رؤى

إشكاليات التكفير الجماعي وأولوية إقامة الدولة (٣)

الأزمة داخل الحركة الجهادية..

عرض وترجمة: أحمد بركات
يعتبر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) تنظيما طائفيا بامتياز، حيث يرى أن مهمته تتمثل في إبادة المذهب الشيعي وتدمير الرموز الصوفية. ويسعى التنظيم إلى منح هذا العنف الدموي غطاء عقائديا يتمثل في التكفير الجماعي. ففي فيلمه الوثائقي “معذرة إلى ربكم” المنشور في أبريل 2020، يوبخ تنظيم الدولة الإسلامية نظيره القاعدي لرفض الأخير الاستهداف الطائفي بحجة أن ذلك من شأنه – من وجهة نظر تنظيم القاعدة – تبديد الدعم الشعبي وتنفير السكان المحليين وتكوين رأي عام مضاد.

كما يسلط الوثائقي الضوء على البيانات السابقة لأيمن الظواهري التي يرفض فيها منح الأولوية لقتال الشيعة، ويعذرهم بالجهل، ويشدد على أن أفضل طريقة للتعامل معهم تكون بالدعوة والموعظة الحسنة والتربية، وليس بالصراعات الطائفية والقتل. كما ينتقده الوثائقي بحدة بسبب تواصله مع المسيحيين الأقباط في مصر ووصفه لهم بـ “شركائنا في الوطن”. كما ينتقد الوثائقي أيضا حركة طالبان، بسبب – بحسب روايته للأحداث – حمايتها للشيعة الهزارة بدلا من القضاء عليهم.

أيمن الظواهري
أيمن الظواهري

ويشكل قتل إخوان الدين الصعوبة الأكبر على الجهاديين من وجهة نظر الفقه “الإسلامي” ومن منظور العلاقات العامة. ومن ثم، ليس مستغربا أن هذه الممارسة قد أطلقت العنان لانتقادات حادة من قبل جهاديين آخرين يثير هذا العنف، وما يترتب عليه من تداعيات سياسية، مخاوفهم. وطالما كانت ممارسة التكفير، خاصة الجدل حول التكفير الجماعي للشيعة والصوفية، نقطة ضعف كبرى للإسلامويين المتشددين الذين يحاولون بقوة التخفف من وطأتها عبر فروق ثيولوجية دقيقة. فقد شدد القاعديون البرجماتيون على أن التكفير يجب أن يُحصر في أفراد خاضعين لقواعد صارمة. بينما أصر تنظيم الدولة الإسلامية منذ نشأته الأولى مع أبو مصعب الزرقاوي، مؤسس تنظيم القاعدة في العراق، على أن التكفير الجماعي مباح لأن الجهاديين ليسوا في وضعية تتيح لهم الفصل في قضايا الردة بشكل فردي.

ويؤكد تنظيم الدولة الإسلامية أنه لا يعبأ بالرأي العام عندما يتعلق الأمر بأحكام “الشريعة”، ويتمسك بأن بعض المعتقدات والممارسات تلغي وضع الفرد كمسلم، ولا تترك للأتقياء أي خيار سوى وسم هذا الفرد بالكفر ما لم يعود إلى الطريق الصحيح. وبخلاف ذلك، فإن حياة هذا المرتد وممتلكاته لا تصبح مقدسة، ويجوز مصادرتها دون تأنيب ضمير. وتنطبق هذه القاعدة – بحسب تنظيم الدولة – على الشيعة، ولا يمكن تعطيلها بحجة اعتبار الرأي العام.

