ثقافة

وداعًا مريد البرغوثي..عاشق من فلسطين

“أتَلَمَّسُ أحوالي…لا مشكلة لديّ
شكلي مقبولٌ. ولبعض الفتيات
أبدو بالشعر الأبيض جذابا
نظّاراتي متقنةٌ
وحرارةُ جسمي سبعٌ وثلاثونَ تماما
وقميصي مكويٌ وحذائي لا يؤلمني
لا مشكلة لدي”

بهذه الكلمات وصف الشاعر العربي مريد البرغوثي ذاته بشكل لا يخلو من طرافة٫ ذلك الشاعر الذي رحل عن عالمنا في “عيد الحب”٫ تلك القيمة التي لم تغب يوما عن أشعاره وإبداعاته.

وُلد البرغوثي عام ١٩٤٤ في بلدة “دير غسانة” بالقرب من مدينة رام الله في الضفة الغربية بفلسطين٫ ولم يتجاوز عامه الرابع حين وقعت ما أسماه الفلسطينيون والعرب بشكل عام “النكبة” عام ١٩٤٨ حين قامت الدولة الصهيونية على نحو ٧٨ بالمائة من أرض فلسطين التاريخية وعلى حساب طرد ثلاثة أرباع مليون فلسطيني من ديارهم.

شكلت النكبة جزءا لا يتجزأ من وعي البرغوثي وإبداعاته لاحقًا٫ وكان قدره أن يعيش ظروف النكبة مجددًا٫ حيث وقعت نكسة عام ١٩٦٧ وهو يدرس أدآب اللغة الإنجليزية في جامعة القاهرة وتم منعه كغيره من قبل قوات الاحتلال الصهيوني من العودة إلى الضفة الغربية.

وهو الموقف الذي عبر عنه البرغوثي بشكل بليغ في روايته “رأيت رام الله” حين قال: “نجحت في الحصول على شهادة تخرّجي وفشلتُ في العثور على حائط أعلِّق عليه شهادتي”

شهد العام ١٩٧٢ حدثين هامين في حياه البرغوثي٫ الأول هو صدور أول ديوان شعري له في بيروت بعنوان “الطوفان وإعادة التكوين” والثاني هو الانتفاضة الطلابية التي شهدتها جامعة القاهرة وكان أحد المشاركين فيها إلى جانب سيدة ستكون شريكة دربه وحياته لاحقا وأما لابنه الوحيد الشاعر تميم البرغوثي وهي رضوى عاشور الطالبة آنذاك وأستاذة الأدب الإنجليزي والأديبة المبدعة لاحقا.

لم يستطع مريد الفلسطيني أن يهنأ بزواجه من رضوى المصرية طويلا ففي عام ١٩٧٧ وفي أعقاب زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى مدينة القدس تم ترحيل عدد من المثقفين والكتاب الفلسطينيين وكان من بينهم البرغوثي لتبدأ رحلة المنافي التي تنقل خلالها بين عدد من العواصم والمدن مختلفة على مدار ثلاثين عاما كان مونسه فيها هو شعره.

تجاوزت دواوين البرغوثي الشعرية نحو ١٣ ديوانا نشرت ما بين القاهرة وبيروت وقبرص إضافة إلى أعمال نثرية أبرزها روايته “رأيت رام الله” التي وصف فيها رحلته إلى مدينته بعد نحو ثلاثين عاما من احتلالها.

تميز شعر البرغوثي ببساطة اللغة والتعبيرات المستخدمة ووضوحها وبٌعدها عن التعقيد ويشير الباحث محمود أحمد عبد الغفار في دراسة له عن شعر البرغوثي إلى أن الأخير “ترك ركب الشعر التقليدي واختار اللغة البسيطة”.

ويضيف “أن توظيف التكرار سمة بارزة ومميزة في شعر البرغوثي” حيث يُوصل إلى قارئه من خلال هذا التكرار “الكثير من الإيحاءات من خلال القليل جدا من الكلمات”.

ويضرب مثالا لهذه الإيحاءات بقصيدة “تفسير” للبرغوثي التي تناول فيها التفسيرات المختلفة لعمل إبداعي بما ذلك أشعاره هو نفسه:

“شاعر يكتب في المقهى
العجوز، ظنَّتْه يكتب رسالة لوالدته
المُراهِقَة، ظَنَّتْهُ يكتب لحبيبته
الطفل، ظَنَّهُ يرسم
التاجر، ظَنَّهُ يَتَدَبَّرُ صَفْقَة
السائح، ظَنَّهُ يكتُبُ بِطاقَةً بريدية
الموظَّف، ظَنَّهُ يُحْصي دُيونَه
رَجُلُ البوليس السِّرِّيّ،
مَشى
نحوَهُ
بِبُطء”.

أما الباحثة نسرين عطا فترى في دراسة بعنوان “شعر مريد البرغوثي : دراسة أسلوبية” أن شعر البرغوثي جاء “نابضًا بالحيويّة والحركة والصّوت” وأنه يقدم في قصيدته “صورة مكتملة الملامح واضحة المعالم”.

كما يغلب على أسلوب البرغوثي توظيفه في أشعاره أدوات يستخدمها الإنسان في حياته اليومية بل و يستنطق هذه الأدوات في قصائده مثل قوله :

“قال القلم للمِبراة:
أنتِ كبعض الأحزاب…
يدخلها المَرء
فَتَقْصُر قامتهُ
ويضمر رأسُه!”

ومن اللافت حقا أن يتمكن شاعر من أن يرصد ببصيرته حتى مشهد رحيله عن هذا العالم حيث تبدو قصيدة البرغوثي “لا بأس” وكأنها رصد مبكر لهذا المشهد:

لا بأسَ أن نموت والمخدَّةُ البيضاءُ،
لا الرصيفُ
تحتَ خَدِّنا
وكَفُّنا في كَفِّ مَن نُحِبّ،
يُحيطُنا يأسُ الطبيبِ والممرِّضات
وما لنا سوى رَشاقَةِ الوداعِ
غَيرَ عابِئين بالأيامِ
تاركين هذا الكونَ في أَحوالِهِ
لعلَّ “غَيْرَنا”…
يُغَيِّرونَها.”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock