ثقافة

ماركس ضد نيتشه.. رحلة الطريق إلى ما بعد الحداثة

صدر مؤخرا عند دار روافد للنشر والتوزيع بالقاهرة كتاب الدكتور محمد دوير” ماركس ضد نيتشه.. الطريق إلي ما بعد الحداثة” وهو أحد أهم الإصدارت الفلسفية التي صدرت مؤخرا، لكونه يتناول فيلسوفين من أهم الفلاسفة المعاصرين، واللذان يشكلان جزءا مهما في الثقافة العالمية الآن.

يناقش الكتاب علاقة ما بعد الحداثة ” الفكرة والمفهوم والتصورات” بفلسفتي كل من ماركس ونيتشه، ويطرح رؤية نقدية لعدد من القضايا التي يتم تناولها بوصفها مسلمات مفروغ من صدقها، من بينها علي سبيل المثال أن الصورة الراهنة للدراسات الثقافية إنما هي التعبير الأمثل والممثل الوحيد لما بعد الحداثة. ومن ثم يري المؤلف أننا أمام حالة إقصاء تاريخية كبري لمجمل الإبداع الفلسفي والأدبي الذي يخرج عن قواعد وتصورات ما بعد الحداثة كما وردت عند مجموعة من المفكرين الغربيين أمثال رولان بارت وجاك دريدا وجياني فاتيمو وليوتار وفوكو وغيرهم

دكتور محمد دوير - ماركس ضد نيتشة

بين الرأسمالية والحداثة

والمؤكد أن تصورا جديدا لابد وأن يطفو علي سطح الفكر العالمي،بمفاده أن ثمة ارتباط عضوي وتاريخي ومنطقي بين الرأسمالية من جهة كنظام اقتصادي/ اجتماعي تحيا البشرية في ظله الآن وأفكار الحداثة الغربية من جهة أخري، ذلك أن كل ما يتعلق بالحداثة هو بصورة ما انعكاس شرطي ومباشر لعملية التحديث التي جرت في رواق المجتمعات الأوربية ،فالعلاقة إذن شرطية بينهما، كعلاقة العلة بالمعلول والسبب بالنتيجة، بل واعتقد أن ما بعد الحداثة تدور مع الرأسمالية وجودا وعدما. وبناء عليه لا يمكن الحديث عن” ما بعد الحداثة ” على الصعيدين النظري والعملي دون أن يلوح في الأفق نظام جديد نتجاوز به المرحلة الرأسمالية، فلا يجوز – من الناحية المنطقية – أن يبقي السبب كما هو ثم نقرر – بقرار عقلي بحت لا صلة له بالواقع – أننا نمر بمرحلة ما بعد الحداثة، هنا تركت العلة المعلول، وانفصل السبب عن النتيجة، وبدت ما بعد الحداثة وكأنها أفكار لا تعبر عن حالة ميلاد من رحم المجتمع السابق، بقدر ما كانت تعبيرا عن حالة ضجر من طرق التفكير التقليدية، وبقدر ما جاءت تعبيرا عن المرحلة الثالثة من تطور الرأسمالي ( مركنتلية – صناعية – ما بعد صناعية)

ما بعد الحداثة

ويضيف المؤلف أنه إذا كنا بصدد البحث عن طريق لما بعد الحداثة، فلن نجد أماما- علي الأقل في الوقت الراهن – سوي صورتين لها، تمثلت الصورة الأولي في ” أبناء نيتشه” الذين استلهموا تراثه الفكري وقفزاته الفلسفية ومنطقه الذي يحارب به الميتافيزيقا والحقيقة والصدق؛ ليعيد النظر في مفهوم الإنسان ودور وأهمية اللاشعور مع نقد جذري لمفاهيم العلوم الإنسانية ومنطق نظرية العلم. وانطلاقا من مقولات نيتشه أسسوا لمنظومة جديدة في التفلسف وتناول التجربة الإنسانية، حتي تحولت ما بعد الحداثة – بصورتها النيتشوية – إلي الطريق الوحيد والمسار الإجباري لكل مثقف في دخول عالم ما بعد الصناعي، عالم الإمبريالية الثقافية كما أطلقت عليه. أما الصورة الثانية فقد نجدها لدي ماركس، حيث أسهم ” رفاق ماركس” في توطين الحداثة الثورية التي تمثلت في البلدان الاشتراكية والأحزاب الشيوعية خارج منظومة الكتلة الاشتراكية والأممية والتحرر الوطني وكذا في إسهامات الماركسيين في النقد الأدبي والفني والسياسي.

