أولى غالبية المؤرخين المصريين رعاية خاصة بذلك الدور الكبير الذي لعبه محمد على باشا في بناء مصر الحديثة إلا أنهم لم يولوا اهتماما مناسبا بدوره في تأسيس جريدة الوقائع المصرية وذلك على الرغم من كونه كان يشرف بنفسه على عملية إصدار الجريدة يطالع مسوداتها ويعيد صياغة بعض أخبارها ويحرص على دقة لغتها ذلك أنه كان يرى في الوقائع المصرية رسول تعليم وثقافة ودعاية لمصر في كل مكان.
الكاتب إبراهيم عبده في كتابه «تاريخ الوقائع المصرية .. 1828 -1942» الصادر في أربعينيات القرن الماضي يرصد تاريخ نشأة وتطور الوقائع المصرية منذ صدور عددها الأول في 3 ديسمبر عام 1828 حتى مطلع عام 1942 وطبيعة الدور التنويري الذي قامت به تلك الجريدة في المجتمع المصري.
الطباعة نافذة مصر على العالم
يعتقد بعض دارسي تاريخ نشأة الطباعة بمصر أن مطبعة بولاق أو المطابع الأميرية التي أسسها محمد علي باشا وغدت المطبعة الرسمية للحكومة المصرية تعد إمتداد لتلك المطابع التي جاءت بها الحملة الفرنسية عام 1798 إلا أن الكاتب إبراهيم عبده في دراسته لتاريخ نشأة الطباعة المصرية يؤكد على أن الوثائق التاريخية تقطع بأن مطبعة الحملة الفرنسية سواء الفرنجية منها أو العربية قد عادت إلى باريس مع نهاية الحملة عام 1801 وبقيت مصر محرومة من المطابع حتى أسس محمد علي باشا مطبعة بولاق.
اقتضت النهضة الواسعة التي وضع أسسها محمد علي باشا أن تكون هناك مطبعة تسعف دواوين الدولة الحديثة وقد اختلف المؤرخون حول تاريخ نشأة المطبعة الأميرية غير أنه من الثابت أن مطبعة بولاق أو مطبعة صاحب السعادة قد أنشئت ما بين نهاية عام 1819 وعام 1820 وقام على أعمال تأسيس المطبعة شخص يدعى نقولا أفندي البيروتي وكان شابا لديه دراية جيدة بفن الطباعة كان محمد علي باشا قد سبق أن أرسله في بعثة علمية إلى إيطاليا سنة 1815 لدراسة فنون الطباعة واستيرادها.
عُرِفَ المسابكي كرجل متواضع ينعت نفسه بلقب «الحقير» حين يريد أن يضع اسمه على أي من كتب المطبعة وكانت مهمته الأساسية تتجسد في تدريب عمال المطبعة على استعمال الآلات وصف الحروف وقد حرص على أن يلتحق «صبيان» المطبعة بالأزهر لمدة ست سنوات كي يجيدوا اللغتين العربية والتركية.
كانت المطبعة تخضع في أول الأمر لأشرف الكتخدا «نائب ووكيل الوالي» حيث لم يكن هناك دواوين قبل عام 1826 ومع إنشاء الدواوين أصبحت المطبعة تتبع ديوان الجهادية حيث كانت المطبعة معنية بنشر كتب الجيش ونشراته الكثيرة ومع استقرار النظام الإداري الحديث انتقلت تبعية المطبعة إلى ديوان المدارس.
لم يكتفي والي مصر بتلك المطبعة التي اعتمد على استيراد حروفها من إيطاليا بل عمد عام 1830 على شراء خمس آلات أخرى من باريس وقد سعى الباشا أن يستغني عن الاعتماد في الورق على الخارج إلا أنه فشل في هذا الجانب فاضطر إلى إستيراده من إيطاليا غير أنه تمكن من صناعة الحبر بمصر.
مع تأسيس المدارس العديدة التي أنشائها محمد على باشا مثل المدرسة التجهيزية عام 1825 ومدرسة الطب عام 1827 تم تكليف المطبعة بإصدار ما يحتاج إليه طلاب المدارس من كتب وكراسات وظلت لسنوات عدة تقوم بنشر الكتب والمطبوعات الحكومية وحدها إلى أن قام بعض الأشخاص ممن أطلق عليهم «الملتزمون» بنشر بعض الكتب على نفقتهم الخاصة وقد احتفت الوقائع المصرية بالإعلان عن نشر تلك الكتب في مناسبات عدة.
كان عدد النسخ المطبوعة سواء كانت حكومية رسمية أو غير رسمية أو مدرسية لا يزيد عن ألف نسخة وفي بعض الأحيان قد تقل إلى خمسمائة نسخة وكان كل مُعلم من معلمين المدارس إذا ما وقع تحت يدية كتاب جيد يرسله لناظر المدرسة الذي بدوره يرسله لناظر ديوان المدارس ومنه إلى الوالي ليجيز نشره.
كان لابد من موافقة الوالي على نشر الكتب سواء كانت رسمية أو غير رسمية وقد تضمنت وثائق سرايا عابدين الكثير من الشكاوى و«العرض حالات» التي تناشد الوالي بالموافقة على نشر الكتب وكان الباشا يحرص على التأكد من بُعد الكتاب عما يمس «الأخلاق والدين والسياسة سواء الداخلية أو الخارجية» ومع أخر عام من حكم محمد علي باشا بلغ عدد الكتب التي تم طباعتها نحو 55 كتابا بينما بلغ ما تم طباعته بذات الفترة بمطبعة الخلافة بالآستانة نحو 29 كتابا فقط.
جرنال الخديوي
كان للقلعة نصيب من عالم الطباعة حيث تم تأسيس مطبعة خاصة «بجرنال الخديوي» وجرنال الخديوي هذا عبارة عن إدارة واسعة يتولاها أحد الأشخاص الموالين للوالي ويقوم بدور الوسيط ما بين الوالي وبين مختلف الإدارات ومراكز الحكومة في الأقاليم ويضم هذا الديوان الكبير نخبة من الكتاب الذين يجيدون اللغتين العربية والتركية وكان محمود أفندي «جرنال ناظري» يقوم برفع التقارير الواردة من الأقاليم إلى الوالي وكان للمدن المصرية الكبيرة دواوين على غرار الديوان الرئيسي بالقاهرة ويرأس تلك الدواوين ناظران عامان أحدهما في الوجه البحري والآخر بالوجه القبلي مكلفان برفع تقارير أسبوعية توضع «بجرنال الخديوي» الذي يتضمن تقارير عن مقدار الأموال التي تم إنفاقها أو تحصيلها وكميات الغلال .. إلخ من بنود تخص إدارة الأقاليم وأخبارها.
الطريف بشأن هذا الجرنال الخديوي أن هذا التقرير الرسمي كان يطبع يوميا بعض قصص ألف ليلة وليلة ويرسل إلى جانب الوالي إلى رجالات الدولة ومأموريها واستمر هذا الجرنال في الصدور حتى بعد تأسيس الوقائع المصرية بوصفه الجريدة الرسمية التي تتضمن الأخبار السريعة التي تهم الوالي وظل على هذا المنوال قاصرا على تناول ما يهم الحاكم دون المحكومين.
على عكس «جرنال الخديوي» جاء تأسيس الوقائع المصرية يقوم على ضرورة مخاطبة جمهور أوسع من الحكام فهى الجريدة التي كان المنشود منها أن تخاطب «الخاصة والعامة» على حدا سواء حيث حرص الوالي على توزيعها على أكبر عدد ممكن من الرعايا غير أنها على أي حال لم تقرأ خلال عهد محمد علي باشا إلا داخل بيئة خاصة تتكون من كبار الموظفين والأمراء والمعلمين وطلاب العلم الذين كانت توزع عليهم جميعا مجانا وبمرور الوقت تم فرضها على كافة موظفي الدولة الذين كانوا يدفعون اشتراكها «راضين أو ساخطين» وفرضت الجريدة فرضا على ضباط الجيش بمختلف مواقعهم.
أعد محمد علي باشا لجريدة الوقائع المصرية إلى جانب المطبعة عددا غير قليل من المحررين والمترجمين والعمال وفرض على موظفيه من المصريين والأجانب أن يساهموا في الكتابة للجريدة وكانت الجريدة تصدر في بدايتها بشكل غير منتظم فأحيانا ما كانت تصدر ثلاث مرات أسبوعيا أو مرة واحدة بالأسبوع وقد تطول الفترة الزمنية بين العدد والآخر وصدرت على أربع صفحات وفي القليل النادر في ثمان صفحات باللغتين التركية والعربية ورغم كل تلك الجهود التي بُذِلَت إلا أنها ظلت بمثابة الصحيفة الرسمية ولم تتمكن من الانتقال لأن تصبح صحيفة شعبية يقبل عليها الجمهور العام.
إلى جانب الأخبار المحلية حرصت الجريدة على نشر بعض الأخبار العالمية المتنوعة عن أسبانيا وإنجلترا واضطرابات إيرلاندا والعلاقة ما بين الباب العالي وروسيا وغيرها من موضوعات وما كان يعيب الجريدة يتمثل في شيوع بعض الألفاظ التركية في سياق النصوص العربية سواء كان النص مكتوبا بالعربية أو مترجما عن التركية.
حين أصبح رفاعة رافع الطهطاوي مسؤولا عن جريدة الوقائع المصرية عام 1835 حرص على تطويرها فباتت تضم بعض النصوص الأدبية وأخذت الجريدة تخطو خطوات جيدة نحو التمصير وأصبحت اللغة العربية والأخبار المصرية تحتل مكان الصدارة بها إلى جانب كتابات طهطاوي المتنوعة التي تناولت العلاقة بين الشرق والغرب.
توالت السنوات ورغم ما تعرضت له الوقائع المصرية من تراجع شديد في بعض الأحيان إلا أنها ظلت شاهدة على ما مر به المجتمع المصري من تطور فقد أرخت لنشأة المدارس المصرية كما نشرت أخبار حفر قناة السويس وافتتاحها وحين رأس تحريرها الشيخ محمد عبده عام 1880 صارت تصدر بشكل يومي عدا يوم الجمعة وصار لها مطبعة خاصة بها «مطبعة الداخلية الجليلة» وشهدت الجريدة «عصرها الذهبي» على يد الشيخ محمد عبده حين ضم إليها أقلاما جديدة ما جعلها تشهد تطورا ملحوظا جعل منها محط أنظار العديد من القراء.
تحولت الجريدة على يد الإمام محمد عبده إلى جريدة للخاصة والعامة بالمعنى الذي تمناه محمد علي باشا ولم يتحقق خلال عهده حيث بات لها أثرا فاعل بمختلف مناحي الحياة سواء كان هذا بمجال الأدب أو الحياة الاجتماعية والسياسية وتحولت من كونها لسان الحاكم إلى كونها وسيط ما بين الحاكم والمحكومين «كانت تخاطب العامة بلسان الحكومة وتخاطب الحكومة بلسان العامة» كانت الوقائع المصرية بمثابة مدرسة في الصحافة خدمها رفاعة رافع الطهطاوي وتلاميذه ومنهم انتقلت لمحمد عبد وتلاميذه.
احتل الإنجليز مصر عام 1882 فسجن الإمام محمد عبده واحتجبت الوقائع المصرية من 10 يوليو إلى 21 سبتمبر 1882وحين عادت من جديد غلبت عليها الصفة الرسمية قبل كل شيء وفقدت روحها الجماهيرية التي اتسمت بها على يد الإمام محمد عبده.
استمر تدهور الوقائع المصرية خلال عهد الاحتلال غير أنها عادت من جديد للنشاط عقب صدور دستور 1923 حيث أصبحت تنشر مضابط مجلس الشيوخ والنواب كملحق لها ومع عام 1932 زاد عدد صفحاتها زيادة ملحوظة وبلغت بعض أعدادها عام 1934 مائة وسبع عشر صفحة وقد رجعت تلك الزيادة إلى كونها أصبحت تنشر نصوص القوانين واللوائح ونتائج الامتحانات العامة وأسماء الناجحين إلى جانب مضابط البرلمان ولضخامة تلك المضابط تم تخصيص قسم خاص من الجريدة لشؤون البرلمان أطلق عليه «الوقائع المصرية – القسم البرلماني» وصدر العدد الأول منها في يوم الخميس 2 يناير 1941.
رغم كل ما يمكن أن يقدم من نقد لتجرية تأسيس جريدة الوقائع المصرية إلا أنها تظل بمثابة وثيقة تاريخية هامة حفظت للمؤرخين الكثير من معالم تطور المجتمع المصري منذ عهد محمد علي باشا والأسس التي أرسى عليها نهضة مصر خلال القرن التاسع عشر من تأسيس المدارس المختلفة التي أصبحت فيما بعد نواة للجامعة المصرية ومرورا بحفر قناة السويس وغيرها من الأحداث والتقلبات التاريخية الهامة التي شهدتها مصر منذ تأسيس الوقائع المصرية حتى لحظتنا الراهنة.