط وزارة شريف. كتب المسيو سنكفكس المعتمد الفرنساوي في هذا الصدد إلى رئيس وزراء فرنسا المسيو دي فريسينيه خطابا يشرح له فيه الأوضاع: «اجتمع زعماء الحزب الوطني واتفقوا على إسقاط حكومة شريف وتأليف وزارة أعضاؤها منهم جميعا، على أن تسند رئاستها إلى البارودي باشا وزير الحربية في ذلك الوقت ويعهد بحقيبة الحربية إلى أحمد عرابي».
اجتمع مجلس النواب في أول فبراير سنة 1882، وعرض رئيس المجلس سلطان باشا على النواب كتاب شريف باشا وتقرير اللجنة الدستورية، ثم عُرضت اللائحة الأساسية «الدستور» المرسلة من اللجنة إلى مجلس الوزراء متضمنة التعديلات التي أدخلها المجلس عليها، وكشفت مناقشات الأعضاء أن النية مبيتة على رفض طلب التأجيل، ووجوب الإسراع بتقرير مواد الميزانية كما كانت في مشروع الدستور.
قرر المجلس اعتبار اللائحة «الدستور» قانونا مستعجلا، وطلب من اللجنة الدستورية إعداد خطاب للرد على طلب الحكومة وتقديم تقرير مفصل عن التعديلات قبل ظهر الغد (الخميس 2 فبراير سنة 1882).
وضعت اللجنة نصا جديدا للمواد المتعلقة بالميزانية جاء فيه :«أن تعرض الميزانية على مجلس النواب فينظر ويبحث فيها ويعين من أعضائه لجنة مساوية لمجلس النظار عددا ورأيا ليقرروها جميعا بالاتفاق أو الأغلبية، فإن وقع بينهم خلاف وكان العدد متساويا من الجانبين وجب إعادة الميزانية للنواب فإما أن يؤيدوا رأي النظار (الوزراء) وإما أن يؤيدوا رأي لجنة النواب، فإن كان الأول وجب تنفيذ الميزانية، وإن كان الثاني ولم يمكن حصول الوفاق كان الحكم في ذلك حكم بند الخلاف، وهو أنه عندوقوع الخلاف بين النظار والنواب على أمر ما، فإما أن يُفض مجلس النواب، وإما أن يُستعفي النظار، وفي هذه الحال أي إذا أيد النواب رأي اللجنة وخالفوا رأي النظار تنفذ الميزانية في المهم الضروري منها لإدارة المصالح وعدم تأخير الأشغال تنفيذا مؤقتا، ويبقى الباقي من أمر الميزاينة إلى ما بعد تسوية المسألة بأي طريقة ووسيلة».
ويقول الرافعي إن اللجنة وضعت تقريرها عن المهمة التي عهد بها المجلس إليها، وخلاصته «وجوب الاستمساك بتقرير مادة الميزانية في الدستور كما وضعتها اللجنة، ورفض التأجيل، وعرضت بموقف شريف باشا في هذه المسألة، واقترحت في تقريرها ألا يكون الرد على تقريره كتابة بل يكون شفاهة حسما للأمر»، وفي هذا ما يدل على أن الفكرة التي سرت في المجلس هي التخلص من وزراة شريف باشا، يضيف الرافعي.
جلسة الحسم واستقالة شريف
اجتمع مجلس النواب ظهر يوم الخميس 2 فبراير سنة 1882، ليصدر قراره في تلك المسألة، وحضر من أعضائه 72 عضوا، وبعد افتتاح الجلسة تُلي تقرير اللجنة، ثم جرت مناقشة سريعة انتهت بقبول رأي اللجنة.
وتم تشكيل لجنة لمقابلة الخديوي توفيق لتعرض عليه الصياغة النهائية للائحة الأساسية «الدستور»، ذهب أعضاء اللجنة أولا إلى وزارة الداخلية وقدموا إلى شريف باشا لائحة المجلس للتصديق عليها وقالوا إن تأخير التصديق عليها مُضر بمصلحة الأمة، لا سيما أن الحقوق التي وردت في تلك اللائحة هي طبق الحقوق المتبعة في مجالس نواب الدنيا، فأجابهم شريف باشا بأنه مستعد للتصديق على جميع بنودها عدا بند الميزانية، «لا يمكن التصديق عليه إلا بعد موافقة إنجلترا وفرنسا»، فرد النواب : «إننا نأسف أنه سيُصدق عليها سواك».
توجه وفد النواب بعد ذلك إلى سرايا عابدين وقابلوا الخديوي توفيق وأخبروه أن رئيس الورزء رفض التصديق على اللائحة الأساسية، وطلبوا منه سرعة إنجاز المسألة، فقال لهم: «إذا كانت الوزارة متوقفة، فما العمل»، فقالوا: تُستعفى الوزراة وتشكل وزارة أخرى تصدق على اللائحة، فوعدهم الخديوي خيرا.
وما أن انتهت مقابلة النواب بالخديوي، حتى توجه شريف باشا إلى سراي عابدين، ليقدم استقالته من الوزراة، ثم صار بعدها إلى سراي الإسماعيلية، وهناك التقى بقنصلي فرنسا وإنجلترا وأخبرهم بأمر استقالته.
في المساء استدعى الخديوي وفد النواب وطلب منهم ترشيح رئيس وزراة جديد ليشكل حكومة جديدة تخلف حكومة شريف، فوقع اختيارهم على محمود باشا سامي البارودي، بشرط أن يكون أول قرار له هو التصديق على اللائحة، وهو ما قبل به البارودي.
ويرى الرافعي أن سقوط وزارة شريف باشا وتأليف وزارةجديدة انتصارا حاسما للحزب العسكري – يقصد العرابيين- ويرجع أن السبب الرئيسي في سقوط تلك الوزارة التي تعلقت عليها آمال تحديث الدولة وإعادة بنائها على أسس ديمقراطية، هو التدخل الفرنسي الإنجليزي في الشأن السياسي المصري.
أصدر الخديوي توفيق خطاب تكليف إلى البارودي باشا قال فيه : «حيث دعت الأحوال لانفصال محمد شريف باشا بناء على استعفائه، واقتضى الحال لانتخاب بدله ممن يكون متأهلا لمقام الرئاسة، فقد انتخبتكم لهذا المقام الخطير وقلدتكم رئاسة النظار، وعليكم انتخاب هيئة النظار اللازم وجودها معكم».
تشاور البارودي مع وفد النواب والعرابيين على تشكيل وزارته، واستقر الرأي على أن تكون مولفة على النحو التالي: البارودي باشا رئيسا ووزيرا للداخلية، وأحمد عرابي للحربية والبحرية، وعلى صادق باشا للمالية، ومصطفى باشا فهمي للخارجية والحقانية، وعبد الله باشا فكري للمعارف، وحسن باشا الشريعي للأوقاف، ومحمود فهمي للأشغال.
قدم البارودي إلى الخديوي كتابا يتضمن التشكيل الجديد للوزراة وصدر المرسوم بتأليفها في 4 فبراير سنة 1882، وكان عرابي ومحمود فهمي لما ينالا بعد لقب الباشوية، فلما توليا صدر مرسوم بمنحهما رتبة اللواء فنالا لقب الباشوية.
ويرى الرافعي والذي بدا من آرائه أنه منحاز إلى شريف باشا وله العديد من التحفظات على العرابيين، أن الثورة العرابية قد بدأت تسلك سبيلا بعيدا عن الحكمة من يوم أن اتفق زعماؤها على إسقاط وزارة شريف، «إن شريف كان بلا نزاع أقدر من الباردوي على حسن تدبير الأمور في تلك الأوقات العصيبة، إذ إن ماضيه السياسي وثقافته واختباره يجعل له كفاية ممتازة في الاضطلاع بالمهام السياسية، أما البارودي، فقد كانت نشأته أدبية وحربية فحسب، وهذه المزايا ليست هي المطلوبة لتصريف سياسة مصر، وخاصة في العصر المضطرب».
وتحدث الرافعي عن طموح البارودي في اعتلاء العرش بدلا من الخديوي توفيق، «لا شك أن توفيق لم يكن بالصفات ولا بالمزايا التي تجعله مرضيا عنه وعن سياسته في الحكم، وقد كان الكلام في تغييره وإسناد الخديوية إلى الأمير حليم باشا مما تفيض به مجالس الناس في ذلك العهد، فلا غرابة أن تساور البارودي فكرة أحقيته في اعتلاء العرش».
في الحلقة القادمة نعرض المهام التي أوكلها البارودي إلى حكومته، واعتماد الدستور الجديد، وبعض مشروعات القوانين التي ناقشها مجلس النواب، ومنها تعميم التعليم الابتدائي، وتعديل نظام المعاشات، ونظام انتخاب البرلمان، واعتماد مشروع خزان أسوان.
…………………………………………………………………………….
المراجع:
«الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي» – عبد الرحمن الرافعي
«أحمد عرابي الزعيم المُفْتَرَى عليه» – محمود الخفيف
«التاريخ السرى لاحتلال إنجلترا مصر» – المستشرف الإنجليزي مستر ألفريد سكاون بلنت