صدمت كثيرا حين علمت بخبر الإعلان عن تصفية شركة الحديد والصلب بدرجة تفوق صدمتي بكل تلك الأخبار المفجعة التي أصبحت تحيط بنا مؤخرا، تذكرت على الفور أبي رحمة الله عليه، لم يكن أبي أحد عمال الحديد والصلب ولكنه كان بالنسبة لي رمزا لكل عمال حلوان وكل عمال الأرض.
عشق أبي مهنته كثيرا كان أبي يعمل ميكانيكي في مجال صيانة معدات النقل الثقيل بشركة أسمنت بورتلاند حلوان، وإلى جانب عمله بالشركة كان يعمل مع صديق عمره ومعلمه «عم عبده أبو العلا» رحمة الله عليهما بورشة صغيرة يمتلكها «عم عبده» خاصة بصيانة السيارات، كان «عم عبده» كلما رآني يبادرني قائلا: «أبوكي دا أديه تتلف في حرير» كنت أطرب كثيرا عند سماع تلك العبارة.
أرى أبي الآن أمام عيني وهو في السابعة والسبعين من عمره قبيل وفاته ومازال يحلم بالعودة للعمل الذي تركه بعد أن أصيب بضعف شديد في نظره، آراه أمام عيني وهو يفتح ذلك الصندوق الذي يضع فيه «عدة عمله» يخرج كل قطعة وكأنها تحفة فنية، يمسكها بين يديه بحنو شديد وكأنها مولود حديث الولادة يخشى عليه من أن يتأذى من لمسه، يمسح كل قطعة ببطء وحب شديد حتى يشع بريقها من شدة اللمعان ثم يعيدها بذات الحنو إلى مكانها بالصندوق .. كان أبي يعشق «عدة عمله» كعشقه محبوبته.
أذكر من بين ما أذكر أنني كنت أعشق زجاجات الحليب وأنواع الجبن المختلفة التي كان أبي يتسلمها كل يوم من شركته خلال فترة السبعينيات، حين كان كل عامل من عمال شركات القطاع العام يتسلم وجبة يومية عبارة عن لتر من الحليب والبيض ومجموعة من مكعبات الجبن والمربة والعسل، كان أبي يعود إلينا نهاية كل يوم بوجبته وحين تعاتبه أمي لعدم تناول وجبته خلال يوم عمله الشاق يبادرها القول بأنه لا يستطيع أن يدخل فمه شيء دون أن نشاركه فيه، وقبيل المولد النبوي كان يتسلم علبة حلاوة المولد التي كنت أفرح بها كثيرا أنا وإخوتي.
كان أبي يعتز كثيرا بكونه عامل وبانتمائه لشركته كان يحتفظ بالكثير من الميداليات التي نقش عليها اسم شركته «شركة أسمنت بورتلاند حلوان» برسوم وزخارف مختلفة الأشكال ودائما ما كان يتحدث عن جمال عبد الناصر بفخر واعتزاز فهو الزعيم الذي أسس مصانع وشركات حلوان وهو الزعيم الذي بنى السد العالي، ثم يعود ليطوف بحديثه على كافة شركات حلوان ممتدحا كل شركة وفقا لتخصصها، فشركته أفضل من ينتج الأسمنت وشركة الحديد والصلب هى أول شركة بالشرق الأوسط لإنتاج الحديد والصلب وشركة مصر حلوان للغزل والنسيج هى الشركة التي كانت تنتج «كسوة الكعبة» وهكذا .. تُرى كيف كان سيصبح حال أبي لو أنه مازال حيا بيننا اليوم حين يتلقى خبر تصفية شركة الحديد والصلب؟!
حي حي .. عبد الحي .. هيفضل حي
تخرجت من جامعة القاهرة عام 1991 بعد أن حصلت على ليسانس الآداب في مجال علم الاجتماع وحين شرعت في العمل في المجال البحثي لم يكن أبي متحمسا لطبيعة عملي كباحثة فقد كان يرغب في أن أعمل في مجال التدريس كبنات أعمامي كي أذهب للعمل في وقت محدد وأعود للبيت بوقت محدد، ورغم عدم تحمسه لطبيعة عملي وجدتني مدفوعة دفعا للاهتمام بقضايا العمال ضمن عدد أخر من الاهتمامات وحتى الآن لا أدري أهو حبي لأبي الذي دفعني نحو هذا الاهتمام أم وحدها الظروف التي قادتني في بداية عملي للمشاركة كباحثة ميدانية بمشروع بحثي عام 1995 يحمل عنوان «الفقر والافقار في حضر مصر» أجرى بدار الخدمات النقابية بحلوان، تحت إشراف دكتور محمد دويدار، ودكتور حسنين كشك، لتبدأ رحلتي في التعرف عن قرب على عالم العمال وقضاياهم ليس من خلال عيون أبي الحالم العاشق لمهنته ولكن من خلال فئات شديدة التنوع والاختلاف من عمال حلوان وشبرا والمحلة والإسكندرية وكفر الدوار.
كان «عم فوزي محمدين» رحمة الله عليه أحد القيادات النقابية بشركة الحديد والصلب آنذاك أول من فتح لي الباب السحري لعالم عمال حلوان حين طاف بي على عدد من بيوت عمال شركة الحديد والصلب بمدينة العمال الواقعة بمدينة التبين بجوار الشركة، ومنها لعمال الشركة المقيمين بمنطقة الصف وغيرها من القرى المحيطة بحلوان.
تعرفت من عمال شركة الحديد والصلب على طبيعة مشكلاتهم وتاريخهم النضالي في مجال الدفاع عن قضاياهم، توقفوا بفخر شديد عند اعتصام 1989 وحادثة استشهاد عامل الشركة «عبد الحي» الذي أصبح رمزا لصمود العمال، بات هتافهم الشهير «حي حي .. عبد الحي .. هيفضل حي» واحدا من أشهر الهتافات التي كانوا يعودون إليها حين تضيق بهم السبل.
تأسست شركة الحديد والصلب عام 1954 بقرار من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كأول شركة بالشرق الأوسط لإنتاج الحديد والصلب وكواحدة من أهم قلاع الصناعة المصرية وبعد مرور 67 عاما على تأسيس الشركة ها هى الجمعية العامة غير العادية لشركة الحديد والصلب المصرية التابعة لشركات قطاع الأعمال تتخذا قرارا بتصفية الشركة بدعوى أن قرار التصفية إنما جاء نتيجة ارتفاع قيمة خسائر الشركة وعدم قدرتها على العودة إلى الإنتاج والعمل مجددا؟!
تم اتخاذ قرار التصفية بإجماع المساهمين ورفض ممثلي العمال الذين يرون أن خسائر الشركة كان من الممكن تلافيها إذا ما وضعت خطة محكمة للتعامل مع أسباب تلك الخسائر ووفقا لما أعلنته شركة الحديد والصلب المصرية عن قيمة خسائر الشركة فإنها قد بلغت خلال الفترة من يوليو 2019 حتى 30 يونيو 2020 نحو 982.8 مليون جنيه في مقابل 1.5 مليار جنيه قيمة الخسائر عن ذات الفترة بالعام السابق له، فيما بلغت إجمالي الخسائر نحو تسع مليارات جنيه.
حقيقة الأمر أن الصناعة المصرية هى الخاسر الأكبر من تصفية شركة الحديد والصلب المصرية التي كانت تستوعب نحو 26 ألف عامل قبل أن تتقلص العمالة بها مؤخرا لتصبح نحو 7300 عامل وتبلغ مساحة منشآتها نحو 2500 فدان، فهل فكر أصحاب القرار في مصير عمال الشركة ومنشآتها؟! .. وهل فكروا جديا في مصير ومستقبل الصناعة المصرية التي كانت شركة الحديد والصلب بمثابة القلب منها؟! .. سوف يسطر مؤرخي تاريخ الصناعة بمصر يوم 11 يناير 2021 بوصفه «يوم أسود» في تاريخ الصناعة المصرية، لا يقل في سواده عن خمسة يونيو 1967 .. لا نعزي عمال شركة الحديد والصلب في فقدان شركتهم فحسب .. بل نعزي أنفسنا في فقدان واحدة من قلاع مصر الشامخة التي ظلت لما يقرب من سبعة عقود خير شاهد على بناء وتطور الصناعة المصرية خلال النصف الثاني من القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين