رؤى

برلمان الثورة العرابية.. حلم ينتهي بكابوس الاحتلال

بعد استقالة حكومة شريف باشا بأيام، صدر المرسوم الخديوي في 4 فبراير من عام 1882 بتأليف وزارة جديدة برئاسة محمود باشا سامي البارودي، كانت المهمة الأولى لتلك الوزارة هي اعتماد مشروع أول دستور للبلاد «اللائحة الأساسية»، والذي تسببت بعض مواده في إسقاط حكومة شريف بعد صدامها مع مجلس النواب الذي تمسك بحقه في إقرار الميزانية، ضاربا عرض الحائط بالتحذيرات الفرنسية الإنجليزية.

اجتمعت حكومة البارودي في 7 فبراير برئاسة الخديوي توفيق للنظر في مشروع الدستور، فنقحته ثم أقرته وأرسلته بصحبة عبد الله باشا فكري وزير المعارف وحسن باشا الشريعي وزير الأوقاف إلى مجلس النواب ليبدي رأيه في تلك التنقيحات.

اجتمع مجلس النواب في نفس اليوم، وحضر الجلسة عبد الله باشا فكري وحسن باشا الشريعي، لتقديم مشروع الدستور إلى البرلمان، وصدق المجلس على النص المرسل من الحكومة والذي وردت به تعديلات طفيفة لا تخل بمقاصده وعلى رأسها مسائلة الحكومة أمام البرلمان واعتماد المجلس للميزانية.

عبد الله باشا فكري
عبد الله باشا فكري

مرسوم أول دستور مصري

وبعد انتهاء الجلسة، وقع الخديوي توفيق مرسوما بصدور الدستور، وفي اليوم التالي اجتمع مجلس النواب وحضر رئيس الحكومة البارودي باشا، وقدم الدستور إلى المجلس موقعا من الخديوي، وألقي خطبة تاريخية «كانت قطعة أدبية حول مبادئ الديمقراطية ووجوب تعميقها وتأصيلها والاهتداء بهديها في مختلف الميادين».

قال البارودي في كلمته أمام النواب: «أن مجرد وضع القانون على أصول الحرية وقواعد العدالة لا يكفي في وصولنا إلى الغاية المقصودة من اجتماع حضراتكم، بل لابد أن ينضم إلى ذلك خلوص النية من كل واحد منكم في المحافظة على حدود هذا القانون، ودقة النظر في الوقوف عندها بحيث تكون جميع الأفكار منحصرة في دوائرها، وقد قال عقلاء السياسة: أن الوصول إلى هذ النوع من الكمال أعنى حصر جزئيات الأعمال وكلياتها في دائرة القانون إنما ينال بعد العناء وطول التجارب، لكني لا أعد هذا صعبا عليكم»

وأضاف البارودي: «أني مؤمل فيكم أن تكونوا عضدا لنا وساعدا قويا على تتميم ما قصدنا ليستقر أمر النظام وتتوافر لدينا أسباب الثروة والرفاهية، ونحفظ الحقوق التي لنا ونؤدي الواجبات التي علينا ونوفي بجميع عهودنا لما عاهدناه».

وبعد انتهاء الجسة توجه النواب إلى السراي ليؤدوا للخديوي واجب الشكر، فلما مثلوا بين يديه تلقاهم بالبشر والإيناس، وفقا لما أورده المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي».

وفي يوم صدور الدستور، صدرت 3 مراسيم أخرى اتفقت الحكومة مع النواب على أن تصدر بها أوامر خديوية، الأول يقضي بجعل نيابة أعضاء المجلس القائم لمدة 5 سنوات، تبدأ من تاريخ انعقاده، والثاني ببقاء محمد سلطان باشا رئيسا للمجلس للمدة المذكورة، والثالث بتحديد مدة اجتماع المجلس في تلك السنة وجعل نهايتها في يوم 26 مارس سنة 1882، لتكون مدة الدورة النيابية ثلاثة أشهر.

الثورة العرابية والاحتلال الانجليزي

تربص إنجلترا وفرنسا

وكما أشرنا في الحلقة السابقة، فإن فرنسا وإنجلترا تأمرتا على أول محاولة لتأسيس نظام نيابي دستوري في مصر، وكما عارضتا المشروع الذي أعدته حكومة شريف باشا وأدى تدخلهما إلى استقالة الحكومة، استقبلتا إعلان الدستور في عهد البارودي بالسخط والاستياء، وأرسل الرقيبان الأوربيان كولفن وبلنيير مذكرة إلى قنصليهما بعد تشكيل الحكومة وقبل إقرار الدستور بيوم واحد يعترضان فيها على ما وصفاه بـ «الانقلاب»، الذي يمنح لمجلس النواب الحق في تقرير الميزانية، وحرضا حكومتيهما على التدخل لمنع صدور المرسوم النهائي للدستور.

وأشارت مذكرة الرقيبين إلى أن تغيير ميزان السلطة في البلاد من الخديوي والحكومة التي يعينها إلى مجلس النواب وبعض الرؤساء العسكريين الذين يخضع أعضاء البرلمان لنفوذهم، قد أدى إلى انقلاب خطير في نظم الدولة، وهو ما يؤثر على صلاحيات الرقيبين بل وإلغاء نفوذهما.

من ناحيتها سعت وزراة البارودي إلى إقناع الدوائر الأوروبية بأنها بإصدار الدستور لا تقصد المساس بمصالحها، وأرسلت مذكرة إلى معتمدي فرنسا وإنجلترا بتفسير مواد الميزانية في الدستور، لإثبات أنها لا تخالف في شيء تعهدات مصر المالية إزاء الدول الأجنبية، فسكتت الحكومة الفرنسية وقبلت بالاستقالة التي تقدم بها الرقيب دي بلنيير، وتم تعيين المسيو دي برديف بديلا له، أما الحكومة البريطانية فلم تر من مصلحتها التعجيل بالتدخل إذ كانت تترقب الحوداث للتدخل في مصر بمفردها دون أن تشاركها فرنسا أو تعارضها، «ذلك أنها رأت في تدخل الدولتين معا يحول دون تحقيق مطامعها في مصر، فآثرت الانتظار حتى يتسنى لها التدخل المنفرد».

محمود سامي البارودي
محمود باشا سامي البارودي

التعليم على أجندة برلمان الثورة

انعقد مجلس النواب بعد ذلك لاستئناف أعماله، وفي جلسة 9 فبراير 1882 اعتمد المجلس لائحة النظام الداخلي، وانتخب في جلسة أخرى الوكيلين، وأسفرت نتيجة الانتخابات عن فوز محمد بك الصيرفي ومحمد بك الشواربي لوكالة البرلمان.

وفي 15 فبراير اجتمع المجلس لبحث مقترحات النواب، ومنها عرض الحكومة للاتفاقيات والمعاهدات التي عقدتها مصر مع الدول الأجنبية أو مع رعايا هذه الدول، ووافق النواب على هذا المقترح، وقدم أحمد أفندي عبد الغفار تقريرا عن اختلال أعمال مصلحة المساحة وقلة فائدتها ووجوب سؤال وزير المالية عن ذلك، واقترح أمين بك الشمسي معالجة غلاء أسعار الغلال بمنع اتفاق التجار على رفع الأسعار ووقف تصديرها إلى الخارج، وبعد مناقشة المقترح اتفق الأعضاء في جلسة لاحقة على مكاتبة نظارة المالية بمنع تصدير الغلال إلى الخارج حتى يتم ضبط أسعارها داخل البلاد.

وفي 26 فبراير ناقش المجلس تقريرا قدمه عبد السلام بك المويلحي عن تعميم التعليم، ودعا ناظر المعارف العمومية إلى تقديم بيان للمجلس بحصر المدارس الابتدائية في القطر أميرية كانت أو غير أميرية، وما يمكن للنظارة إنشاؤه من المدارس الابتدائية، والعدد الذي يمكن تخريجه من مدرسة المعلمين، وتعيين لجنة من المجلس للنظر في الوسائل التي يمكن بها إنشاء مكتب ابتدائي (فصل) في كل بلد أو قرية ليس فيها مدرسة، على أن تدرس اللجنة جهدها لرفع نفقات التعليم في تلك المكاتب عن عاتق الحكومة، وقرر المجلس حضور وزير المعارف ومعه الكشوف المطلوبة.

وفي جلسة لاحقة عقدت في 12 مارس حضر وزير المعارف لتقديم البيانات التي طلبها النائب عبد السلام المويلحي، وعرض على نواب المجلس معطيات حالة التعليم في مصر، ورد على أسئلتهم بالتفصيل، وطالب منهم المساعدة في تأسيس بعض المدارس على نفقتهم. وأشار إلى أن مجلس المعارف الأعلى قد ألف لجنة فرعية لتحديد أنواع الدراسة في المدارس الحالية والمزمع إنشاؤها، ووعد بالحضور في أي وقت يستدعيه فيه المجلس لعرض المستجدات في هذا الملف.

وفي جلسة عقدت في نهاية شهر فبراير ناقش المجلس معالجة تضخم معاشات الموظفين والتي ذهبت بثروة بيت المال وألجأته إلى الاقتراض، واتفقوا على أن يطلبوا من الحكومة سن قوانين جديدة للمعاشات ويتم إحالتها إلى المجلس لدراستها، ونظر المجلس في ذات الجلسة مشروعي قانون أحالتهما الحكومة إليه للتصديق عليهما، الأول خاص بتوقيع المسوغات الشرعية للعقارات التي أُخذت لشوراع القاهرة وتغيرت معالمها بسبب الهدم، والثاني ببقاء الامتيازات الممنوحة للعربان في معافاتهم من الخدمة العسكرية وأشغال العون، وقرر المجلس إحالتهما إلى اللجنة الدستورية لدراستهما.

وتلقى المجلس مقترحا من النائب أحمد بك علي نائب إسنا بإنشاء خزان لمياه النيل في أسوان، وقدم النائب تقريرا مفصلا عن المشروع، وتم أخذ الآراء على هذا الاقتراح واتفق النواب على قبوله، وإحالته إلى الحكومة.

وتلقى المجلس تقريرا قدمه النائب عبد السلام بك خفاجي يتضمن انتخاب لجنة من النواب تكون مستديمة الاجتماع بعد انتهاء مدة الانعقاد للنظر فيما تضعه الحقانية من قوانين المحاكم النظامية وتقديمها في الفصل التشريعي المقبل، فاعترض النائب الموليحي على التقرير قائلا: «إن وضع اللوائح والقوانين من خصائص الحكومة، على أن اللجنة المطلوب تشكيلها في التقرير لا يصح أن تبرم أمرا من نفسها، بل لابد من عرض ما تراه على المجلس لينظر فيه، فالفائدة المترتبة عليها قليلة بالنسبة إلى صعوبة تشكيلها، فضلا عن مخالفة ذلك للنظام مخالفة صريحة»، واقترح عدم بحث التقرير، فوافقت الأكثرية على رأيه.

بعد أن انتهى المجلس من مناقشة عدد من المقترحات ومشروعات القوانين، أعلن سلطان باشا رئيس البرلمان في جلسة 12 مارس أن الحكومة بعثت بمشروع قانون الانتخاب، فتقرر إحالته إلى اللجنة الدستورية لبحثه وتقديم ملاحظاتها عليه، وانجزت اللجنة التقرير وأرسلته إلى المجلس.

محمد سلطان باشا
محمد سلطان باشا

وفي جلسة 22 مارس حضر 71 عضوا للنظر في تقرير اللجنة وإقرار مواد القانون، وتم الاتفاق على مناقشة مشروع القانون مادة مادة، وبعد إجراءا تعديلات طفيفة، تم إقراره وصدر به المرسوم الخديوي في 25 مارس 1882، وكان هذا آخر الأعمال التشريعية لمجلس النواب.

ويشرح المؤرخ عبد الرحمن الرافعي خلاصة هذا القانون قائلا: جعل انتخاب النواب على درجتين، فينتخب الناخبون مندوبين مئويين (عن كل مائة ناخب مندوب)، وهؤلاء المندوبون هم الذين يتولون انتخاب النواب، وقُيد حق الانتخاب بنصاب مالي، بأن يدفع الناخب في السنة من الضرائب أو الرسوم المقررة خمسة جنيهات على الأقل، وأُعفي من هذا النصاب الطوائف الممتازة، وهم: العلماء، والرؤساء الروحانيون، وحملة الشهادات العالية، والمدرسون في المدارس الأميرية والأهلية، والموظفون العاملون والمتقاعدون، والمحامون، والأطباء والمهندسون، والصيادلة».

وحدد القانون سن الناخب بـ21 سنة، وسن المندوب المئوي والنائب بـ 25 سنة، ونص على جواز انتخاب الموظفين الملكيين والجهاديين، على ألا يُقبل أحدهم في النيابة إلا بعد استعفائه من وظيفته، وجعل عدد النواب 125 نائبا، منهم 12 نائبا عن محافظات السودان ومديرياته، «وهي من القواعد العامة في هذا القانون، إذ جعلت من السودان جزءا لا يتجزأ من الدولة المصرية، وجعلت من السودانين مواطنين يتمتعون بالحقوق المخولة لسائر المصريين، وخول لمجلس النواب حق الفصل في الطعون الانتخابية»، يقول الرافعي.

اختتم مجلس النواب جلسات الدورة البرلمانية الأولى، يوم 25 مارس 1882، بحضور 73 عضوا، وبرئاسة سلطان باشا، وخصص الجلسة لتلاوة أجوبة الحكومة على مقترحات النواب، وقرر إرجاء بعض المقترحات والتقارير إلى الفصل التشريعي التالي.

نهاية برلمان الثورة

وفي اليوم التالي استقبل النواب رئيس مجلس الوزراء محمود باشا سامي البارودي الذي حمل المرسوم الخديوي المؤذن بانقضاء المجلس، وألقى بهذه المناسبة خطبة وجيزة أثنى فيها على النواب ومساعيهم المشكورة، وأعرب عن أمله في أن يشتغلوا خلال فترة العطلة بالمشروعات والمسائل التي ستكون موضع نظر في الدورة المقبلة.

منح الدستور «اللائحة الأساسية» أول مجلس نيابي مصري صلاحيات تشريعية ورقابية واسعة، إلا أن عضوية هذا المجلس كانت قاصرة على طبقة الأعيان وذوي العصبيات في المدن والأقاليم، «يمثلون طبقة واحدة في المجتمع، اللهم النزر اليسير من التجار ممن اُنتخب باعتباره من الأعيان، وخلا أيضا من الطبقات المتخرجة في المدارس العالية، لأنها لم تكن من ذوي العصبيات في المدن والأقاليم، ولأنها كانت منصرفة إلى مناصب الحكومة»، يتحدث الرافعي عن المكون الاجتماعي للبرلمان.

وعن الاختلافات بين هذا المجلس ومجلس شورى النواب الذي تشكل في عهد إسماعيل يقول الرافعي: « لم يكن يختلف في شيئ عن مجلس شورى النواب في عهد إسماعيل وكان من أعضائه نواب مخضرمون أدركوا النيابة في المجلسين، منهم محمود بك العطار وعبد السلام بك الشواربي وهلال بك منير ومحمد بك الصيرفي.. أدرك هؤلاء النواب عهد إسماعيل ولاحظوا الفرق بين المجلس السابق الذي كان أداة طيعة في يد الخديوي السابق وبين المجلس الحالي الذي كان مجلسا نيابيا كامل السلطة، بل كان بمثابة جمعية تأسيسية وضعت الدستور، وصارت الوزارة مسئولة أمامه».

الخديوي إسماعيل
الخديوي إسماعيل

كشفت المناقشات التي دارت في هذا المجلس عن دراية أعضائه بالأزمات والتحديات التي تواجه البلاد في تلك الفترة، ومن هذا المنطلق حددوا أولويات مجلسهم حيث وضعوا التعليم والقضاء والري والزراعة على رأس القضايا التي تحتاج إلى دراسة ومناقشة وحلول، وفي ذلك دلالة على أن مصر كانت على أبواب نهضة حقيقية.

ورغم الصبغة الطبقية والتمييز الذي شاب هذا المجلس، إلا أنه قام بدور مهم في وضع أسس وقواعد الحياة النيابية الدستورية السلمية، تلك القواعد تم نسفها بفعل فاعل.

ويقول الرافعي إن من سوء حظ مصر أن هذا المجلس لم يجتمع إلى في دور انعقاده الأول، «كان هذا الانعقاد هو الأول والأخير، فقد تلاحقت الأحداث على مصر في فترة العطلة، وانتهت بالاحتلال الإنجليزي، فألغى مجلس النواب وحل محله مجلس شورى القوانين المجرد من كل حول وسلطة».

…………………………………………………………………………….

«الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي» – عبد الرحمن الرافعي
«أحمد عرابي الزعيم المُفْتَرَى عليه» – محمود الخفيف
«التاريخ السرى لاحتلال إنجلترا مصر» – المستشرف الإنجليزي مستر ألفريد سكاون بلنت
«الدساتير المصرية- نصوص ووثائق» – تقديم أحمد زكريا الشلق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock