عشر سنوات من عمر الثورة .. عشر سنوات على صرخات الحرية التي سكنت الوجدان قبل الجدران .. عشر سنوات على «فن الجرافيتي» فن الشارع الذي تألق مع الثورة ثم سرعان ما اختفى .. هل حقا كُتِبَ على فن الجرافيتي الفناء؟ أم أن لهذا الفن جذور أعمق بوجدان الشعب المصري تجعله يخبو أو يختفي أحيانا لكنه أبدا لا يموت؟! .. تحضرني ذكريات الطفولة حين كنت أحبو وألهو ببيت جدي بحي السيدة عائشة يوم أن أحضر خالي ذاك «الفنان الشعبي» كي يزين جدران البيت الخارجية بفرشاته وألوانه الزاهية برسوم الحجيج «الكعبة والسفينة والجمل والنخلة» وعبارة «حج مبرور وذنب مغفور» استعدادا للاحتفال بعودة جدي رحمة الله عليه من أداء مناسك الحج.
فن الجرافيتي هذا الفن الشعبي الجميل المتجذر بوجدان الشعب المصري منذ العصور الأولى الذي اختفى بمرور الزمن وبشكل تدريجي من أحيائنا الشعبية عاد ليتألق مع ثورة 25 يناير 2011 التي منحته قبلة الحياة فأعادته حيا متألقا براقا يموج بصرخات الحرية والرغبة في انعاش ذاكرة الوطن بكل جميل وكامن بروح الشعب المصري الذي لم يرغب في شيء سوى العيش والحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.
فن الشارع .. «كن مع الثورة»
أبرز ما سحرني ومازال يسكن وجداني من فن الجرافيتي تمثل في تلك الجداريات التي رسمها فناني الجرافيتي على إمتداد ذاك الشارع الذي حار الثوار بشأنه هل يطلقون عليه لقب «شارع الثورة» أم لقب «شارع عيون الحرية» أنه «شارع محمد محمود» الذي شهد ملحمة الثورة مجسدة على جدرانه على يد عدد كبير للغاية من الفنانين بعضهم معروف بالاسم وبعضهم عُرِفَ باللقب وبعضهم لم يعرف على الإطلاق.
تعددت أدوات وأشكال فن الجرافيتي أو فن الشارع كما شاع عنه فإلى جانب رسم الجدرايات كان هناك «الجملة الرسالة» و «الستانسل» وهو عبارة عن تصميم يعتمد على اللونين الأبيض والأسود حيث يقوم الفنان بإجراء التصميم على ورقة بيضاء مع تقطيعه وتفريغه بآلة «الكاتر» ثم يلصق التصميم على الحائط ويرش بالألوان باستخدام البخاخ «السبراي».
ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي «تويتر وفيسبوك» على نشر فن «الستانسل» بطول مصر وعرضها حيث عمد بعض الفنانين ومنهم «جنزير» على نشر هذا الفن عن طريق نشر فيديوهات صغيرة على «تويتر وفيسبوك» توضح طريقة تنفيذ تلك التصميمات بعد تصميمها من قبل الفنانين.
«كن مع الثورة» .. ذاك الشعار الذي سكن الجدران المصرية على امتداد محافظات مصر واعتقدت ومعي الكثيرين أنه وليد ثورة يناير 2011 تفاجأت بأن مبدعه «محمد جابر» قد صممه خلال انتفاضة عمال غزل المحلة في 6 إبريل من عام 2008 فكأن ذاك الفنان المبدع قد رأى في انتفاضة عمال المحلة مجرد بروفة أولى للثورة التي تنبأ بها قبل اندلاعها فكان شعار «كن مع الثورة» رسالته لأهل مصر أن هبوا لتحقيق حلم الثورة الذي طال انتظاره.
شعار «كن مع الثورة» الذي ظهر في 2008 لم يكن الشعار الوحيد الذي ظهر قبل ثورة يناير 2011 حيث ظهر بالأسكندرية عام 2009 شعار مماثل وهو «كن مع الفن» كان هذا الشعار نتاج ورشة فنية ذات طابع ثوري نظمها عدد من فناني الجرافيتي بالأسكندرية باستوديو «فوق وتحت» الخاص بفنانة الجرافيتي أية طارق التي ذاع صيتها آن ذاك من خلال مدونتها «ملكة جمال الأزاريطة» .. كانت تلك الورشة الفنية مفتوحة لمن يرغب في المشاركة من فناني الأسكندرية ونتج عنها عدد من الشعارات التي انتشرت رسومها بشوارع الأسكندرية كان منها «الثورة تبدأ من هنا» و«غرباء في هذا العالم» و«لكن مع الفن».
شاع فن الجرافيتي على الجدران وحين أغلقت الشوارع الرئيسية المؤدية لمجلس الشعب ومقر وزارة الداخلية بوسط القاهرة بواسطة الخرسانات المسلحة أطلق فناني الجرافيتي مبادرة «مفيش جدران» ليرسم الفنانين على تلك الجدران شوارع مفتوحة تعبيرا عن رفضهم لغلق الشوارع بتلك الجدران المسلحة.
فن الجرافيتي الذي انتشر على يد فنانين غير معرفون في الغالب بالاسم مجرد مجموعة من الألقاب -جنزير .. المشير .. التنين .. ملكة جمال الأزاريطة- أو حتى دون تلك الألقاب لم يكن أبدا سلعة يملكها شخص بل هو فن يملكه الشارع فما أن يخرج العمل الفني ليسكن الجدران حتى يصبح ملك لكل من يمر بتلك الجدران فيمكن لأي شخص أن يضيف للعمل الفني أو يحذف منه وليس أبدع من ذاك الصراع الذي دار ما بين فلول «مبارك» ومؤيدي «مرسي» فهذا الفنان يقدم عملا ينتقد فيه «مبارك» فيأتي من يمسح اسم«مبارك» ويضع اسم «مرسي» فيأتي فنان بديع ليدلي بدلوه مستعينا برسوم الكرتون بشخصيات تخرج لسانها لبعضها البعض «الحيطة دي بتعاتي .. لا بتاعتي أنا».
أنا إللي فتحت الهاويس
طرح فناني الجرافيتي عبر أعملهم الكثير من القضايا السياسية والاجتماعية ومنها قضية مشاركة النساء بالثورة وما يتعرضن له من عنف بالمجال العام فكان ذاك التصميم البديع الذي صممه فنان الجرافيتي الذي يحمل لقب «المشير» وهو عبارة عن صورة للفنانة الجميلة شادية ويتضمن جملة «أنا إللي فتحت الهويس» في إشارة إلى مشاركة النساء القوية بالثورة.
يواصل فناني الجرافيتي دعمهم للنساء عبر تقديم صور العديد من النساء مقرونة بعدد من الرسائل «مصر جابت ستات» وصورة للفنانة البديعة سعاد حسني التي سكنت جدران شوارع مصروكأنها عادت من مرقدها لتشارك شعب مصر ثورته وهى تردد«البنت زي الولد» وأم كلثوم «أعطني حريتي أطلق يديا» وليلى مراد «عاشت مصر حرة».
حين تعرضت «سميرة إبراهيم» للتعرية بادر فناني الجرافيتي برسم صورتها مقرونة بعبارة «تحية إعزاز وإجلال ومؤازرة لسميرة إبراهيم بنت الصعيد» وحين تعرضت بعض الفتيات لكشوف العذرية انتفض فناني الجرافيتي بنشر العديد من الرسوم المناهضة للعنف ضد النساء مقرونة بالعديد من العبارات مثل «مش هتقدروا تكسروني» و«ست البنات» و«لا للتتحرش» و«لا للعنف» و«بنات مصر خط أحمر».
أما أجمل تلك الأعمال التي تحدثت عن معاناة النساء المصريات فقد تجسدت على يد فنانة الجرافيتي «هناء الديغم» عبر تجسيدها لجدارية النساء اللاتي يحملن على رؤسهن أنابيب الغاز في إشارة منها لتعدد وكثافة الهموم التي تحملها نساء مصر.
حنظلة .. مينا دانيال .. أنس
واصل فناني الجرافيتي رحلتهم مع قضايا الوطن عبر طرح موقفهم من القضية الفلسطينية «لا تصالح فليس سوى أن تريد» و«تحرير فلسطين يبدأ من تحرير مصر» ومن ثم ظهر «حنظلة» وليد فنان الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي ليشارك ثوار مصر ثورتهم فشاع «حنظلة» على جدران شوارع مصر تعبيرا عن تواصل النضال العربي، كما شاع استخدم فناني الجرافيتي للعديد من الأشعار وبعض آيات القرآن والإنجيل وشكل الفنانين فيما بينهم رابطة «فناني الثورة» فجاءت بعض جداريات شارع محمد محمود تحمل توقيع «رابطة فناني الثورة».
حاول فناني الجرافيتي توثيق أحداث الثورة وتخليد ذكرى شهداءالثورة على جدران مصر من خالد سعيد شهيد الإسكندرية التي انطلقت شرارة الثورة بدعوة من مؤسسي الصفحة التي اطلقت باسمه على فيسبوك «صفحة خالد سعيد» ومرورا بمينا دانيال شهيد مذبحة ماسبيروا والشهيد الشيخ عماد عفت الذي يعد رمزا لكل إسلامي مستنير والصحفي الحسيني أبو ضيف والفنان زياد بكير وغيرهم الكثير من شهداء الثورة.
جاب فناني الجرافيتي وفي القلب منهم شباب الألتراس شوارع مصر يبثونها صور شهداء أستاد بورسعيد وصورة الطفل الشهيد أنس صاحب أجمل ابتسامة تتمركز بين الشهداء إلى جانب صور أمهات الشهداء وشعارات «صاحبي مات» و«مرة واحد راح يشجع .. مات» و«م الموت خلاص مبقتش أخاف وسط إرهابك قلبي شاف الشمس هتطلع من جديد .. أسرق أمان خرب بيوت دا كان زمان وقت السكوت» و«المجد للشهداء» وجاءت جدارية «جوايا شهيد»للفنان محمد جابر على جدران شارع محمد محمود بمثابة تتويج وتكريم لذكرى شهداء الثورة.
على الجانب الآخر حارب مسئولي الأحياء فن الشارع فبادروا بمسح مختلف رسوم الجرافيتي من على الجدران بوصفها تمثل اعتداء على الملكية الخاصة والعامة ومن ثم تعرض عدد من فناني الشارع للملاحقات الأمنية وكان من بينهم علي الحلبي الذي تم اعتقاله خلال قيامه برش ستانسل «الرقص على أنغام الثورة»وخلال حملة «أسبوع الجرافيتي العنيف» تم اعتقال ثمانية من فناني الجرافيتي وغيرهم الكثير بالعديد من المناسبات المختلفة.
تمكن مسئولي الأحياء والمواطنين الشرفاء من محو جرافيتي الثورة من على الجدران لكنهم أبدا لم يتمكنوا من محوه من وجدان شعب مصر فمازالت تلك الشعارات التي بثها فناني الجرافيتي كامنة باقية .. «عيش .. حرية .. كرامة إنسانية .. الحرية جاية لابد .. كونوا واقعيين واطلبوا المستحيل .. قاوم .. أريد فقط العدالة .. أنا الشعب .. أنا إللي فتحت الهاويس .. الثورة مستمرة».