الدفاع عن التزمت

يستنكر تنظيم القاعدة وجهاديون آخرون آراء تنظيم الدولة الإسلامية، ويعتبرونهم خوارج هذا العصر، ومتطرفين يقتلون المسلمين، بمن فيهم الجهاديين، فقط لأنهم لم يعطوهم البيعة. وتمس هذه الانتقادات وترا حساسا لدى تنظيم الدولة، وهو ما يدل عليه حجم الوقت والجهود التي يمنحها التنظيم لتفنيد هذه المزاعم. ويؤكد تنظيم الدولة الإسلامية شرعيته الجهادية الحصرية، وأنه وحده حامل لواء التوحيد؛ ومن ثم، فهو يدافع عن نفسه ضد المرتدين والمنافقين الذي اتحدوا ضده.

تنظيم القاعدة
تنظيم القاعدة

ووفقا للفيلم الوثائقي “معذرة إلى ربكم”، الذي نشره تنظيم الدولة الإسلامية في أبريل الماضي، فإن تنظيم القاعدة يمارس حملة تشكيك موسعة ضد الموحدين الخُلص حتى في الوقت الذي يمتنع فيه عن التفوه بكلمة سلبية واحدة بحق العلمانيين والشيعة والمسيحيين والإخوان المسلمين. وباسم المصالح الاستراتيجية، يزعم القاعديون أنهم يتسامحون مع حلفاء يعتنقون مذاهب ونظريات تجديفية، لكنهم يرفضون الانضمام إلى تنظيم الدولة الذي نجح في بسط سيطرته على إقليم يطبق فيه الشريعة “الإسلامية”. ويزعم الوثائقي أن تنظيم القاعدة يتجنب الهجوم على المشركين (في إشارة إلى الشيعة والصوفيين) عن طريق عذرهم بالجهل، في الوقت الذي يضع فيه محاربة وقتل جنود تنظيم الدولة الإسلامية الصالحين كأولوية أولى.

ويصر تنظيم الدولة الإسلامية على رفض وسمهم بـ “الخوارج الجدد”، ويحرص على قلب الطاولة على تنظيم القاعدة بالتأكيد على أن قادته انحرفوا – بعد موت ابن لادن وأنور العولقي – عن النموذج السلفي، وتنازلوا عن قضايا جوهرية تتعلق بمسائل العقيدة. كما يؤكد تنظيم الدولة على أن القاعدة لم يعد كفؤا لقيادة الإسلاميين الآخرين في ميدان المعركة لأنه سوف “يقودهم إلى الضلال”. ويقدم تنظيم الدولة نفسه باعتباره الجماعة الشرعية الوحيدة التي تضع الجهاد في خدمة التوحيد، ولا تستخدمه لحساب أيديولوجيات ونظريات أخرى كالقومية والديمقراطية والشعبوية. كما أنه يصر على إقامة خلافة “إسلامية” دون اعتبار للمعايير والأعراف العالمية الحديثة، وعلى تطبيق الشريعة “الإسلامية” بموافقة العامة، أو بدونها، وعلى رفض التحالف مع غير المسلمين عملا بمبدأ الولاء والبراء. ويخلص إلى أنه بذلك سوف يتحقق له النصر، وسوف يجني ثمار الجهاد، أو يموت بشرف ليدفع قدما برؤيته المتجردة والخالصة.

التداعيات

في بدايتها، مثلت الحركة الجهادية بديلا واضحا للتوجهات الإسلاموية السائدة، وبخاصة جماعة الإخوان المسلمين ذات النشاط العالمي، والقوميين الإسلاميين ذوي النشاطات المحصورة إقليميا، والعلماء السلفيين الذين لا يمارسون السياسة. وأصبح السلفيون الجهاديون المؤيدين الأكثر شراسة للوحدة الإسلامية. لكنهم برغم ذلك – وهو ما يمثل مفارقة كبرى – لم يتحدوا قط في جبهة متماسكة. وبدلا من ذلك، انقسموا عبر اختلافات أيديولوجية واستراتيجية وتكتيكية جديدة، أبرزها قضايا التكفير الجماعي، والاستهداف الطائفي والمذهبي، والدولة الإقليمية الخاضعة لحكم الشريعة. وأدت هذه الخلافات إلى أندلاع العنف بين فصائل الحركة في العديد من الجبهات، مثل العراق وسوريا. كما أسفرت عن صدع عميق بين تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة كأكبر تنظيمين في الحركة الجهادية اليوم، وهو ما تمخض عنه اندلاع صراعات مكثفة داخل الطيف الجهادي في ليبيا واليمن وسوريا والعراق وأفغانستان، وفي الآونة الأخيرة في غرب أفريقيا.

جماعة الإخوان المسلمين
جماعة الإخوان المسلمين

ربما يشعر المراقبون الغربيون بالراحة بسبب هذه الصراعات داخل الطيف الجهادي، إلا أن هذا الشعور في غير محله على الإطلاق. فمنذ أحداث 11 سبتمبر، استفحلت أزمة عنف الجهاديين من حيث الحجم والنطاق، برغم تعقبهم من قبل قوة عظمى وتحالفات متعددة الجنسيات وحكومات محلية. وبينما كان المجتمع الدولي يتصدى لحركة جهادية عالمية واحدة تتخذ من أفغانستان مقرا لها، أصبح هناك اليوم حركتان تملكان فروعا تمتد في العديد من المناطق والدول.

والأخطر من ذلك هو احتمال قيام التنظيمين الكبيرين بشكل من أشكال المزايدة الإرهابية. فمن المعروف من دراسات عديدة أن التنظيمات المتشددة التي تواجه منافسين جادين عادة ما تلجأ إلى استراتيجيات المزايدة للحصول على نصيب أكبر من التغطية الإعلامية، والمجندين، والتمويل. فالفصيل الذي يواجه خطر التهميش والانكفاء في غياهب المجهول عادة ما يلجأ إلى تصعيد العنف لإظهار قدر أكبر من التمسك بالقضية.، أو قد ينخرط في ’إبداعات‘ إرهابية جريئة ومفاجئة كما فعل تنظيم القاعدة في 11 سبتمبر لإظهار فاعلية وكفاءة تفوق منافسيه.

11 سبتمبر
أحداث 11 سبتمبر

وبرغم هذه الديناميات، إلا أن الصراع بين الفصائل داخل الحركة الجهادية لا يزال يحمل نذر شر لها. فقد أظهرت الأبحاث أن الحركات الموحدة أكثر عرضة لتحقيق أهدافها من الجماعات المنقسمة على نفسها. فالجماعات المتحدة قادرة على نحو أفضل على تسخير الموارد ضد خصومها، والتفاوض بصوت واحد، وجذب رعاة خارجيين. وعلى الجانب الآخر، تبدد الحركات المنقسمة مواردها في حروبها ضد خصومها، وتكون عرضة لضغوط المنافسين على الزعامة من الداخل في المفاوضات، وتبدو كقضايا خاسرة للرعاة الخارجيين. كما تشجع الصراعات بين الفصائل على زيادة الانشقاقات عن الحركة باتجاه الدولة الرسمية، وهو ما حدث بالفعل في الجزائر في عقد التسعينيات، وفي العراق أثناء الاحتلال الأمريكي. وفي السنوات الأخيرة، دفع الصراع بين الفصائل داخل الحركة الجهادية ببعض الجهاديين إلى الانحياز إلى غير الإسلاميين لتحقيق التوازن ضد منافسيهم الجهاديين. ومن المثير للاهتمام أن الوثائقي الذي نشره تنظيم الدولة في أبريل 2020 يتهم جبهة النصرة، الجماعة الموالية سابقا لتنظيم القاعدة في سوريا، بالتعاون مع القوميين العلمانيين لمحاربة جنود الخلافة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

د. محمد حافظ – أستاذ شئون الأمن القومي في كلية الدراسات العليا البحرية في مونتيري، كاليفورنيا

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي ومراجع الدراسة باللغة الإنجليزية من هنا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock