مع ظهور وانتشار فيروس كورونا، برزت دعوات إلى التضامن الجماعي، والحديث عن إدراك العالم لإخفاقات النظام الرأسمالي، وكذلك إدراك وحدة المصير وجماعية النجاة. إلا أن واقع الأمر لم يكن مشجعًا لهذا التفاؤل، فكما أثرت اللامساوة على التعاطي العالمي مع فيروس كورونا المستجد، لم تظهر عملية التنافس على اللقاحات أية تغيير في السلوك الدولي من المنظور الاقتصادي.
احتمالات الإصابة وفرص العلاج
أثر المستوى الاقتصادي والاجتماعي على التزام المواطنين بالإجراءات الوقائية، وعلى درجة تعرضهم لمخاطر الفيروس، وعلى احتمالات حصولهم على فرصة علاجية مناسبة. وهو ما أوضح التأثيرات السلبية لعدم المساوة على المواجهة المجتمعية للوباء.
– الوعي والالتزام: كان الرهان الأبرز في أزمة كورونا على وعي المواطنين والالتزام بالإجراءات الاحترازية، ويرتبط هذا الوعي بعوامل اقتصادية واجتماعية، حيث لوحظ أن الطبقات الدنيا لم تعترف في بداية الأزمة بشكل كبير بالفيروس. واتهمت بعض الحكومات المواطنين بالتواكل والإهمال.
فارتبط الوعي بالمستوى التعليمي والمعرفي، وكذلك بالمستوى الاجتماعي، وارتبطت درجة الالتزام والاهتمام بالطبقة الاجتماعية. ويرتبط الوعي المنشود بنسبة الأمية في المجتمعات، وكذلك بدرجة المعرفة والمستوى الثقافي، وكذلك بالنطاق الجغرافي. وكل ذلك خلق تمايزات داخل المجتمعات في مستوى إدراك خطورة الفيروس، ومستوى الالتزام بالإجراءات الوقائية.
وحتى مع توافر الوعي فإن القدرة على الالتزام بالجراءات الوقائية يرتبط ببعد اقتصادي يتعلق بالقدرة على توفير الأدوات الطبية الوقائية.
– التعليم والعمل: مثل التعليم إحدى الإشكاليات المهمة في جائحة كورونا، وقد لجأت دول عديدة إلى التعليم عن بعد من أجل تلافي تعطل العملية التعليمية تمامًا. إلا أن هذا الأمر مثل أحد ملامح اللامساوة على المستوى الدولي والمحلي. فبينما تمكنت “الدول الغنية” من الانتقال إلى “التعليم الأونلاين” بسهولة بفضل دمج بعضها لهذا النوع من التعليم بدرحات متفاوتة من الأساس، بالإضافة إلى توافر البنية التحتية التي تمكن من الانتقال السلس بين النظم التعليمية، والاعتماد على التكنولوجيا والإنترنت. إلا أن “الدول الفقيرة” عانت من صعوبات في هذا الأمر بسبب بنيتها التحتية غير المهيئة. وهو الأمر الذي دفع إلى تأخر أو تردد حكومات في إغلاق المؤسسات التعليمية بما تسبب في زيادة معدلات العدوى، أو تراجع المستوى التعليمي أثناء فترات الإغلاق بسبب محدودية جودة الخدمات التعليمية المقدمة عن بعد.
وعلى المستوى المحلي فإن قدرة المؤسسات التعليمية الدولية والخاصة وذات المستوى المادي المرتفع على التكيف مع ظروف الوباء أفضل. فقد تمكنت من استخدام التكنولوجيا ونظم التعليم الهجين والتعليم عن بعد بشكل أفضل من نظيرتها الحكومية وحتى المدارس الخاصة متوسطة ومنخفضة المستوى. ناهيك أيضًا عن فرق الكثافة العددية.
وقد حذرت اليونسكو في الموجة الأولى من وباء كورونا من أن الانتقال إلى التعليم عن بعد بدلًا من المدارس بشكل مفاجئ سيحرم الملايين حول العالم من الخدمة التعليمية ممن لا تتوافر لهم المعرفة أو البنية التحتية أو الإمكانات المادية.
ولا يختلف الأمر على صعيد العمل فبينما تضررت فئات من الأزمة والإغلاق، فإن هناك مهن معينة كانت قادرة على التكيف مع الوباء بالعمل عن بعد، وهي مهن يربط بينها مستوى معرفي مرتفع ومستوى مادي متوسط أو مرتفع.
– الرعاية الطبية: تصدت حكومات العالم والقطاع الصحي الحكومي في بداية الأزمة لرعاية المصابين. وومع اتساع نطاق الأزمة وتزايد أعداد المصابين فوق قدرة المستشفيات الحكومية. أممت بعض الحكومات المؤسسات الصحية الخاصة بشكل مؤقت لمساندتها في استقبال المصابين، بالإضافة إلى تأسيس دول لمستشفيات ميدانية لتساند المستشفيات الموجودة، كما أدخلت حكومات أخرى القطاع الخاص ليساندها في الأزمة عبر تقديم خدمات طبية للقادرين على تحمل ثمنها.
إلا أن تزايد أعداد المصابين بما يفوق قدرات القطاع الحكومي دفع بغير القادرين إلى اللجوء إلى المؤسسات الصحية الخاصة، وقد لعبت مؤسسات المجتمع المدني دورًا في دفع المقابل المادي للرعاية الطبية لغير القادرين في المستشفيات الخاصة. وأما الحالات التي عجزت عن جمع المقابل المادي للمستشفيات الخاصة أو عن إيجاد “سرير”في الرعاية الحكومية، فإنها فقدت حقها في الرعاية الطبية واكتفت بالعزل المنزلي. وبينما وجدت طبقات ذات دخل مرتفع بسهولة رعاية طبية فإن الطبقات ذات الدخل المنخفض توقف حصولها على الخدمة الطبية على توافر أماكن في الرعايات الحكومية أو على قدرة المجتمع الأهلي على توفير أماكن بالمستشفيات الخاصة.
وقد دفع انتشار الوباء ومظاهر عدم المساواة والتداعيات السلبية لذلك إلى الحديث عن أهمية التضامن العالمي والاجتماعي في مواجهة الوباء، وإلى الحديث عن الخلاص الجماعي، في ضوء اليقين بأن وهم الخلاص الفردي لم يحقق أهدافه، وثبت أنه غير فعال في مواجهة الجائحة العالمية. إلا أن مرحلة اللقاحات لم تشهد تغيرًا ملحوظًا ولم تشهد نزوعًا نحو التضامن أو إيمانًا حقيقيًا بالنجاة الجماعية.
اللقاحات: تنافس دولي وتمايز محلي
تنافست دول العالم على اللقاحات حتى من قبل طرحها فعليًا بالأسواق، وبينما اشترت الدول الغنية الحصة الأكبر من شحنات اللقاح المتاحة، تعاني الدول النامية – التي تشكل أغلبية سكان العالم – من أجل تأمين احتياجاتها من اللقاح.حيث تشير البيانات إلى أن 14% من سكان العالم قد اشتروا ما يصل إلى 53% من اللقاحات. حتى أن نسبة التطعيم في 70 من الدول ذات الدخل المنخفض ستكون 10 % فقط.
ووفقًا لرئيس قطاع الصحة العالمية والصناعات الصحية في المنتدى الاقتصادي العالمي، فقد حجزت الدول الغنية نحو 9 مليار جرعة من اللقاحات من أصل 12 مليار جرعة تقريبًا. كما أكد مدير قسم العولمة واستراتيجيات التنمية بالأونكتاد معاناة الدول النامية والأشد فقرًا لبعض الوقت من عدم القدرة على الوصول إلى اللقاحات.
وقد عملت مبادرات إقليمية وعالمية على معالجة هذا الخلل، إلا أن فعالية هذه المبادرات تظل محدودة. ومنها COVAX التي عملت على توفير اللقاحات للدول منخفضة الدخل عبر تمويل الدول الغنية ومتوسطة الدخل، لكنها لم تنجح في توفير الكميات المستهدفة وينقصها التمويل. بالإضافة إلى مساعي الاتحاد الإفريقي ومركز مكافحة الأمراض في إفريقيا لتجميع التمويلات اللازمة لشراء اللقاحات وتوزيعها داخل القارة. وكذلك موافقة مجلس المديرين التنفيذيين للبنك الدولي في أكتوبر الماضي على حزمة تمويلية بقيمة 12 مليار دولار للبلدان النامية لشراء اللقاحات والاختبارات والعلاج والأدوية الخاصة بفيروس كورونا المستجد وتوزيعها على مواطنيها.
وقد عبرت رئيسة قسم اللقاحات في منظمة الصحة العالمية عن هذا التراجع في المكتسبات المتوقعة للأزمة، وتنافس الدول على اللقاحات على حساب الدول النامية والفقيرة بقولها: “لقد ضاعت الدعوات للتضامن العالمي”.
وسيعمق التوزيع غير المتكافئ للقاح من التفاوت الاقتصادي بين الدول، حيث ستخرج الدول الغنية من أزمة الوباء أسرع من نظيرتها الفقيرة التي لن تكون حصلت على اللقاحات وستظل تعاني من إصابات الفيروس وتداعياته على الاقتصاد، وتفاقم الديون، في الوقت الذي تكون فيه الدول الغنية لقحت مواطنيها، وبدات مرحلة التعافي ومعالجة الآثار الاقتصادية للأزمة.
وبالإضافة إلى ما سبق فإن هناك اختلافًا نوعيًا وليس كميًا فقط في امتلاك الدول للقاحات، حيث تتعاقد معظم الدول مرتفعة ومتوسطة الدخل على لقاحي فايزر وموديرنا للجانب الأكبر من احتياجاتها بينما تلجأ معظم الدول النامية إلى اللقاحات الصينية والروسية في الجانب الأكبر من احتياجاتها.
ولا تمثل اللقاحات نموذجًا لعدم المساواة العالمية فقط، إنما تجد صورًا محلية أيضًا، حيث تستورد العديد من الدول أكثر من لقاح لتغطية احتياجاتها، وتعمل بعض هذه الدول على تقسيم اللقاحات، وتلقي فئات معينة للقاحات معينة. حيث ستعمد بعض الدول النامية إلى استيراد كميات محدودة من لقاح فايزر للمسؤولين وكبار الشخصيات، فيما تعتمد في التطعيم الشامل على اللقاحات الصينية والروسية، وأن تتلقى الأطقم الطبية لقاح فايزر أو موديرنا أو أكسفورد حسب قدرات الدولة. كما ستحظى طبقة رجال الأعمال بالقدرة على الحصول على اللقاح الذي تثق به داخل أو خارج مظلة الدولة.
ضرورة المراجعة
رغم كل ما سبق فإن هناك ضرورة لمراجعة السياسات الاقتصادية والاجتماعية، فحتى مع تميز فئات ودول معينة بميزات علاجية وفرص أكبر في النجاة، وقدرة على التكيف مع البعد التكنولوجي، واتخاذ الإجراءات الوقائية والحصول على لقاحات أفضل. إلا أن دول العالم لن تعيش في عزلة على المستوى الدولي، كما لن يعيش أفراد المجتمع في عزلة على المستوى الفردي. وينبه هذا الاختلاط والتفاعل إلى أهمية إعادة التفكير والمراجعة من منظور براجماتي وسياسي، كما من منظور أخلاقي واجتماعي. وهو ما أيقنته مؤسسات المجتمع المدني وبعض رجال الأعمال الذين عملوا على توفير الرعاية الصحية لغير القادرين، وكذلك دعم توفير اللقاحات. إلا إنه لا تزال هناك حاجة إلى إدراك عالمي وحكومي يصحح مواطن الخلل في البنى الاقتصادية والاجتماعية، وإلى اقتراب فعلي من فكرة “وحدة المصير” يتجاوز التناول السطحي أو المتعجل والمتأثر بالأزمة دون إيمان بالنجاة الجماعية ودون إدراك لأهمية إعادة النظر في السياسات الاقتصادية والاجتماعية.