الماركسية

ولكن، كيف نفهم إذن ماركس بوصفه ما بعد حداثي وهو لم يشر مباشرة لذلك المعني؟ وهذا أمر حقيقي فعلا، ولكن المصطلح لم يكن قد ظهر بعد، وبالتالي فليس ضروريا أن نجد المصطلح دارجا برسمه في كتابات ماركس، ولكن المؤكد أن سمات ما بعد الحداثة وتحديدا سمة التجاوز البنيوي تكشف عن نفسها بوضوح في كل إنتاج ماركس بل وممارساته السياسية، وبالتالي سنجد أنفسنا مضطرون إلي فهم دعوة ماركس لتجاوز الرأسمالية أي فهم الماركسية بوصفها “ما بعد الرأسمالية” لا يعني سوي ما بعد الحداثة .ذلك أنه من المؤكد أن الحداثة هي الشكل المعرفي لنمط الإنتاج الرأسمالي، ومهما تحولت وتغيرت صوره يظل قانون حركة رأس المال هو المحدد أو الموجه لنظرية المعرفة، ومن ثم فإن أهداف ومبادئ الحداثة هي ذاتها أهداف ومبادئ الرأسمالية بل لا أتجاوز حينما أقول أن الحداثة كانت أكثر التصاقا تاريخيا بالرأسمالية من الليبرالية كمفهوم، فالحداثة كانت أسبق تاريخيا في علاقتها بالرأسمالية– هنا لا يعتقد القارئ أنني أفصل بين الليبرالية والحداثة؛ فقط أردت أن أؤكد على ارتباط عضوي بين الرأسمالية والحداثة – وأن هناك فارق كبير بين الدعوة لضرب سلطة العقل بوصفها دعوة تخضع لمبدأ حرية التعبير وبين تطبيق ذلك عمليا، وهذا لم يحدث في المجتمعات ما بعد الصناعية التي يدعي الكثيرون أنها تعبير عن ما بعد الحداثة، فالذي يحدث من قبل مفكرين انحازوا ونظروا وفسروا مبادئ وشروط ما بعد الحداثة ليس سوي ممارسة حرية النقد التي اتسم بها الفكر الحداثي منذ انقلاب مارتن لوثر علي تعاليم الكنيسة وانقلاب فرنسيس بيكون على تعاليم أرسطو، ولا أعتقد أن انقلاب نيتشه أو غيره على سقراط أو كانط يرقى لدرجة ندعي فيها التجاوز إلى ما يدعونه بما بعد الحداثة

صور ما بعد الحداثة

إننا إذن إزاء صورتين لما بعد الحداثة، الأولي قدمتها المادية التاريخية بتأويلها للتاريخ وتنبؤها بالمستقبل،عبر الدراسات الماركسية التي شاركت في صناعة الثقافة العالمية المعاصرة، وفي تشكيل الوعي، وأثبتت أهمية الطبقة العاملة والشغيلة، وشاركت في بناء قوي التحرر الوطني، إنها جزء من واقع العالم، والرؤية العقلانية الوحيدة لمستقبله بعيدا عن الرأسمالية.أما الصورة الثانية، فقد طرحتها رؤى انطلقت من هدم كل شيء ورفض بناء أي بديل بالدليل النيتشوي التفكيكي الذي يخرج بناء عن دائرة التحضر الإنساني. وقد اختزلت تلك الرؤيتين في التضاد بين ماركس ونيتشه، ماركس الذي واجه الرأسمالية مواجهة علمية ومنهجية، وقدم نقدا يدعو به إلى تجاوز الرأسمالية وبناء عالم ما بعد الرأسمالية، ونيتشه الذي انشغل بهدم الميتافيزيقا وإعادة تأسيس المصطلح المعرفي بما يتوافق مع التحرر الذاتي للإنسان من عبوديته الأصولية من أجل خلق إنسان جديد، ينفض عنه غبار الماضي والماوراء، وإن ظل قابعا تحت سماء الاستغلال الذي يراه نيتشه قانون الحياة الذي يجب الحفاظ عليه ودعمه والفخر به.

الرأسمالية

ويرى “دوير ” فى كتابه أن ثنائية ماركس نيتشه ستستمر معنا في القرن الحالي” الحادي والعشرون ” وربما بصورة أكثر وضوحا من ذي قبل ، ذلك أن الماركسية أثبتت قدرة ما على تفسير الواقع والتعامل معه، وأن النيتشوية عبرت بوضوح وسخاء عن الطور المعاصر للرأسمالية العالمية،رأسمالية المستهلك- بحسب فريدريك جيمسون- التي توافقت تماما مع نظرية سلطة القارئ بوصفه زبونا مستهلكا للمنتج/ للنص، أي جزءا من تدوير حركة رأس المال بالمعني الاقتصادي. فالقرن الحالي إذن هو قرن التضاد والصراع الفكري بين النيتشوية والماركسية، تضاد يصل إلي حد النفي، بوصف النيتشوية مشروعا يهدم معظم المحددات الفكرية للحداثة، بل وللتاريخ البشري المكتوب، وكذا بوصف الماركسية مشروعا فكريا يبحث في ساحة الوعي ومعطاه الواقعي. إنه تضاد وصراع بين الإنسان كقوة عمل والإنسان المعاصر كهيولي للإنسان الأعلى، بين فيزيقيا الإنسان الذي يعتبره ماركس جزءا من الطبيعة، وميتافيزيقا الإنسان الذي ينشده نيتشه في المستقبل،هو صراع بين الإنسان في سعيه الثوري لتحقيق ذاته، والإنسان في سعيه الإرادوي لنفي وجوده الزائف وخلق وجوده الحقيقي بإرادة القوة. بين الإنسان بوصفه كائنا اجتماعيا والإنسان بوصفه ذاتا متفردة غير قابلة للاندماج أو الانقسام.

إن الحديث عن ماركس ونيتشه ليس حوارا بين فيلسوفين فحسب،وإنما هو بحث في امتداد فلسفتهما في الفضاء الثقافي العالمي، وبحث في تجليات أعمالهما في إبداعات المفكرين اللاحقين لهما، سواء أكانوا مفسرين أو نقادا، بهدف إخضاع المقولات الفلسفية لدي كل منهما إلى وضعيتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفلسفية خضوعا لا يقارن بحسب القيمة الفلسفية والأصالة الفكرية والمنهجية العلمية فقط ، وإنما جاءت تلك الضدية بالأساس انطلاقا من رؤية اعتقد فيها واعتنقها وهي أن كارل ماركس كان صوت سلب البرجوازية أي صوت الطبقة العاملة، وما يتبع هذا السلب من خصائص متباينة سحبت خلفها مقولات فلسفية عديدة ظهر بعضها في كتابات ماركس نفسه كالاغتراب والقيمة الزائدة والتفسير المادي للتاريخ ونظرية الثورة وفلسفتها ووظيفة الفلسفة ودورها في الحياة الإنسانية. والبعض الآخر في كتابات المفكرين الماركسيين الذي استكملوا مسيرة نقد الرأسمالية والدعوة لتجاوزها. وأن فريدريك نيتشه كان صوت الحرية الذي لا يقاوم، وصرخة التمرد التي لم يمحي صداها حتى الآن، وصاحب النصيب الأوفر في الاستدعاء الفلسفي والاجتماعي اليوم.

مسيرات مناهضة للرأسمالية

من هنا تكمن أهمية هذا التناول الذي انشغل به الكتاب، التناول الذي وضع كل من ماركس ونيتشه في تضاد فلسفي جذري وعميق، ثم وضعت الدراسات الثقافية والتجارب العملية أبحاثهما ومقولاتهما في حيز الفعل والتنفيذ والاستعداء والتناول، بحيث أضحي كل تجاهل لإبداعهما وإنتاجهما الفلسفي خروج عن دائرة الأثر والتأثير.. ولذلك تصبح هناك ضرورة لطرح قضية ما بعد الحداثة من منظور نقدي جذري، وليس من منظور نقدي جزئي فحسب، وأحسب أن العودة بالقضية/ الإشكالية إلى جذورها الأولى، إلى ماركس ونيتشه، هو المدخل المناسب لمناقشة هكذا قضية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock