رؤى

الكتب المؤسسة للعنف.. تشريح الأيديولوجيا الفاتنة (2-5)

أنا والمودودي من الوصف إلي النقد:

حين خرجت من السجن محاولا الانتقال من الفهم الوصفي لنصوص المودودي إلي الفهم التفسيري وتساءلت عن ما يبدو تناقضا بين كتاب أبو الأعلي”المصطلحات الأربعة”، وكتبه الأخري عن تدوين الدستور الإسلامي “أو”حقوق أهل الذمة” وتعرضه لتفصيلات مختلفة في إدارة العلاقات السياسية والاجتماعية بين المسلمين وغيرهم  في مجتمع متعدد الثقافات والأديان والأعراق وقد بدا في تعرضه لتلك الحقوق متسامحا إلي حد ما رغم أنه كان أصوليا خالصا أنهكه اعتبار التجربة التاريخية الإسلامية الأولي مرجعا لايمكن تجاوزه، وكأن التاريخ قد سما وتجاوز تاريخيته ليصبح ممسوحا بمسوح القداسة –  بينما بدا صارما قاطعا قاسيا تجاه المسلمين في كتابه المصطلحات الأربعة الذي وضع فيه أسس الحاكمية واعتبرها جوهر مشروعه الفكري،  واعتبر المصطلحات الأربعة وفهمها فهما صحيحا وفق ما يريد هو وما شرح في الكتاب هي السبيل ليكون الإنسان مسلما، فليست شهادة التوحيد هي التي تمنح المسلم الإسلام ولكن فهم المصطلحات الأربعة بطريقة المودودي التي وضعها خصيصا لأتباعه من أبناء الجماعة الإسلامية في باكستان والتي أسسها عام 1941.

المصطلحات الاربعة

 

وقد أسرف المودودي في قوله إن المسلمين حتي في العصور الأولى لم يكونوا يعلمون معني هذه المصطلحات كما فهمها المشركون لذلك حدث غبش في تصوراتهم فلم يفهموا الدين فهما صحيحا لأنهم لم يجعلوا سبيلهم إليه فهم المودودي للمصطلحات الأربعة، وهو تحكم غير مفهوم أن تحدد للناس سبيلا معينا لا يجوزون غيره إلى الإسلام والدين والصحيح، وأن تفرض ذلك السبيل حتي على من سبقوك من المسلمين الأوائل فتصمهم  بالجهل وعدم الفهم وهم أكثرمنك فهما وعلما بالضرورة، وهو يري أن كل التاريخ الإسلامي والحضارة  التي بناها المسلمون بعد فترة الخلفاء الراشدين  لم تكن تعبيرا عن الإسلام الصحيح وكانت هي الأخري مفارقة له.

يبدو المودودي هنا محتكرا للحقيقة مدعيا أن طريقا واحدا هو الذي حدده للعبور إلي الإسلام الذي حدد هو أيضا معناه ومفهومه، وهو هنا لا يختلف كثيرا عن محمد بن عبد الوهاب (1703 -1791)، ولاعن شكري مصطفي (1942-1978)  ولا عن سيد قطب (1906-1966) ولا عن جهيمان العتيبي (1936-1980) في رؤية نفسه مجددا لا بمعني الوصل مع ما فات ومضي وإنما التجديد بمعنى إنشاء شيء جديد ذات طابع تمامي علي الناس جميعا أن يدخلوه ويلزموا أنفسهم به وإلا وصمهم بالمروق والجاهلية وعبادة الله على حرف مهلك يكاد يذهب بهم إلي النار، وفي كتابه”تجديد الدين وإحيائه”كان هناك عنوان فرعي للكتاب  تم حذفه فيما بعد “النقد النظري علي صنائع مجددي الأمة”، فهو يري نفسه مجددا كاملا أكثر من كل علماء الأمة الذين سبقوه لأن المجدد الكامل هوالذي يحقق الدولة الإسلامية دعوة ووجودا وتحققا  .

جهيمان العتيبي
جهيمان العتيبي

حاولت تفسير ما بدا لي تناقضا في تعاطي المودودي القاسي مع المسلمين في كتابه “المصطلحات الأربعة” وتساهله مع غيرالمسلمين من مواطني دولة الباكستان الجديدة بعد انفصالها عن الهند في كتابه “حقوق أهل الذمة” ، وما اضطر إلى تفصيله في كتابه عن “تدوين الدستور الإسلامي”، واستخدامه لكلمة الانتخاب والشوري والمواطنة وهو وإن كان يعالجها بطريقة تقليدية جدا تتنافي مع طبيعتها السياسية المنفتحة بأوسع ما يكون على الواقع إلا أن ظل مفهوم المصطلحات الأربعة قد تراجع نسبيا، ورغم استخدامه لمصطلح الحاكمية إلا أنه لم يعطها  المعني الرعيب الذي جاء به  في كتاب المصطلحات الأربعة، فالحاكمية في تدوين الدستور الإسلامي هي المرجعية العليا للنظام السياسي والقانوني وللنظام العام وهناك حاكمية للبشر وللناس علي مستوي المؤسسات التنفيذية والعدلية القضائية والتشريعية النيابية وعلي مستوى تشريع  اللوائح والقوانين فيما لم يرد فيه نص من الكتاب  والسنة، ورغم ما يبدو اضطرابا في تخريجات الرجل بسبب ظل مفهوم الحاكمية علي رؤيته وحرمانه من الانطلاق نحو اجتهاد حقيقي للإجابة علي أسئلة الواقع الباكستاني بعد انفصالها عن الهند فإن طبيعة المجال الذي يكتب عنه وهو الدستور الإسلامي ونظام الحكم فرض عليه تخريجات وإن بدت باهتة مختلفة عن تلك التي وضعها في كتابه”المصطلحات الأربعة”.

كان تفسيري هو أن طبيعة المجالين مختلفة فمجال العقيدة الذي يناقشه في المصطلحات الأربعة مختلف عن مجال السياسة والحكم والتدبير فالأول قاطع صارم مفاصل بينما الثاني هادئ مرن يجد السبل للوصل والتيسير والفهم، وهذا ما جعل طبيعة المجالين اللذين يتناولهما تفرض كل منهما علي طريقة التناول  ولغته وأسلوبه بيد إن ذلك لم يكن كافيا،، ذلك أني وإن كنت أعمل علي الانتقال من الوصف إلي التفسير فإن التأثير والنتائج التي سببتها كتبه جعلتني أعود مرة أخري لإعادة النظر في المودودي وقطب وأحاولفهم علاقة أفكارهما بما تم تخليقه فيما بعد من أفكار في أفغانستان وتحولات هذه الظاهرة الضخمة التي تتخذ من الإسلام عنوانا لها لتصبح جهادية معولمة وأممية تتحدي العالم وتنشر أفكاراتنسبها للإسلام ولسيد قطب والمودودي.

أبو الأعلى المودودي
أبو الأعلى المودودي

ومن هنا كان الانتقال من التفسير إلي النقد والتوضيح والبيان الذي لا يجوز فيه مهادنة ولا مجاملة حماية للأجيال القادمة ولكي يوضع كل شيء بمقداره ونستعيد  للدين الصحيح مكانه وطريقة فهمه التي يجب أن تكون هي الهادية للمسلمين إلي سواء السبيل، إن المودودي وقطب هما من وضعا النظرية السياسية العامة للظاهرة الإسلامية التي تم تخليقها في أفغانستان تحت يافطة “السلفية الجهادية”، وأنهما هما نفسهما كانا جزءً مما نعتبره أيديولوجيا “السلفية الجهادية”، والأيديولوجيا بطبيعتها هي تخليق بشري، ولايمكننا الموافقه علي كثير ممن يحاولون تلمس المعاذير لأي منهما وتحميل من قرأهما المسئولية، لقد كان المودودي أيديولوجيا في كتابه “المصطلحات الأربعة” وكان قاصدا لوضع أيديولوجيا جديدة اعتبرها تجديدا  وإحياء قصرها علي أتباعه وهم الجماعة الإسلامية في باكستان، وحاول أن يحمل الأمة كلها عليها حملا وإلا فالتكفير والخروج من الإسلام الصحيح  وكذلك فعل سيد قطب الذي أعطى أفكار المودودي الحياة بكتابته ذات الطابع الأدبي العاطفي  ومنحها الحياة بكتابتها لأعضاء تنظيمه الجديد وللشباب العربي الغض الذي حمل هذه الأفكار بلا بينة ولا هدي وجعلها نبراسا  لما اعتبره نضالا لم ينجح أبدا في سبيل وهم تحقيق الدولة الإسلامية والخلافة المفقودة التي أصبحت كسراب بقيعة يحسبه الظمأن ماءا حتي إذا جاءه لم يجده شيئا، لقد أطلقنا عليها “الأيديولوجيا الفاتنة” أي تلك التي تنقل الأفكار إلي القارئ دون أن يشعر ودون أن يكون راغبا فيها لو طرحت عليه بشكل مباشر  لا يتخلله سحر الأسلوب وطريقة الكتابة، وهنا يبدو الكاتب  وكأنه استغفل القارئ وأخذه إلى منطقة يريدها له ولم يكن هو مريدها لنفسه، إن كثيرين يقولون إنهم قرأوا المعالم  والمصطلحات ولم يشعروا بأن تغييرا حدث في أنفسهم نحو تبني أفكار التكفير والحكم علي الناس والمجتمعات بالجاهلية والكفر وانقطاع صلتها  بالدين لكن المؤكد أن سحر الفتنة والكتابة قد تسلل إلى نفسه وعقله ووجدانه دون أن يدري أو دون أن يشعربحيث طبع نفسه بما يريد الكاتب له أن يكون لا ما يريد أن يكونه هو .

* أكاديمي متخصص في العلوم السياسية  وعلم الاجتماع الديني

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker