ثقافة

“ميراث الشمس”: بين غواية المكان والبحث عن المفقود

المكان هو ” الكيان الاجتماعي الذي يحتوي على خلاصة التفاعل بين الإنسان ومجتمعة ولـذا فشأنه شأن أى نتاج اجتماعي آخر يحمل جزءآ من أخلاق وأفكار ووعى ساكنيه”(1 )

وفى رواية “ميراث الشمس ” (2)يعد المكان عنصرًا فاعلا حيث تدور أحداث الرواية  فى فنـدق الماجيستيك بالأقصر، التى لايمثل حضورها مساحة كبيرة داخل السرد الروائى لأن حركة الشخوص تدور فى المكان الأصغر وهو فنــدق الماجيستيك،  مسرح العلاقات والأحداث الذى يجمع أبطال الرواية بقصصهم المختلفة ، التي ربطت بينهم رغبتهم الملحة للهروب واللجوء إلى أبعد مكان ينشدون فيه الراحة والبحث عن المفقود داخل ذواتهم

يبدأ السرد بتأريخ لبناء الفندق  حيث ” يقع فندق الماجستيك القديم والذي بني منذ منذ ثمانين عامًا في بداية شارع المحطة بالأقصر أمام مكتب البريد، كان قصـرًا خاصًا بالسحرة في العهد الملكي يسمى قصر الماجستيك ” (3)

يسكنه مجموعة من الغرباء يجمعهم الماجيستيك بغرف الطابق الثاني

الغرفة الاولى يتشارك فيها أكرم الدمرداش مع خالد الجيار وعوض المعداوي

ثم غرفة يتشارك فيها أشرف مطاوع وطلعت الحجاجى وفوزى الجرجاوي

بمواجهتهم غرفة تشاو يونج الصينية ورانيا البصراني

الغرفة الرابعة يقطنها نزلاء عابرون يمضون فيها ليلتين أو ثلاث ليال على أكثر تقدير

مدينة الاقصر
مدينة الاقصر

أكرم الدمرداش

الشخصية المحورية : مصور سينمائي خريج معهد السينما صور مجموعة أفلام تسجيلية يمر بأحداث كثيرة فى رحلة عملة ليتخذ قراره بالعودة الى الأقصر خالعا رداء المصور ليرتدى ثوب بائع الصحف القديمة وبدلا من العيش بشقته يعيش فى فندق الماجيستيك

” لى شقة مغلقة فى شارع التلفزيون لم أشأ أن أسكنها لأن أبي مات فيها، واكتشف الجيران وفاته بعد أن فاحت رائحته، ففضلت أن أسكن في فندق حتى لا أموت وحيدا مثله” (4 )

فيعيش فى الفندق منذ ثمانية أعوام ويتعرض لحادث سير، فيصاب بالصمم على إثر كسر فى الجمجمة أدى إلى إصابة مباشرة في عظمة الفص الصدغي الموجودة فوق الأذن مباشرة مما نـتج عنـه إصابة العصب السمعي بتهتك شديد

ثم تبدأ الرواية فى الكشف عن قصص الشخصيات المرافقة للبطل في حالة اغترابه وهروبه فى محاولة للبحث عن المفقود داخل ذاته

طلعت الحجاجى

” جاء طلعت الحجاجى إلى الأقصر في نهاية 2015 ، كان عمره وقتئذ ثلاثة وعشرين عامًا، شاب تفترش على وجهه علامات الحيرة والترقـب، عيناه زائغتان، لا تستقر نظراته على وجـه محدثه، بل كان ينظر إلى ما خلفه، يرتدي جلبابًا ويضع حول رأسه ورقبته ملفحة قطنية تخبىء بعضًا من ملامحه، لم يكن يحب الجلوس في ردهة الدور الثاني بفندق الماجيستيك كثيرًا في ظل وجـــود باب مفتـــوح دائمًا، وإن فعله افيغوص في الأريكة التى أجلس عليها، ويشد أكمام جلبابه إلى كفيه برغم أنه يرتدي أسفلها قميصًا أبيض” ( 5)

الوصف هنا بروعته ودقته أعطانا ملامح عن الخوف والقلق الذى تبدو عليه شخصية طلعت ومن وصف ما يلبثه لنا أن نتوقع أنه صعيدي فارا من حادثة ثأر وهذا ما ستكشف عنه الأحداث فيما بعد بالفعل

يعمل على عربة متنقلة يبيع عليها لوازم صغيرة  من أقفال وأقلام وسكاكين …….إلخ

وتتــكشف حالة الاغتراب أكثـر عندما نعرف أنه طلعت نـجيب جـورجي دخل الإسلام فى أوج  حـكم الإخوان ولا زال رواد الفندق يتعاملون معه بريبة ربما من الصليب الذى لازال منقوشا على يديه أو تـثـليثه يوميا خفية  قبل أن ينام

فوزى الجرجاوي

فوزى أيوب المسلوب جاء من جرجا ليبيع الأقمشة فى مطلع 2010  يـخرج يوميا مع العاشرة حــاملا صــرة فـوق كتــفه  فى مفـارقة ضـاحكة فــر من زوجته التى جرب معها كل وسـائـل منع الحمل ومع ذلك أنجبت له 9 أولاد فــلم يــجد حـلا سوى الفرار منها إلى الأقصر ولا يعود إلا فى وقت دورتها الشهرية،  يذهب لشارع الحمارة كــل خميس لمعاقرة المنحرفات  فى  بيت دعارة  يــشرب فيه الخـــمر ويـمارس الجنس فى كل مرة مع امرأة مختلفة فيرى فى معاشرته للساقطات الحل فى هذه المسألة ” يعرف أنه لو نـام مع كل ساقطات المنزل الحمارة فلـن يحملن منه لأنهن محصنات،  ولو حدث فسوف تتخلص منه تلقائيًا ”  (6)

فيبحث عن المفقود فى علاقته بزوجته التى فر منها بإشـباع غريزته باللجوء لمنزل الحمارة

عوض المعداوي

نشأ فى أسرة فقيرة من قرية الطود وجاء إلى الأقصر وكان والده شيخا يعمل الأحجبة لحل مشاكل أهل قريته الاجتماعية، امتهن مهن عديدة حتى قادته الظروف الى فندق الماجيستيك وتعرف على صاحبه “مرتضى الشاعر” وعينه حارسا على مخزن الآثار الذى أصبح فيما بعد مخزن أكرم للصحف القديمة وبعد استقرار صاحب الفندق فى القاهرة أصبح عوض المعداوى مسئولا عن الفندق وكان يؤجر مواسير الصرف للفتيان ليشاهدو تشاو يونج يوميا وهى تستحم مقابل خمسين جنيهًا للمرة الواحدة من الساعة الثانية عشرة للواحدة صباحا،  فضل  البقاء عازبا لأنه كان يخشي الخيانة وكان يعــتقد أن كــل الزوجات خائنات يقول ” لو عاد كل رجال البشرية ذات يوم من أعمالهم في وقت واحد لاكتشفوا الخيانة متجسدة فى أبشع صورها فى غرف نومهم “(7)

ويظهر التناقض هنا بين طرده للنساء والرجال ممن جاءوا ليمارسوا الجنس وليس للسكن ويصر على طهارة الفندق من أى دنس ومع ذلك يؤجر مواسير الصرف للفتيان لمشاهدة تشانج يونج وكأن المواصير ليست جزء من الفندق

أشرف مطاوع

تاجر الأقمشة يسكن بالقاهرة بمدينة نصر بشقة كبيرة فى الدور الثالث / جاء إلى الأقصر بنهاية عام 2009 بعد أن احترق متجر الملابس الذي كان يستأجره فى الموسكي بعد حريق هائل، كانت فكرة الابتعاد عن القاهرة والسفر إلى مكان ناء قد استقرت في ذهنه إذ نصحه تاجر ملابس من الأقصر أن يأتى إليها فالفرص مازالت سانحة للغرباء ،يبيع بدل الرقص للسائحات وراقصات الفنادق ويعود لزوجته نعمات عبدالتواب وابنه الوحيد كل شهر ليعوضهما عن غيابه عنهما

حريق الموسكي
حريق الموسكي

خالد الجيار

الفنان التشكيلى والاستاذ بكلية الفنون الجميلة بالزمالك الذى هرب إلى الإسكندرية ليتناسى خيانة زوجته مع صديقة عبر رسائل الفيس بوك ”  وحينما بدأت أتعافى من رؤيتها لاحقتني طليقتي لى باتصالاتها بعد أن اكتشفت أنها حبلى، أغلقت في وجهها الهاتف أكثر من مرة ، بعد أن سببتها وشتمتها بأقذع الشتائم ، وغيرت …..لذا قررت أن أبتعد نهائيًا إلى أقصى مكان في العالم ،أن أذهب إلى الأقصر ” (8)

لتتحول لوحاته التى كانت  تنتقد الحياة السياسية فى مصر إبان عصر مبارك لتصبح نابعة من التعري والتكشف لنساء كانت تربطه بهن علاقات

رانيا البصراني

فتاة من البدرشين تخرجت فى معهد الاتصالات اللاسلكية  أتـت إلى الفندق 2016 ، لـتسوق لمنتجات التجميل “ماجى ريموف ” وكان فرارها إلى الأقصر لتعمل بعد قصة زواج عرفى بزميل لها مات قبل أن يتقدم لها رسميًا وكانت تعمل فى مصنع بالعاشر من رمضان يبيع منتجات ماجي ريموف” وطلبت منهم أن تبيعها فى الصعيد ،فرارا من أسرتها التى  لن ترحمها،  لتختبىء فى أبعد مكان هربًا ممن يطلب خطبتها من الشباب، لتعوض حرمانها بعلاقة على الواقع الافتراضي مع خالد الخيار

تشاو يونج

التى هاجرت لمصر، بعد تخرجها في كلية العلوم الرقمية بشنغهاى،   وتقول ” إن الشباب فى الصـين منقسمون إلى فئتين : منتجون يعملون في المصانع الصينية لإنتاج الهواتف، ومسوقون يطوفون دول العالم الثالث لبيعها بأسعار متفاوته للوصول إلى ربحية أعلى وأنها فشلت في أن تكون من فئة المنتجين لذا جاءت للأقصر كي تسوق الهواتف الصينية ” (9)

نـلاحظ أن كل الشخصيات على اختلافها تربطهم جميعًا رابـط واحد وهو الهروب والبحث عن شىء مفقود داخل ذواتهم  كالرغبة فى الأمان أو التعويض عن أحلام موؤدة أو البحث عن الذات وتحقيقها

” ولو كان نزلاء الفندق يجـدفون في كل اتــجاه إلا أننا نسـتقل مركبًــا واحـدًا في بــحر تتــقاذف أمواجه كل من يقـف أمامها ”  (10)

بالإضافة  إلى شخصـيات فندق الماجيستيك ، هناك أيضًا خارج الفندق شخصيات أخرى متعلقة بالبطل وتدور فى فلـكه وتجمعها نفس حالة قاطنى الماجيستيك

المرأة فى الرواية

لم تخرج  صورة المرأة فى الرواية عن  النظرة المعتادة الظالمة  للمرأة في كثير من الموروثات أنها رمز الخيانة فعـوض المعداوى يفضل الرهبنة على أن يتزوج فكل النساء خائنات من وجهة نظره

“ولو عاد كل رجال البشرية ذات يوم من أعمالهم في وقت واحد لاكتشفوا الخيانة متجسدة في أبشع صورها في غرف نومهم / وأن رهبنته الناجمة هن خشيته من فكرة الزواج قد يوقعه يومًا في زوجة خائنة قد تقضي على سمعته التي ظل طيلة حياته يحافظ عليها ” (11)

وتنــكشف أيضًا قصة خيانة زوجة خالد الجيار فى الرواية التى فر على إثرها إلى الأقصر

الخيانة الزوجية

لتؤكد تلك القصة قناعات عوض المعداوى وتتسبب فى سفر فوزى الجرجاوى المفاجي إلى قريته ليتأكد من براءة زوجته وبعد تأكده من براءتها يقول ” ليس ذلك لأنها عفيفة وطاهرة ولا يمكنها أن تقــرب الزنا، لكنها ليست المرأة التي يرغبها رجل آخر غيره ” (12)

ونرى كذلك شخصية ” نعمات عبدالتواب” زوجة أشرف مطاوع  والتي تكشف الأحداث أنها هى نفسها الراقصة سهير السنباطى التى رسمها خالد الجيار فى إحدى لوحاته

تظهر أيضًا شخصيتان نسائيتان متشابهتان داخل الرواية كل منهما كانت تبحث عن شىء مفقود داخل  أكرم الدمرداش وحينما فشلتا فى إيجاده تخليتا عن قصة حبهما له هما :سحر النجار وهيام عبداللطيف الأولى: هي ” ابنة السفير التى تخرجت فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية والتحقت بقسم الدراسات الحرة فى معهد السينما، كانت ترغب فى دخول المعهد بعد نجاحها فى الثانوية العامة ، لكن أباها السفير المفوض في سفارة مصر بأوغندا أرغمها على دخول كلية السفراء، وحينما تخرجت فيها خاضت معركة طويلة معه كي يوافق على دراستها فى معهد السينما “.  (13) فعملت مساعدة للمصور أكرم الدمرداش ومابين رغبتها فى تكملة قصة حبها مع أكرم وعملها كمصور سينمائى انتهى الأمر لغلبة رغبات والدها بأن تعمل سفيرة وتذهب معه إلى سفارة إسرائيل كما نعرف بنهاية الأحداث

أما هيام عبداللطيف فهي الممرضة بالمستشفى التى كانت تتمنى أن تكون طبيبة ولكن نقص مجموعها 3% تسبب فى عدم دخولها كلية الطب تربطها بأكرم فى مرحلته الثانية كبائع صحف علاقة حب لم تكتمل بسبب إصرارها أن يعود لعمله كمصور سينمائى، وحينما واجه رغبتها بالرفض، قررت تعـويض حلمها بأن تصبح طبيبة بالزواج من الطبيب المشهور الذى يكبرها

نقطة التحول فى الأحداث

هناك عدة  محطات لكتابة التاريخ بعدسة مصور سينمائئ اكتشف أن هناك نوع من تزييف للوعى يحدث فى كل فيلم يتم تصويره بدء من فيلمه على بك الكبير ، سعد زغلول، هوجة عرابي ،مسجد خاير بك، الذى  يعرف بعد ذلك   قصة خيانته  لطومان باى وتسمية المصريين له بخاين بك ، وكذلك فيلم ” أحزاب فى مهب الريح ” الذى كان يروج لدور الحزب الوطنى ويقزم باقى الأحزاب الأخري

وفى آخر فيلم له  “مجدل شمس” تظهر مسألة التطبيع التى تناقشها الرواية على لسان أبطالها  مابين مؤيد ومعارض ومستشرف للأمور يقول :

على لسان رامي زلط المخرج” التطبيع قادم لامحالة ، فقادة الدول العربية سوف يقومون بالتطبيع فى المستقبل ” (14)

التطبيع مع إسرائيل

وعلى لسان جبريل السمري

” التطبيع فكرة ابتكرها اليساريون لإنكار الجهود السياسية للتعايش السلمي ” (15)

هنا كانت نقطة التحول في حياة أكرم الذي يرفض فكرة التطبيع ، حيث يقرر  ركوب القطار المتوجه للأقصر، وتمزيق جواز سفره، ليعود إلى ذاته ، “الوقاد ” لتنتهى الرواية  بالبطل وكأنه كائن ضوئي يستمد ضوءه الساطع من ضوء شمس متعاقب عبر آلاف السنين ليسمو للإنسان الحلم المجرد من الأهواء أو النزوات أو الأيديولوجيات كائن افتراضى يدنو من الأرض ليصحح حركة التاريخ المشوهة  ” ويجمع البشر المعذبين السابحين فى الفضاء الافتراضي والواقعي معًا كي يصورهم بكاميرا متطورة جدًا ، ويضعهم فى أفق فضائي كبير ” (16)

الهوامش

1)ياسين النصير :الرواية والمكان ، دار الشئؤن الثقافية العامة ، بغداد ، الطبعة الأولى 1989

2) ميراث الشمس  ( رواية )  صادرة عن دار ابيدبي  للروائي عبدالسلام ابراهيم

روائى ومترجم مصري درس الأدب الانجليزى بكلية الأداب ، له العديد من الإصدارات مابين الرواية والقصة القصيرة ، كما قام بترجمة العديد من الروايات والمسرحيات والقصص القصيرة لأشهر الكتاب العالميين

من إصداراته

” جماعة الرب ” ( رواية ) صادرة عن دار العرب للنشر والتوزيع بلندن

“كومديا الموتى ” (قصص ) هيئة قصور الثقافة

” قادش الحرب والسلام ” ( رواية ) دار الهلال

” الطواب الأكبر ” ( رواية ) دار الهلال

” عرش الديناري ” ( رواية ) إبداع للنشر والتوزيع

” الملائكة لا تأكل الكنتاكي ” ( قصص قصيرة جدا ) فضاءات للنشر والتوزيع

” مسافة  قصيرة جدا للغرق ” ( قصص  )

3)ميراث الشمس صـــ7

4) المصدرنفسه صـــ37

5) المصدر نفسه صــــ38

6) المصدر نفسه صـــ50

7) المصدر نفسه صــــ58

8) المصدرنفسه صــــــ127

9) المصدرنفسه صــــ107

10) المصدرنفسه صـــــ140

11) المصدر نفسه صــــــ52

12)نفس المصدر صــــ53

13) المصدرنفسه صـــــ145

14) المصدر نفسه صــــ221

15) المصدرنفسه صــــ235

16)المصدر نفسه صـــ270

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock