أول مرة سمعت فيها كلمة “الهبد” أمسكت أذني بقوة وفركتها لكي أتأكد من سلامتها. فلم أستسغ الكلمة وقتها وربما ما زلت لا أستسيغها. وبعد أن تأكدت من سلامة سمعي تأكدت أيضاً من أن الكلمة واسعة الانتشار. فقد رأيتها بعيني تملأ الفضاء الإلكتروني. ومع أن جرس الكلمة بقي عندي إلى الآن غير مستساغ، إلا أني توقفت عن التبرم منها لأن العصر كله فيما يبدو هو “عصر اللا مستساغ”. لهذا صبرت وتقبلت وقلبت التفكير في التعبير، في غرابته وحجمه وخطورته. فقد بات الهبد حولنا في كل مكان. هبد ديني وهبد علماني. هبد إعلامي وهبد تعليمي. هبد اقتصادي وسياسي. هبد رياضي وفني. هبد في العلاقات الدولية وفي الحكم المحلي. هبد في الصحف والإذاعات والتلفزيونات والمواقع الإلكترونية. هبد في المساجد والكنائس والمحاكم؟ هبد نسوي وهبد ذكوري. هبد بالعربية وباللغات الأجنبية. حتى الطب اخترقه الهبد.
وبفضل الشباب، بدأ تعبير الهبد يدور بأسرع من دوران الهواء. والهبد فعل. أما فاعله فاختار الشباب له كلمة “الهَبّيد”. وكم نرى كل يوم أناسا وهم يطلون علينا بكلام عجيب. هذا الكلام العجيب هو ما يصفه الشباب بالهبد، فيتندرون على الهبيد الفلاني ويسخرون من الهبيد العلاني. بات الهبد “ترند” في المواقع الاجتماعية يشير إلى كل من يتكلم بلا علم أو يدعي الحقيقة أو يكذب أو يلفق أو يبالغ أو يزور أو يضخم أو يجهل، ومع ذلك يتكلم ويفتي ويقرر ويحسم.
وبعد مراجعة للغة والواقع، تبين لي أن اختيار الشباب لتعبير الهبد لم يكن خطأ. فالهبد في اللغة من الفعل الثلاثي (هـ ب د). ويهبد الشيء أي يكسره ويحطمه. والهبد بالفعل هو كسر للحقيقة وتحطيم للمعلومة ولوي لعنقها. وتعرف اللغة أيضا كلمة (هَبِيد) وهي مشتقة بالمثل من (هـ ب د). والهَبِيد هي حبة الحنظل. وما أصدق ذلك أيضا. فالهبد بما فيه من كذب وافتراء على الحقيقة لا يترك لنا إلا مرارة الحنظل.
ويمكن اعتبار الهبد البديل المصري الشبابي لتعبير ما بعد الحقيقة post truth ، ذلك العصر الذي تراجعت فيه القيمة الموضوعية للمعلومات في تشكيل الرأي العام وتقدمت بدلاً منها المبالغات والأكاذيب ونظريات المؤامرة والأضاليل. عصر لم يعد ينشغل باحترام العقل بقدر ما ينشغل بمخاطبة المشاعر. ولا يهيج المشاعر أو يحشدها أكثر من الهبد وسرديات الهبيدة بما تحمله من خرافات وعوار. فذاك هبيد يدعي أنه قرأ آلاف الكتب في حيز زمني محدود. وهبيد آخر يزعم أنه يعرف أكثر من أجهزة الاستخبارات. وثالث يهبد في الطب ويروج بأن مرهما يستطيع أن يشفي جميع الأمراض. ورابع تخصص في الهبد التاريخي. وآخر يهبد بعنف دون أدلة ضد دول بأكملها. ولو كانت لدينا جائزة للهبيد الأمثل فلربما لن يستحقها عن السنوات القليلة الماضية شخص آخر غير الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترمب.” فقد هبد في كل اتجاه ولفق الحقائق بمعدل ست هبدات تقريبا في اليوم وفقا لجريدة الواشنطن بوست.
ولا يبدو الهبد غريبا على الواقع المصري، إلا أنه بدأ يخرج عن ما تعارف المصريون عليه من قبل. فلسنوات طويلة تقبل المصريون الهبد من أجل الضحك. فكانت القفشات وحكايات الفشارين من أمثال الألمعي “أبو لمعة”. كان يختلق الحقائق ويصمم على صحتها برغم ما فيها من زور واضح وتزييف متقن. لكن هبد الفشارين كان مستساغا. تقبله الناس وباركوه واستمتعوا به دون أن يصدقوه. أما هبد اليوم فلا يؤديه كوميديانات وإنما بكوات وباشوات وأسماء لامعة على الفضائيات تتقاضى أعلى الأجور والمرتبات مع أنهم ينشرون دعايات وإشاعات.
هبّيدة الزمن المعاصر ليسوا ظرفاء أو متواضعين. لا يقولون للناس أنهم يقدمون رأيا، بل يزعمون أنهم يعرضون حقائق. وهم في ذلك أبناء بررة لعصر ما بعد الحقيقة، الذي تختفي فيه الخطوط الفاصلة بين الرأي والمعلومة، فيقدم الهبيد ظنونه للناس على أنها معلومات موثقة لكي يستدر عاطفتهم فيحتشدوا وراءه. الهبيد هو الراعي الرسمي لعصر ما بعد الحقيقة. بفضله فقدت المعلومات والإحصاءات هويتها الموضوعية لتنتقل إلى الناس وهي ملونة وموجهة بالشكل الذي يريده.
ولم يكن غريبا أن يتسع نشاط الهبّيدة في السنوات القليلة الأخيرة لأن الخطاب الموجه إلى الناس في عصر ما بعد الحقيقة، أو عصر الكذب البواح إذا جاز التعبير، اختلف عما كان عليه الحال من قبل. كانت الخطابات الموجهة للجمهور من قبل جسورة ومسؤولة. يراعي من يقدمها سلامة المادة التي يجمعها والمعلومة التي يقولها وأن يقدم حقائق موضوعية موثقة قبل أن يدلي برأيه فيها. أما الخطاب في عصر ما بعد الحقيقة فتحول من جسور إلى كسول. لم تعد دقة المعلومات مسألة ذات بال. الأهم السيطرة على المشاعر واستلاب العقول. وهو ما راح الهبّيدة يفعلونه بتطوير مهارات الحركة وفنون الاستعراض وأساليب المبالغة. أما مصداقية المعلومات فتأتي تالية أو لا تأتي على الإطلاق طالما أمكن تزويرها وادعائها. كنا نسمع قبل عصر ما بعد الحقيقة خطابات سديدة ورشيدة. أما في عصر ما بعد الحقيقة فقد زادت أعداد الهبيدة. وهؤلاء تحركهم المصلحة وليست المسؤولية. والمصلحة لا تهمها الحقائق بقدر ما تنشغل بالسيطرة عليها ولو باختلاقها والهبد فيها.
ولا تنحصر خطورة الهبد في تزوير المعرفة واختلاق عالم لا صلة له بالحقيقة، وإنما تمتد إلى ترويج الكذب مثالاً يحتذي به. فالهبيد يربح أموالا طائلة ويحقق شعبية واسعة وينال نجومية كبيرة. وكثيرا ما تدعمه سلطة تهبد من خلاله فيتمتع بحبها. كما تسخو عليه أياد خارجية لا تستغني بدورها عن هبده خدمة لمصالحها. بات الهبد للأسف مربحا معنويا وماديا، إذ يجني الهبيد في العالم الافتراضي مثلا الآلاف من “اللايك”. ولو كانت له قناة على اليوتيوب فقد يحصل على مكافأة عند الوصول إلى عدد بعينه من المشاركين. أما لو كان الهبيد صاحب برنامج أو عامود في صحيفة فإنها قد تكون فرصته للمطالبة بأجر أعلى ما دام يجلب لمحطته أو جريدته زبائن.
وشخصية الهبيد ليست سوية لأنها أقرب ما يكون إلى”الشخصية التمثيلية” أو الـ histrionic personality التي تجيد ألاعيب التمثيل ومهاراته. الهبيد غالبا ما يمتلك شخصية نرجسية عاشقة بشدة لذاتها. تسعى لأن تكون محل الاهتمام وأن تستقطب الأضواء. وهو أيضا شخص متقلب يُغير اتجاهاته بسرعة وفقا لتقديره لاتجاه الهبد الذي يحقق مصلحته في الانتشار والتواجد. وعادةً ما يكون الهبيد سطحي أجوف لأنه لا يهتم بالحقيقة وإنما بإيهام الناس بأنه يعرفها. والهبيد أيضا لا يقبل النقد، يعتقد أنه يمتلك الحقيقة وليس في حاجة إلى البحث عنها أو الاستماع لوجهة نظر أخرى تخالفه.
بات الهبد كثيرا وخطيرا ضحيته الأولى المعرفة بالحقيقة. وتزداد خطورته مع ظهور هبيد تلو هبيد في الفضاء العام وتمكين كثير من الهبّيدة من منصات مؤثرة يروجون من خلالها لخطابات مضللة تنتشر بسرعة بسب سهولة وتشويق لغة الهبد التي يتكلمون بها إلى الجمهور. هذا التمكين جعل للهبد سيطرة مخيفة وفتح أمامه مستقبلا يخيف أكثر. ولو أصبح المستقبل للهبد ستكون العقول هي الضحية. الهبد يأخذ الحيز العام كله إلى درك سحيق من التزوير المعرفي. ولهذا لا بد للهبد من حد وأن يؤخذ الأمر بجد؟