مازالت مقبرة الجالية السويسرية بمدينة الأسكندرية تضم لافتة وضعت على أحد القبور تحمل اسم لينوس جاش وتاريخ ميلاده: 12 يوليو سنة 1888 وتاريخ وفاته: 3 يوليو 1962م ومازال العديد من المهتمين بدارسة جذور نشأة وتطور صناعة الغزل والنسيج بمصر يشهدون لهذا السويسري بالفضل الكبير في إرساء دعائم هذه الصناعة.
الباحث المتخصص في الدراسات التاريخية مصطفى عبيد في كتابه «سبع خواجات .. سير رواد الصناعة الأجانب في مصر» يتتبع سير حياة سبع من الأجانب الذين لعبوا دورا مؤثرا بمجال الصناعة بمصر خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.
يصحبنا الكاتب عبر سير هؤلاء الرواد لخوض رحلة شيقة طاف خلالها بعدد من أحياء القاهرة والإسكندرية وأهم الصناعات التي تأسست بهما وكيف ساهمت تلك الصناعات في التطور العمراني لهما وكيف أثر بعض الأجانب في حياة المصريين حتى أن بعض أحياء القاهرة والإسكندرية مازالت تحمل أسماء بعضهم مثل «حى كوتسيكا» بالقاهرة و«حى جناكليس» بالإسكندرية.
لينوس جاش وصناعة الغزل والنسيج بمصر
«بعد أيام سيعقد في القاهرة مؤتمر غُزَّال القطن الدولي وسيكون له شأن عظيم في عالم الإقتصاد وسيعود بالفائدة الأدبية والمادية على مصر والحكومة تهتم بالمؤتمر اهتمامًا عظيمًا، وقد عقدت لجنة تنظيم المؤتمر يوم الأحد الماضي جلستها الأخيرة برئاسة معالي بركات باشا وزير الزراعة، وبحثت المسائل الخاصة بالمؤتمر» .. من مجلة المصور العدد رقم 119 الصادر في 21 يناير سنة 1927 .. اختارت المجلة صورة اجتماع «غُزَّال القطن» على صدر غُلافها حيث يقف مسيو لينوس جاش وسط باقة من ألمع رموز الصناعة بمصر والعالم بوصفه سكرتير عاما لأعمال المؤتمر .. تُرى من يكون مسيو لينوس جاش هذا؟
الباحث مصطفى عبيد يستهل حديثه عن مسيو لينوس جاش بالإشارة إلى أن تجارة القطن المصري كانت قد شهدت انتعاشا كبيرا خلال عهد محمد علي باشا وسعيد باشا ما جعل رجال الأعمال السويسريون يقبلون على القدوم إلى مصر والقيام بتأسيس العديد من الشركات التجارية للحصول على حقوق تسويق القطن المصري بمختلف البلدان الأوربية وبهذا استقبلت القاهرة والأسكندرية عدد كبير من العائلات السويسرية الأمر الذي لفت نظر ذاك الشاب الطموح لينوس جاش وجعله يتخذ قراره بالقدوم إلى مصر التي هام بها عشقا حتى أنه عاش فيها لنحو خمسين عامًا تعلم خلالها اللغة العربية واكتسب الكثير من سمات الشخصية المصرية وعاصر سبع حكام مختلفين لمصر وعاصر زمن الامتيازات الأجنبية ثم زمن المد الوطني وأخيرا زمن الاشتراكية حتى مات ودفن بأرض معشوقته مدينة الإسكندرية.
لعب جاش دورا بارزا في تطوير وتنمية صناعة الغزل والنسيج وفي الترويج للمنسوجات المصرية بكبرى الأسواق العالمية فضلا عن دوره داخل اتحاد الصناعات المصرية حيث شغل منصب وكيل الإتحاد وكان شاهدا على مجمل التحولات الاقتصادية التي شهدها المجتمع المصري على امتداد نصف قرن من الزمان.
من كامب شيراز إلى حمام كليوباترا
استشهد مصطفى عبيد بكتاب السويسرية «إيثار زميرلي هاردمان» الذي يحمل عنوان: «من كامب شيراز إلى حمام كليوباترا» والذي رصدت فيه بعض مشاهد من طفولتها التي قضتها بمدينة الأسكندرية وروت فيه عن تواجد الجالية السويسرية بمصر منذ القرن السابع عشر الميلادي وحتى بداية ستينيات القرن العشرين.
تشير هاردمان في كتابها إلى اهتمام الشركات السويسرية بمصر وتوقعها أن تتبوا موقعا متميزا بمجال زراعة وإنتاج الأقطان الأمر الذي دفع العديد من رجال الأعمال السويسريين إلى تأسيس فروع لشركاتهم بمصر وكيف بدأت بيوت الأزياء الكبرى بسويسرا في الاعتماد بشكل كبير على الأقطان المصرية التي تميزت عن غيرها من الأقطان من حيث الجودة.
وصلت إلى مصر عائلات سويسرية متخصصة في مجال صناعة الغزل والأقمشة مثل: عائلة بلانت التي انشئت شركة كبيرة سنة 1897 وعائلة رينهارت التي افتتحت فرعا لشركتها بالإسكندرية سنة 1903 وظلت تعمل حتى صدور قرارات التأميم في الستينيات من القرن الماضي وعائلة كوبر التي أقامت عدة فروع في القاهرة والإسكندرية.
بتلك الأجواء التي أقبل فيها السويسريين على القدوم إلى مصر حضر الشاب لينوس جاش مواليد مدينة جنوا وهو في العشرينيات من عمره والمتخصص بمجال صناعة الغزل والنسيج ليعمل بشركة الأقطان والغزل الأهلية بمدينة الإسكندرية والتي كانت من أهم وأكبر الشركات التي تأسست سنة 1912 على يد مجموعة من الأجانب: «يونانيين وإنجليز وسويسريين» تأسست الشركة برأس مال قدره 48 ألف و750 جنيه وهو رقم كبير بمقايس زمانه وبلغ عدد مغازل الشركة وقتها ألفي مغزل وتجاوز عدد الأنوال الميكانيكية فيها ال600 نول.
بدأ ليونس جاش عمله بالشركة كفني ثم صرعان ما تولى منصب المدير العام المسئول عن الشركة ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1917 تضاعف الطلب على الأقطان والغزول المصرية في ظل توقف العديد من المصانع الأوربية عن الإنتاج ما دفع الرجل إلى اتخاذ العديد من القرارت التي أدت للتوسع في الإنتاج مستعينا بآلاف العمال المصريين إضافة للتوسع في إدخال القطن اليدوي والكتان والصوف والحرير ضمن خامات الإنتاج.
توالت السنوات وأصبحت سويسرا وطبقا لبيانات وزارة التجارة والصناعة السويسرية سابع دولة تستورد من مصر بعد كل من: «بريطانيا وفرنسا وأمريكا وإيطاليا وألمانيا وروسيا» وبلغت قيمة ما استوردته سويسرا من مصر عام 1928 نحو 59 مليون فرانك سويسري وكانت 98% من قيمة تلك المنتجات من الغزل والنسيج.
نجاح لينوس جاش في إدارة الشركة حوله من مجرد مدير إداري للشركة إلى أن أصبح أحد المساهمين والملاك ومن ثم تحول إلى أن أصبح أحد القادة الحقيقيين في صناعة النسيج بمصر فعلى يديه وصلت مكانة شركة الغزل الأهلية بالإسكندرية أن أصبحت ومعها شركة صناعة السكر وحدهما يستحوذان على ما نسبته 40% من إجمالي الأموال المستثمرة في الصناعة المصرية سنة 1939م.
يواصل مصطفى عبيد الإبحار داخل عالم لينوس جاش مشيرا إلى أن اسمه قد ورد ضمن قائمة أول مجلس منتخب لجمعية الصناعات المصرية سنة 1922 الذي تحول بعد ذلك إلى اتحاد الصناعات المصرية سنة 1930 ويستمر اسم جاش عضوا بمجلس إدارة الاتحاد على مدى أربعة عقود كاملة دون ان يبتعد عن العمل العام.
كانت الحماية الجمركية أحد أهم الآليات التي دفع بها اتحاد الصناعات المصرية خلال النصف الأول من القرن العشرين لحماية المنتجات المصرية ويكشف كتاب: «الرأسمالية الصناعية ودورها في مصر في مرحلة المشروعات الحرة 1919 – 1952» للكاتب عبد السلام عبد الحليم صبيح عن طبيعة الدور الذي لعبه جاش في إقرار التعريفة الجمركية الجديدة التي هدفت لحماية المنتج المصري وكيف أن الحكومة المصرية اقبلت على إقرار تلك الحماية الجمركية تأكيدا على استقلال القرار المصري عقب إعلان استقلال مصر إسميا سنة 1923 وهو ما مثل ضربة قاصمة لمعظم الشركات الإنجليزية التي كانت تتعامل مع مصر بوصفها سوقًا رئيسيا لمنتجاتها غير المباعة بأوروبا.
يستشهد مصطفى عبيد بذلك التقرير الذي أصدرته البورصة المصرية والصادر خلال عام 1942 ويشير إلى أن لينوس جاش كان يدير وحده ست شركات كبرى من بينها الغزل الأهلية بالإسكندرية فضلا عن شركات: «سوسيتيه إيجبشيان لصناعات النسيج وسوسيتيه إيجبشيان للصباغة والتجهيز وشركة النحاس المصرية والبنك البلجيكي الدولي وسوسيتيه إيجبشيان للنسج».
سنة 1948 قبيل حرب فلسطين شكلت وزارة التجارة والصناعة المصرية لجنة متخصصة لتنمية الصناعات المصرية بمختلف القطاعات وشارك جاش كعضو بتلك اللجنة المعنية بدراسة ومشكلات صناعة الغزل وتقييم أوضاعها وصدر عن اللجنة تقريرا مجمع بأحوال الصناعة وتضمن التقرير الإشارة إلى أن أكبر الشركات من حيث عدد المغازل هى شركة غزل ونسيج المحلة التي أسسها طلعت حرب باشا وبلغ عدد المغازل بها نحو 161 ألفا و300 مغزل وجاءت شركة الغزل الأهلية المصرية بالإسكندرية في المرتبة الثانية والتي كان يملك الجانب الأكبر منها ويديرها لينوس جاش وبلغ عدد مغازلها 78 ألفا و940 مغزلا وهو ما كان يعني أن مغازل شركتا بنك مصر وشركة جاش وحدهما تجاوزت نسبتهما ال70% من إجمالي عدد المغازل الموجود بمصر بذلك الحين والذي كان قد بلغ نحو 326 ألفا و540 مغزلا.
قامت ثورة يوليو 1952 وجرت الأحداث مسرعة وتوالى خروج غالبية الأجانب من مصر إلا أن لينوس جاش قد اختار البقاء بمعشوقته مدينة الإسكندرية وحين صدرت قرارات التأميم وجد الرجل نفسه بلا مشروعاته التي عاش من أجلها فلم يعش بعدها مطولا وتوفى بشهر يوليو عام 1962 عن عمر يناهز الرابعة والسبعين عاما بعد رحلة طويلة من الكفاح والنجاح تضمنت تأسيس عائلة أقامت بمصر وامتدت معيشتها بعد وفاته حتى أن أبنه روبرت المولود سنة 1918 عاش بالإسكندرية حتى وفاته في 15 يوليو عام 2011.
وللحديث بقية،