«الكلمة حق .. المسيح هو الكلمة .. لم تكن للمسيح من معجزة سوى الكلمة» .. استيقظت اليوم في الصباح الباكر وأنا أردد تلك العبارة بعد يوما طويل استعدت فيه كافة تفاصيل علاقتي بثورة 25 يناير 2011 .. لم أدري في حينها ما المقصود من تلك العبارة على وجه التحديد وما طبيعة الرسالة التي تحملها لي لكنني ما أن أفقت تماما من نومي حتى تذكرت على الفور تلك العبارة التي كتبها عبد الرحمن الشرقاوي على لسان «الحسين رضى الله عنه» في أجمل إبداعاته «الحسين ثائرا» عن الكلمة وقيمتها والتي طالما استمعت إليها بأصوات عدد من الفنانين المختلفين أقربهم إلي قلبي كان صوت عبد الله غيث «الكلمة .. أتعرف ما معنى الكلمة .. مفتاح الجنة في كلمة .. ودخول النار على كلمة .. وقضاء الله هو الكلمة .. الكلمة لو تعرف حرمة .. زاد مذكور .. الكلمة نور وبعض الكلمات قبور .. بعض الكلمات قلاع يعتصم بها النبل البشري .. الكلمة فرقان ما بين نبي وبغي .. بالكلمة تنكشف الغمة .. الكلمة نور .. دليل تتبعه الأمة .. عيسى ما كان سوى كلمة .. أضاء الدنيا بالكلمة .. وعلمها للصيادين فصاروا يهدون العالم .. الكلمة زلزلة الظالم .. الكلمة حصن الحرية .. إن الكلمة مسئولية .. إن الرجل هو الكلمة .. شرف الرجل هو الكلمة .. شرف الله هو الكلمة».
لا أدري لماذا أعادتني عبارة «الكلمة حق .. المسيح هو الكلمة .. لم تكن للمسيح من معجزة سوى الكلمة» إلى ذلك الصراع الداخلي الذي تملكني مدة عامين كاملين حين اتخذت قراري بوقف مسيرة عملي بالمجال البحثي، أشعر بان تلك العبارة ما هى إلا دعوة لإعادة اكتشاف علاقتي بعالم الكتابة والكلمة.
دعوني أعود لآخر مشروع بحثي شاركت فيه وكان بالاشتراك مع الدكتورة سلوى العنتري وعنوانه: «عمل النساء بالسوق بدون أجر» حيث شاركت بدراسة تحمل عنوان: «عمل النساء لدى الأسرة بدون أجر .. قراءة في تجارب النساء» طوفت بهذا المشروع بعدد من محافظات مصر «المنيا .. بني سويف .. الفيوم .. الجيزة .. القاهرة» أجريت العديد من المقابلات المتعمقة مع عدد من النساء يعملن بمشروعات تخص الأسرة دون أن يتقاضين أي أجر عن عملهن هذا وتنوعت نوعية أعمال النساء ما بين العمل الزراعي والتجاري والخدمي.
التقيت خلال زيارتي لمدينة بني سويف بسيدة تعمل مع زوجها بمحل لبيع الأدوات البلاستيكية بعد أن انتهيت من إجراء المقابلة معها حول عملها وطبيعة المشكلات التي تواجهها وكيفية تعاملها معها طلبت مني السيدة أن تستمع لجزء من تسجيل المقابلة على الفور لبيت طلبها -استمعت السيدة لبضع دقائق- أخذت خلالها أتامل ملامح وجهها الذى كانت تسكنه تعبيرات مزدوجة من الدهشة أحيانا والحزن أحيانا أخرى وحين اكتفت من الإستماع إلى صوتها قالت لي «كفاية كده، أنا عطلتك كتير» أجبتها «لا أبدا، ده من حقك» انتظرت بعض الوقت علها تعلق بشيء عما استمعت له لكنها لم تزد شيءً، بادرتها بالسؤال: «حسيتى بأيه وأنت بتسمعي صوتك؟» ترددت كثيرا ثم أجابتني: «أنا حسيت، أنا فرحت من جوايا، إن لسه فى حد، بيسأل على حد، ويشوف نشاطه، ويشوف شغله، وقد أيه بيكافح، ياريت كان من زمان، حد حس بالواحد، وقد أيه بيتعب ويشقى».
أعادني تعليقها لسنوات عدة سبقت هذا اللقاء في إطار مشروع بحثي آخر عن قضايا العمال حين التقيت مع عم عبد المقصود وكان يعمل حينها عامل نسيج بشركة مصر حلوان للغزل والنسيج فبعد أن انتهيت من إجراء المقابلة معه طلب مني أن يستمع لجزء من تسجيل المقابلة، كانت تلك هى المرة الأولى في حياتي التي يطالبني فيها أحد المبحوثين بالاستماع لصوته وبالفعل استجبت لطلبه وأخذت أراقب تعبيرات وجهه والتى كانت عبارة عن مزيج من الدهشة والفرح وحين اكتفى من سماع صوته -لدقائق عدة- بادر بإغلاق الكاسيت وبصوت عميق للغاية يختلف كثيرا عن صوته خلال إجراء المقابلة بادرني بالتعليق: «عارفه، ده أول مرة في حياتي، اسمع فيها صوتي» كان تعليقه هذا أحد أهم التعليقات إن لم يكن أهمها على الإطلاق التى استمعت إليها في حياتي عن أهمية العمل في مجال البحث الاجتماعي، حينها تجدد وتأكد يقيني بأن البحث الاجتماعي يعد أداة جيدة لنقل أصوات الفقراء والمستضعفين.
إذا كان الأمر كذلك وها أنا الآن أعود لأقر بأهمية البحث الاجتماعي الذي عملت فيه لمدة تقترب من خمسة وعشرين عاما، لماذا إذن هجرت عملي البحثي الذي كنت أعشقه؟! .. لماذا هجرت الكتابة البحثية هل لكونها أكثر مسئولية؟ .. نعم الكتابة البحثية أكثر مسئولية لأنها تأتي محملة بالإحساس بالمسئولية تجاه هؤلاء الفقراء الذين حملوني أمانة نقل صوتهم .. وهل قسرت يوما في الوفاء بحمل أمانة توصيل أصوات هؤلاء الفقراء؟ .. لا لم أقصر بل كنت دائما أمينة في نقل صوتهم .. إذن ما السبب أهو اليأس من وجود غدا أفضل لهؤلاء الفقراء والمستضعفين الذين آمنت بحقهم في العيش الكريم والذين طالما تسألوا عن طبيعة الفائدة التي ستعود عليهم من إجراء تلك البحوث معهم؟! .. وهل الكتابة غير البحثية أقل مسئولية؟! .. كيف هذا وأنا أؤمن بأن «الكلمة نور وبعض الكلمات قبور» .. لا أعتقد بأن الكتابة غير البحثية أقل مسئولية .. فقط هى قوالب مختلفة لتوصيل ذات الرؤية.
لا أدري لماذا تفجرت اليوم برأسي تلك تساؤلات التي لم أوفيها حقها في الإجابة .. أهى تلك العبارة الموجزة التي رددتها بصوتي في الحلم وحدها المسئولة عن ذلك أم أنها ذكرى الثورة التي عشت عمري أتطلع إليها مسكونة بحلم «العيش والحرية والكرامة الإنسانية» .. وهل ضاع إلى الأبد ذاك الحلم أم أن للحلم بقية؟!
لا لم يضع حلم الثورة فالثورة باقية ما بقى من يحتفي بذكراها .. الثورة باقية ما دام هناك من يحلمون بغدا أفضل .. ولعل كثيرين غيري قد لفت انتباههم خلال الأيام القليلة الماضية كثافة تلك الفيديوهات والصور التي أنتشرت على صفحات السوشيال ميديا «تويتر وفيسبوك» إحتفاءا بذكرى الثورة على عكس السنوات الماضية التي كانت تسكنها روح الإحباط واليأس .. أهو اعتصام عمال الحديد والصلب الذي دخل أسبوعه الثاني ووقفات غيرهم من عمال الشركات الأخرى الذين يدافعون عن حقهم في الحفاظ على شركاتهم ما بث روح التفائل بعشاق يناير .. ربما! .. على أية حال فالثورة باقية ما دام هناك أجيال جديدة تؤمن بالحق في الحياة الكريمة .. الثورة باقية ما دام هناك بشر مازالوا قادرين على مواصلة الحلم بالثورة … ونعم للحلم بقية.