أصدر الملك فؤاد يوم 21 نوفمبر سنة 1936 «أمرا ساميا» بإنشاء ثلاثة نياشين مصرية هى: نيشان الفلاح، ونيشان المعارف، ونيشان التجارة والصناعة وتقرر أن يتم منح كل نيشان منها إلى شخصة عامة أسهمت في تنمية المجتمع المصري وقد جاء اسم السويسري «إرنست ترامبلي» من بين أوائل الذين تم منحهم نيشان التجارة والصناعة لما قدمه من خدمات للصناعة الوطنية المصرية .. تُرى من هو إرنست ترامبلي هذا وما هو طبيعة الدور الذي لعبه هذا الرجل؟
الباحث المتخصص في مجال الدراسات التاريخية مصطفى عبيد في دراسته التي تحمل عنوان: «سبع خواجات .. سير رواد الصناعة الأجانب في مصر» يتتبع سير حياة سبع من الأجانب الذين لعبوا دورا مؤثرا بمجال الصناعة بمصر خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين ومن بينهم سيرة «إرنست ترامبلي» الذي يعد بمثابة الأب الروحي لصناعة الأسمنت بمصر وطبيعة الدور التنموي الذي ساهم فيه.
السويسريين عشاق الشرق
يستهل مصطفى عبيد تقديمه للجالية السويسرية التي أقامت بمصر بالإشارة إلى أن مصر اجتذبت منذ القرون الوسطى الكثير من الرحالة والفنانين السويسريين المهتمين بالشرق ولعل أشهر هؤلاء الرحالة يوهان لودفيك بركهارت الذي وصل مصر مطلع القرن التاسع عشر وتحديدا عام 1809 وتعلم العربية واعتنق الإسلام وقام بتغيير اسمه إلى إبراهيم بن عبد الله ومات سنة 1816 ودفن بمقابر المسلمين بباب النصر ومازالت مقبرته باقية حتى يومنا هذا.
كما زار مصر من الفنانيين السويسريين الرسام «كارل جيرارد» الذي وصل إليها سنة 1842 وطاف بالقاهرة والإسكندرية والعديد من مدن الصعيد حتى وصل المنيا ورسم العديد من المشاهد الطبيعية الجميلة صورت حياة الفلاحين في القرى والنجوع وعاداتهم وأحوالهم.
وعلى الرغم من مجيء الجالية السويسرية في المرتبة التاسعة بين الجاليات الأجنبية في مصر من حيث العدد خلال النصف الأول من القرن العشرين -إذ لم يزد عدد أفراد الجالية عام 1937 على 1250 شخصا- إلا أن تلك الجالية تميزت عن غيرها من الجاليات الأجنبية باعتبارها الأفضل تعليما والأكثر خبرة ودراية بالأعمال الفنية لذا عمل السويسريون الوافدون إلى مصر بالوظائف المتميزة التي تتسم بمنح صاحبها مكانة اجتماعية عالية إضافة لتمتع أصحابها بالمرتبات المرتفعة مقارنة بأبناء غيرهم من الجنسيات الأخرى.
بهذا السياق وفد إرنست ترامبلي المولود بمدينة لوزان السويسرية سنة 1876 والمتخرج من مدرسة الهندسة إلى مصر خلال السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر وشغل منصب أول رئيس لأول شركة أسمنت تم تأسيسها بمصر وهى شركة «أسمنت بورتلاند طرة» كما شارك في تأسيس جمعية الصناعات المصرية سنة 1922 وتولى منصب السكرتير العام الفخري بعد تحويلها إلى اتحاد الصناعات المصرية سنة 1930.
«أسمنت بورتلاند طرة» .. خطوة جادة نحو النهضة العمرانية
يروي مصطفى عبيد قصة تأسيس شركة «أسمنت بورتلاند طرة» التي تعد أول شركة لإنتاج الأسمنت بالشرق الأوسط مشيرا أن البلجيكيون هم من أسسوا الشركة سنة 1900 بموجب أمر من خديوي مصر عباس حلمي الثاني وبلغ رأس مال الشركة نحو مليونين و300 ألف فرانك سويسري وهو رقم كبير نسبيا بمعايير ذاك العصر.
تم إختيار منطقة طرة لإنشاء المصنع لكونها منطقة صحراوية قريبة من العاصمة وتطل على نهر النيل وهو ما سوف يتيح للشركة نقل المنتجات والخامات بسهولة ويسر عبر النقل النهري إلى جانب قرب موقع الشركة من خط السكك الحديدة الذي امتد ليربط حي حلوان بالقاهرة رغم كون المسافة بينهم لم تتجاوز 25 كيلو متر هذا بالإضافة إلى قرب المنطقة من جبل المقطم حيث يمكن تقطيع الأحجار اللازمة للصناعة منه.
بلغ متوسط إنتاج الشركة طبقا لمجلة مصر الصناعية الصادرة في سنة 1925 خلال السنوات الأولى نحو 50 ألف طن وعمل بها ما يقرب من خمسمائة عامل وخصص الإنتاج بالكامل للاستهلاك بالسوق المصرية لتغطية احتياجات تلك المباني الحكومية والقصور والمنازل الضخمة التي تم تأسيسها بذلك الحين.
ساهمت الشركة بدور متميز في إحداث تلك النهضة العمرانية التي شهدتها مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين بما تضمنه هذا من إنشاء المتحف المصري عام 1902 بميدان التحرير على يد المهندس الفرنسي مارسيل دورنون إضافة لتأسيس قصر البارون إمبان بمصر الجديدة على يد المهندس الفرنسي ألكسندر مارسيل سنة 1906 وقصر الخواجة كارل بايرلي مؤسس بنك كريدي فرنسية إيجبسيان سنة 1908 الذي اشتراه فيما بعد سراج الدين باشا وعاش فيه فؤاد سراج الدين –زعيم الوفد- حتى وفاته سنة 2000 إضافة إلى إنشاء الكثير من القصور الخديوية والمباني الحكومية.
يواصل عبيد الإبحار داخل عالم تجربة إرنست ترامبلي مدير شركة أسمنت طرة مشيرا إلى أنه وفي سنة 1927 تم تحويل الشركة من شركة يمتلكها البلجيكيون إلى أن أصبحت شركة مساهمة مصرية وتم زيادة رأس المال مع الزيادة الواضحة في الطلب المحلي على الأسمنت ولم يحل عام 1928 حتى تعاقدت الشركة مع الحكومة المصرية على استخراج الخامات التي يصنع منها الأسمنت بمساحة تبلغ 65 فدان بمديرية الجيزة مقابل إيجار سنوي قدره 95 جنيها وإتاوات قدرها 5 مليمات عن كل متر مكعب يتم استخراجه ومع حلول عام 1933 تم إنشاء مصنع جديد تابع للشركة لصناعة البلاط وآخر لصناعة الأكياس الورقية.
شركة أسمنت بورتلاند حلوان
نجاح تجربة شركة أسمنت بورتلاند طرة شجعت عدد آخر من المستثمرين على تأسيس شركة أخرى في مجال إنتاج الأسمنت وهى شركة «أسمنت بورتلاند حلوان» التي تم تأسيسها على يد مجموعة من المصريين والدنماركيين بطاقة إنتاجية بلغت في حينها 100 ألف طن سنويا.
مع ميلاد الشركة المنافسة حاولت شركة طرة عقد اتفاق مع شركة حلوان لتنظيم السوق فيما بينهما بهدف عدم إضرار أي طرف للآخر فجرت مفاوضات عصيبة ما بين الجانبين بمدينة جين بإيطاليا إلا أنها لم تكلل بالنجاح وهو ما أدى بأسعار منتجات الأسمنت إلى أن تشهد تراجعا شديدا ومن ثم تراجعت أرباح الصناعة بشكل عام فعادت الشركتان للتفاوض مرة أخرى فتوصلا لاتفاق تم في 19 فبراير سنة 1931 على إنشاء مكتب مشترك لبيع الأسمنت وفي الشهر ذاته صدر مرسوم بقانون ينص على فرض رسم قدره ثلاثون قرشا على كل طن أسمنت يتم استهلاكه ومع تزايد الصعوبات فكر المنتجون في تنفيذ مشروعات مشتركة بمساعدة بنك مصر فنجم عن ذلك تأسيس شركة جديدة سنة 1938 هى شركة مصر لأعمال الأسمنت المسلح ومع سنة 1949 أنشئت شركة لإنتاج الأسمنت بمدينة الإسكندرية بحي الماكس ولم تمر سوى سنوات قليلة بعد ثورة يوليو 1952 حتى تم إنشاء الشركة القومية للأسمنت.
اعتمد ترامبلي بمجمل أعماله التوسيعية في الإنتاج بشركة أسمنت طرة على إجراء عدد من الدراسات وخطط العمل إلى جانب الاستفادة من المعدات الحديثة الأكثر قدرة على زيادة معدلات الإنتاج مع اتباع سياسة تقوم على تدريب العمال حيث حرص على إنشاء إدارة خاصة بالتدريب بشركة طرة إضافة للمشاركة في وضع دراسات وأوراق عمل حول مستقبل الصناعة بمصر. توالت رحلة مصر مع إنتاج الأسمنت فارتفع الإنتاج بشكل عام من نحو 400 ألف طن سنة 1940 إلى أكثر من 25 مليون طن سنة 2014 وبلغ حجم الصادرات المصرية من الأسمنت نحو 12.3 مليون طن عام 2004.
يختتم عبيد سيرة الرجل بالإشارة إلى أن أخر وثيقة متاحة ورد فيها ذكر اسم إرنست ترامبلي كمدير لشركة أسمنت طرة ترجع إلى عام 1943 وكان في السابعة والستين من عمره وتوفى سنة 1967 عن عمر يناهز 91 عاما وما بين التاريخين لم يتمكن الكاتب من التوصل لأي تفاصيل تخص حياته خاصة وأن اسمه لم يرد ضمن أعضاء لجان تطوير الصناعة المصرية التي تم تشكيلها سنة 1948 ومع هذا يظل لترامبلي الفضل الكبير بوصفه الأب الروحي لإنتاج الأسمنت بمصر عبر إدراته لأول شركة أسمنت تم تأسيسها بمصر وما شهدته مصر من توسع بهذا المجال يعد أحد ثمار جهده وتفانيه في تطوير تلك الصناعة.