ثقافة

لقاء مع المجنون الأخضر (2-2)

وجه المجنون الأخضر كما وصفه صاحبه

أي وجه إنساني هو وجهان دون شك، وجه خارجي يظهر لنا، ووجه داخله يعرفه صاحبه فقط، وكل ما نستطيعه هو أن نستدل من هذا الوجه الخارجي على ذلك الوجه الداخلي. أي وجه إنسـاني هو بداية ونهاية، رحلة خاصة عبر الشخصية الإنسانية. أي وجه له جانبه المظلم وجانبه المضيء، وجانبه الليلي وجانبه النهاري، جانبه المتماسك وجانبه الهش المتفكك الضعيف (يحتوي أي وجه على أنف وعينين وفم وأذنين وشفتين ولسان وأسنان وغير ذلك من المكونات).

لاحظ يا من تدعي معرفة لا تملكها أن الأنف، في لوحة “المجنون الأخضر”، وكما رسمها الجزار لي، هو بارز، إنه هنا يرتبط برمزية خاصة، رمزية تمتلئ بدلالات الحياة، بكل ما تتعلق به هذه الرمزية من عمليات خروج ودخول للهواء، وكل ما يقوم به الأنف من شهيق وزفير، إنه القوة المانحة للحياة، قوة الروح، قوة الأخذ والعطاء، قوة الإيقاع، إيقاع الحياة والموت، النفس (الهواء) الذي قد ينتظم وقد يعاق، وقد يخرج أو يدخل أو يتوقف، الأنف رمز للحياة ورمز للموت في نفس الوقت (عمليات التنفس أو الاختناق)، رمز للوجود ورمز لمفارقة الوجود في نفس الوقت، والأنف البارز هنا يعبر عن رغبة عميقة خاصة في الوجود، في الهواء، في الحرية، في الامتلاء بالحياة.

لاحظ أيضا أنه وفي اللوحة التي رسمها الجزار عني، هناك رأس أخضر، ويدان مرسومتان خلفه متجهتان إلى أعلى، وهناك قرط طويل نسبيا، وما يشبه الكرسي الموجود أسفل اللوحة، ووجه جانبي (بروفيل) تتجه عينه ناحية الكرسي، ومن خلال ذلك كله أدخلني عبدالهادي الجزار وأدخلكم معي في حالة من الذهول والدهشة والتيه والانقسام والتساؤل؛ إنها حالة مماثلة لتلك الحالة التي كانت عليها تلك الشخصية التي جسدها في لوحته والتي جعلني أبدو فيها في حالة شبه مزدوجة، ثنائية الطابع والطبيعة، أندروجيني Androgeny، أو هيرمافروديت Hermaphrodite، ذكر بروج أنثوية وأنا لست كذلك إلا لو كنت من المصدقين بنظرية ذلك المحلل النفسي كارل جوستاف يونج في هذا الشأن والتي يقول من خلالها إن هناك أنثى داخل كل ذكر وهناك ذكر داخل كل أنثى، هنا، كما قلت، ذكر بروج أنثوية، مع خطوط زجزاجية توحي بالحركة ومتجهة إلى اليدين المتجهتين بدورهما في اتجاه السماء، وهما قد يبدوان أشبه بجناحين يحلقان بالعقل والوجود كما تفعل الطيور أو العصافير، والتي هي رمز شعبي مصري يرتبط بالخير واللون الأخضر والحرية، لكنه قد يرتبط أيضا بالجنون والبلاهة، هل تعرف أنه في الريف المصري قد كان يتم وضع وشم يشبه العصافير على صدغي أو أسفل جانبي رأس أحد الأشخاص؛ حماية له من الحسد والمرض، لكن الآخرين قد يسخرون منه فيقول بعضهم للآخر عندما يظن أنه يستهين به أو يريد أن يخدعه أو يتذاكى عليه: “هل تظن أنني داقق عصافير؟!”. أما الأصابع الخمس الموجودة في كل يد فترتبط أيضا بالحسد وما يسمى خمسة وخميسة في التراث المصري التي ترتبط بمنع الحسد، هل لم يزل الناس في أيامكم هذه يقومون بوشم العصافير على وجههم الجانبي دلالة على الغفلة ورغبة في تجنب الحسد؟ هاهاها.

الذراعان في اللوحة، لو كنت تعرف، وأنا أشك في ذلك، هما لكائن متوهم، لروح متوهمة هي للـ”كا” الموجودة في مسافة ما بين المجنون والذي يفترض أنه يمثلني، وبين الحائط، والحائط هنا صلب فارغ أو في منطقة متخيلة بينهما، أما الكائن المتوهم فلا يمكن أن تلتصق – صورته – يداه لا بالجسد الراسخ ولا بالحائط الجامد؛ فهي حرة ومتحركة وساخرة وذات زخرفة وحركات موحية. أما الحيز المحيط برأسي، فهو حيز سميك يمنع خروج أي يدين أو غيرهما في المنطقة البينية من المجنون والحائط أو بين الجسد والروح.

وقد توحي اليدان هنا كذلك بحركة ما تنم عن الخلل الذهني، هذا تمويه وإيهام فني بارع من الجزار، وهما أيضا يدان طفوليتان بل ومرحتان تجسدان طبيعتي الخاصة، وكأنهما ترمزان إلى نوع ما من عدم الاكتمال بي وكذلك بهذا المجتمع الذي لا يكتمل شيئ فيه كما ينبغي، إنهما كذلك ترمزان إلى عدم الاهتمام الخاص بنضج صاحبهما، أو من يقف أمامهما، جسديا وعقليا، مع رغبة ما في الحركة والإشارة الضمنية إلى خفة العقل، ويؤكد ذلك تلك التميمة أو الحجاب الموضوع على كفتي اليدين.

أما الوردة الموجودة فوق أذني؛ تلك الوردة ذات الساق الطويلة، في اللوحة، فتوحي بنزعة مغايرة، إنها توحي بنوع من المحبة للحياة والحيوية؛ برغبة ما خاصة في اللعب والسخرية والعبث، برغبة ما في التخفيف من الإحساس شبه الهلوسي المصاحب لذلك الحضور المهيمن للون الأخضر، وحيث القرط بلونه فيروزي يشع خفية، والفم مزموم ذو انقباض خاص وكأنه يؤكد وجود إرادة داخلية قوية للوجود والاستمرار والاستمتاع بالحياة، بل والسخرية منها ومن تناقضاتها أيضا، كعادتنا نحن المصريين.

لقد جعلتني الحياة أرى الزهور مرتبطة، بشكل عام، بالضوء والرؤية، وبحدقة العين أو قزحيتها (عملية الرؤية)، ومن ثم فقد ارتبطت كما قرأتُ عنها ببعض آلهة الضوء أو الشمس، مثل براهما وبوذا وبحورس الذي هو العين الحارسة، العين “التي عليها حارس (أو حورس)، العين التي ترى، عين الصقر. والزهور مبدأ أنثوي، رمز لكل ما هو قابل للتلقي والاحتضان، وكأس الزهرة كأس يحمل كل احتمالات التفتح، وفي برعمها احتمالات التفتح والانغلاق، التجلي والظهور والخفاء، ورمزية الزهور موجودة على نحو خاص في رمزية زهرة اللوتس في الشرق والزنبق أو السوسن في الغرب، وتفتح الزهرة يعني تفتح العالم وانفتاحه واتساعه، وانغلاقها يعني انغلاقه، كما ترتبط رمزيات الزهور برمزيات الشمس والحدائق والفردوس والعالم الذي يوجد خلف هذا العالم، أو أعلاه، ومن ثم ارتباطها بأحلام الصعود والطيران والطموح، لكن الزهور رمز مزدوج أيضا، يرتبط بالذبول والموت والجنازات، التي تكون مرتبطة أيضا بوضع الزهور على قبر الميت أو فوق تابوته قبل دفنه.

وهنا أيضا توقف المجنون الأخضر وقد أصاب عقلي بالذهول حتى كدت أصدق أنني المجنون وليس هو، وقال:

وهل تعرف رمزية اللون الأخضر في اللوحة؟

لم أنبس ببنت شفة، فقال: اللون الأخضر، هنا، لون مزدوج الطابع، فهو يمزج في داخله بين الحياة والموت، حيث الأخضر الربيعي، الذي يرمز للحياة، والأخضر المائل إلى الزرقة الذي يرمز للموت، وهو كذلك رمز للشباب والأمل والبهجة والسرور، لكنه أيضا رمز للتغير والتحول والغيرة، وهو مركب من الأزرق والأصفر، أي من السماء والأرض، وهو لون سحري يمزج كذلك بين الضوء الأزرق البارد الخاص بالعقل والدفء العاطفي الخاص بالأصفر الشمسي، وينتج عن امتزاجهما تلك الحكمة الخاصة بالعدل والمساواة والأمل وتجدد الحياة والبعث. ولأنه اللون الخاص بالزهرة venus وعطارد Mercury فقد اعتبر رمزا رسوليا، ينتقل بين السماء والأرض، ورمز الفصاحة والمكر واللصوصية والاختلاس، وعند الرومان يرتبط اللون الأخضر بالزئبق وعصا هرمس إله التأويلات، وبالنبي إدريس عند اليهود والمسلمين والذي يسمى ب”هرمس الهرامسة”، لا تتعجب من معرفتي بهذه الأمور فقد تخرجت من جامعة القاهرة مثلك، لكن صروف الدهر وعادياته وأهواله أصابتني بالكثير من المِحن والاختلال، فصرت كما قال أديبكم الراحل “يحيى الطاهر عبدالله” عني وعن من هم في مثل حالتي: لست بالغافل ولا الغائب ولا المخمور، لكنها السنوات تطوِّح بي، تطوِّح بي.

لوحة عصا هرمس
لوحة عصا هرمس

هل تعرف أنه عندما يرتبط الأخضر بالأشجار؛ فإنه يرمز لتلك الحالة الديناميكية المتجددة الخاصة بالحياة في مقابل سكونية الأحجار أو البيوت أو الجدران؟، إن الأشجار ترمز أيضا للمبدأ الحياتي المرتبط بالحماية، الحماية ضد عوامل الموت أو الفناء، ومن ثم يكون رمزها الخاص من رمزية البيت المرتبط أيضا بالحماية والاحتواء والمساندة.

          الأشجار الخضراء رمزيا أيضا مبدأ أنثوي يرتبط برمزية الأكواخ والأرحام والحماية والتغذية والتنمية، والجانب الخاص بالزمن بامتدادها بجذورها في أعماق الأرض، وامتصاصها للمياه، واخضرار أوراقها وتوهج ثمارها، تمتد بجذورها وجذوعها وأوراقها وثمارها بين الأرض والسماء، ومن ثم فهي رمز للاستمرارية والتواصل والمواصلة والخلود، رمز للتنوع في ظل الوحدة، والحياة التي تقاوم الانطفاء، وهي أيضا ترتبط بالتأمل والمعرفة وبشجرة المعرفة والفردوس وبالحماية والحنين والتأمل والرغبة في الاتكاء والاضطجاع والسكينة، ومن هنا اقتراب رمزيتها من رمزية البيوت والأكواخ.

هكذا يكون اللون الأخضر، يا من تقول عن نفسك إنك ناقد للفن والأدب، هو لون هذين العاشقين، فينوس وعطارد؛ وحيث الأخضر هو رمز الربيع والخصوبة والبهجة والثقة والطبيعة والفردوس والوفرة والازدهار والسلام، أما فيما يتعلق بسرعة الذبول وعدم اكتمال النضج والحضور السريع للموت، فإن هذا اللون يرمز أيضا إلى الافتقار للخبرة أو إلى تكرار الأخطاء، أو إلى السذاجة والحماقة، وربما كان ذلك بعض ما كان يشير إليه الجزار من خلال لوحته هذه.

يرتبط اللون الأخضر رمزيا، وكما قد تعرف، بالرقم 5 والذي يرتبط بدوره بعدد أصابع اليد الواحدة، والقدم الواحدة، وبالصلوات الخمس في الإسلام والتي تبدأ كل صلاة منها عادة برفع اليدين إلى أعلى في موازاة مع الرأس، وعلى نحو يشبه إلى حد كبير حركة اليدين الموجودتين بجوار رأس المجنون الأخضر، ثم البدء في الصلاة من خلال القول: الله أكبر، وفي صلوات أخرى مثل صلوات الأعياد أو الجنازات قد تتكرر حركة وضع اليدين والنطق بصوت خاشع بدعاء “الله أكبر” عدة مرات.

واللون الأخضر لون جميل متنوع، لابد أنك تعرف ذلك فعلا!!! فالأخضر قد يتحول إلى لون ذهبي يميل إلى الصفرة، ولذلك قد يرمز إلى الأسد الصغير، والرجل الشاب اليافع، وكيزان الذرة الخضراء قبل أن تتحول إلى اللون الذهبي الخاص بالذرة الناضجة. وقد رسم عبدالهادي الجزار وجهي في شكل نصفي غير كامل كي يؤكد على حضوره وكذلك على غيابه خلال الوقت نفسه. أما الرقم خمسة المرتبط بأصابع اليدين فهو يرتبط، كما قلنا، بالأصابع الخمس، وكذلك برمز خمسة وخميسة، كما يرتبط رمزيا بالعالم الأصغر للإنسان الموجود في ذلك العالم الأكبر وكذلك بالتكوين الخاص بالجسد الإنساني من رأس وذراعين وساقين، وهو أيضا رمز للاكتمال فهو يشبه الدائرة (5)، وقد ترمز النجمة الخماسية عندما تشير رأسها إلى أعلى إلى العقل والعرفة والعلم والسماء، أما عندما تشير إلى أسفل فإنها ترمز إلى العالم السفلي والأرض والشر وعالم السحر والساحرات، ويرتبط هذا الشكل كذلك بالورود والزنابق.

وقد كان اللون الأخضر اللون المفضل عند النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وقد ظهر هذا اللون جليا في الفنون والعمارة الإسلامية (ما عدا السجاد). وهو أيضا، كما ورد في التراث، لباس أهل الجنة، وقد وردت إشارات إلى هذا اللون في سور كثيرة من القرآن، كما أصبح اللون المميز لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وكذلك علم للمملكة العربية السعودية وموريتانيا وجامعة الدول العربية وغير ذلك، كما كان علم مصر قبل ثورة 1952 أخضر اللون، بداخله هلال ونجوم ثلاثة بيضاء، كما كان لون العلم الذي استخدمه المتظاهرون أثناء صورة 1919 أخضر اللون وبداخله هلال وصليب أخضران، كرمز للوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين.

ويعود ذلك التراث الخاص بالآلهة ذات البشرة الخضراء إلى تاريخ قديم يمتد حتى أيام الفراعنة، ثم بعد ذلك في فنون العمارة الأوروبية في العصور الوسطى. وقد تم رسم أوزيريس إله التجدد والبعث والحياة الأخرى والخلود لدى قدماء المصريين بوجه مفعم أو غني باللون الأخضر (العشبي)، في إشارة إلى ذلك الربيع الذي يأتي كل عام.

عبد الهادي الجزارالرجل الأخضر

قلت له: هل تعرف أنه قد أصبحت هناك في سبعينات وثمانينات القرن العشرين وما بعدها سلسلة من الحلقات التلفزيونية والأفلام السينمائية بعنوان: “الرجل الأخضر”؟، قهقه “المجنون الأخضر” وهو ينظر إليّ متعجباً مما أقول ثم واصل حديثه دون أن يوجه هذه المرة إليّ مباشرة، بل وكأنه يتحدث إلى نفسه، وكأنني أيضا غير موجود معه، وقال:

منذ بداية القرن الخامس الميلادي في أوروبا ظهرت وفرة في العمارة التي تتعلق بالظاهرة المسماة “بالرجل الأخضر”، حيث ظهرت تشكيلات لوجوه بشرية وقد برزت منها أطراف تشبه أوراق الأشجار، مع وجود سيقان نباتات بأوراقها، وقد نبتت أو برزت خارجة من الفم، وقد تم إنتاجها بالنحت الغائر أو البارز، وأحيانا على نحو خفي أو مستتر، وكحليات أو زخرفة في المباني المدنية أو الدينية.

وهناك غموض فيما يتعلق بتلك الدافعية أو الأسباب التي كانت تكمن وراء مثل هذا الإنتاج لمثل تلك الموتيفات غير التقليدية، في سياقات كانت تهيمن عليها المسيحية المتشددة. وقد أشار بعض الباحثين الذين كنت أقرأ كتبهم ضمن بعض مقتنياتي، إلى أنه من المحتمل أن مثل تلك الرموز التشكيلية والتي سخرت أو انتهكت بعض الأعراف التصويرية أو الايكونوجرافية المسيحية، ربما كانت تسعى من أجل التوحيد، في رمز واحد، بين تلك المعتقدات الوثنية والمعتقدات الدينية التطهرية الخاصة بالبعث ومعجزات الخصوبة والنمو والتجدد، كما فعلت الوجوه الجروتسكية والاحتفالات الدينية الكارنفالية والتي تحدث عنها بعد ذلك الناقد ميخائيل باختين.

عبد الهادي الجزارلقد كانت وجنات (خدود) تلك الوجوه منتفخة على نحو ينم على الغرور والزهو، وعن الشعور كذلك بغياب الحياة أو تراجعها أو شحوبها، وبذلك كان الرجل الأخضر هو النموذج أو النمط الأولى Archetype لتردد أصداء صيحات الجرأة والتهور، وربما الوقاحة، في مواجهة هيمنة الشتاء القاتلة وذلك البرد المهيمن أو الموت، وإنها لصيحة قد ترددت أصداؤها عبر القرون، وصار وقعها والتذكير بها يزداد شدة وقوة في فترات الركود والكبت والقمع وغياب الأمل والقمع للحريات، حدث ذلك من خلال الفن والأدب، وكارنفالية أعياد الناس واحتفالاتهم الشعبية، وكذلك من خلال الثورة المباشرة والتمرد ضد كل أشكال الظلم والطغيان في الشرق والغرب، وعلى نحو خاص تجلى ذلك في رموز دينية إبراهيمية منها- تمثيلا لا حصرا- الرمز الخاص بسيدنا الخضر؛ حيث يعتقد أنه سمى بالخضر لأنه ما من مكان حل فيه إلا ويعتريه الاخضرار، وتحدثت عنه سورة الكهف في القرآن، وهو من ذرية إسماعيل، كان لسانه عربيا، وجعله الله يطير مع الملائكة، ويختفي عن البشر، إنه عبد صالح رافق النبي موسى. كذلك يمكن الرد على القول بأن اللون الأخضر يعتبر من الألوان السلبية بأن سلبية الألوان أو إيجابيتها مسألة سياقية؛ فحضور اللون نفسه في سياق ما قد يحمل معنى سلبيا، وحضوره في سياق آخر قد يحمل معنى إيجابيا.

قلت له: لقد ظهرت وجوه خضراء أيضا في لوحات أخرى لعبدالهادي الجزار، مثل “الميثاق”، و”التعويذة” أو “الشيطان الصغير” (1952)، وفي لوحة “السيرك” (1956) يظهر اللون الأخضر في يدي وقدمي أحد اللاعبين، ولكن في لوحات أخرى تظهر الوجوه بألوان حمراء وبنية وصفراء وزرقاء ونيلية وغير ذلك من الألوان، وفي لوحة “النذر” رسم الجزار ستة وجوه بألوان ستة مختلفة، منها الأصفر والأزرق والأحمر وغيرها، وقد ظهرت وجوه خضراء لدى بيكاسو بتحويرات فرعونية واستلهامات تكعيبية أيضا.

ضحك المجنون الأخضر، حتى بدت نواجذه البيضاء الناصعة، ثم قال: لقد ذكر لي عبد الهادي الجزار ذات مرة، بينما كنا نجلس معا بجوار جدار سور مسجد السيدة زينب، وعندما سألته عن كيفية اختياره للألوان في لوحاته أنه: “لا توجد ألوان مفضلة عندي في مراحل الإنتاج المختلفة، ولكن توجد ألوان تختلف باختلاف الحالة المراد التعبير عنها، ومعنى ذلك أن الألوان مثل العناصر الموجودة بالصورة، وكما أن العلاقة بين هذه الألوان المكملة لبعضها هي علاقة سيكولوجية، فكذلك الألوان، فكل لون داخل مساحة أو كل لون يأخذ شكل العنصر هو مكمل لمعنى العنصر في ذاته، ومكمل لمجموع الألوان والعناصر في الصورة، والمسألة تجمع بين ظهور الفورم ما لزم في لون واضح محدد منسوج ومركب، وبين التجريد الملون في مساحة واضحة”. ثم أضاف: “اللون الأخضر يمثل الدين، ومن الناحية التعبيرية هو رمز الهستيريا والجنون، واللون الأحمر هو رمز للحالة الديناميكية والثورة، كما أن الألوان المحايدة هي رمز للاطمئنان والربط بين الدرجات المختلفة من الألوان الغالبة، من أحمر وأخضر وأزرق، والألوان هنا جميعها مرتبط بـ Distortion  (يقصد التحريف أو التشويه) في العناصر المختلفة”.

كنت أنظر إلى المجنون الأخضر وهو يتحدث وأنا أشعر بأنني أنا المجنون، ودون أن أكون “أخضر” الوجه ولا القلب، فقلبي قاحل أصفر وعقلي ضائع في السديم الكوني، كنت أظن أنه هو المجنون، فإذا بي أنا الذي أوشك على الجنون. قلت له وأنا أودعه وقد أرخى الليل بعض ظلاله على شارع بورسعيد وكنا قد قمنا ومشينا معاً حتى نهاية شارع بورسعيد في اتجاه الأزهر الشريف؛ وماذا ستفعل الآن يا صديقي؟ قال لي وهو يبتسم: سأعود إلى لوحتي التي رسمها لي عبد الهادي الجزار، ففي كل صباح أنزل منها وأخرج خفية من بيت ذلك الثري وأجوس خلال الديار أحاول أن أفهم هذا المكان، وأدرك كذلك وأفهم طبيعة سكانه.

أسى وشجون

هكذا بدا لي ذلك “المجنون الأخضر” وكأنه أشبه بتجسيد لمتناقضات الواقع والوجود كلها، فهو ذكري وأنثوي خلال الوقت نفسه، غير متزن وجدانيا لكنه أيضا صاحب وعي داخلي ومعرفة وفهم وإصرار عميق أيضا، وهو حريص على ألا يبدي ذلك مباشرة للآخرين، فهو يتهكم منهم ويحتفي بذاته ويفخر، يجمع كذلك بين الإصرار والرسوخ من ناحية، والشعور بعدمية الأشياء وعدم جدواها والرغبة في مفارقتها، وكذلك التحليق بعيدا عنها، من ناحية أخرى. لم يكن الوجه فقط هو الأخضر، بل جسد الشخص المحوري المهيمن على اللوحة كله أيضا، والذي يجسد صورة الليل على النحو الذي صور قدماء المصريين من خلاله “نوت” إلاهة السماء.

لوحة الميثاق عبد الهادي الجزار
لوحة الميثاق

بينما كنت أعود إلى بيتي البعيد ذاهلاً عن نفسي، وغائباً عن الوجود؛ وكنت أتساءل هل صارت للمجنون الأخضر حياة مستقلة عن تلك اللوحة التي كان موجوداً فيها، هل كان موجوداً قبلها فعلاً؟ أهو شبح أم انسان حقيقي؟ ثم إنني قد تذكرت عبد الهادي الجزار، وكيف كان يبدو، وكيف كان كثيرا ما يربط بين الفن والدين أو يحاول اكتشاف العلاقات المتشابكة بينهما. وقد انعكست هذه النشأة على كتاباته وقصصه وأشعاره وأعماله الفنية؛ كان أقرب ما يكون إلى فيلسوف يجسد أفكاره في لوحات فنية، أو فنان يقدم أفكاره ورؤيته الفلسفية حول العالم والوجود والإنسان، من خلال أعمال فنية فريدة، لقد حاول أن يلتقط “روح الأماكن” التي عاش فيها وأن يجسدها في أعماله على نحو متميز زاخر بالرموز والدلالات. وإنها لروح قد تجسدت في أعماله كلها وتجلت في بعض الشخصيات التي رسمها، وقد كان منها تلك الشخصية التي غادرت لوحتها الموجودة، كما يقال، في بيت أحد رجال الأعمال المصريين الأثرياء، ونزلت خارجة منها، ثم ذهبت إلى مكانها الأثير، هناك، في قلب ميدان السيدة زينب بالقاهرة حيث يلتقي الماضي بالحاضر، والحضور بالغياب، الوعي باللاوعي، والحياة بالموت، والضحك بالبكاء، وحيث يظل الجميع يسعى ويبحث جاهداً، هناك، وسط الزحام، عن معنى ما، معنى قد يكون موجوداً، هنا أو هناك، في ذلك المكان الذي عشقه عبد الهادي الجزار ومنه استمد فكرته عن “المجنون الأخضر”، والذي كنت قد التقيت به، ذات مساء، هناك، في ذلك المكان.

لقراءة الجزء الأول: لقاء مع المجنون الأخضر (1-2)

هوامش اللقاء:

1- إيناس الهندي (2010): عبدالهادي الجزار قراءة في وجدان شعب، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة. مواضع متفرقة

2- The man with the green face

د. شاكر عبد الحميد

أستاذ علم النفس - وزير الثقافة الأسبق في مصر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock