هذه المقالة منقولة عن موقع صحفية المصري اليوم، لقراءة المصدر الأصلي من هنا
أثار قرار وزير قطاع الأعمال بتصفية شركة الحديد والصلب المصرية فى منتصف شهر يناير سؤال: كيف تكبدت الشركة كل هذه الخسائر والمديونيات على مر السنوات، وفى نفس الوقت استمرت فى الإنتاج والمنافسة لفترة طويلة، رغم تهالك المكن وزيادة المديونيات بهذا الشكل؟. لقد نادى الوزير بطرح حلول وتصورات مستقبلية للشركة كحل أخير قبل المضى قدماً فى قرار تصفية الشركة، ولذا أجد من الضرورى طرح تصور مختلف عن الذى تم تداوله عن أوضاع الشركة فى الفترة الأخيرة بأنها شركة لا أمل البت فيها.
تشير تقارير البورصة المصرية فى عام 2020 عن شركة الحديد والصلب إلى توقف الإنتاج بشكل مستمر بسبب تقادم الآلات والمعدات وعدم توافر المادة الخام، مما أدى إلى زيادة الأعطال والتوقفات التى وصلت إلى ٩٤٪، بعد تراكم مجموعة من القرارات منذ التسعينيات، أهمها القرار الذى صدر بالحد من ضخ الموارد فى شركات القطاع العام وقطاع الأعمال والتى جاءت كجزء من سياسات برنامج الإصلاح الاقتصادى والتكيف الهيكلى. فتقلصت ميزانيات الصحة والتعليم وبدورها ميزانيات الإنفاق على الشركات المملوكة للدولة.
ومع ذلك كانت هناك كثير من المؤسسات والشركات العامة تدر أرباحًا فى بداية البرنامج رغم الدعاية الشديدة ضد القطاع العام، فبيعه كان قرارا أيديولوجيا أولا، حيث كان التصور أن القطاع العام غير قادر على المنافسة و«مال سايب» غير محكوم، أكثر ما هو قرار اقتصادى بحت. فيرصد المؤرخ تيموثى ميتشيل فى كتابه عن مصر «إدارة الخبراء» أنه فى عام ١٩٨٩-١٩٩٠ أى عشية قرارات الخصخصة، كانت هناك ٢٦٠ شركة قطاع عام رابحة من أصل ٣١٤ شركة. ويروى ميتشل أيضا أن هذه الشركات الرابحة هى التى تم بيعها أولا.
لم يتم خصخصة الحديد والصلب وقتها، ليس فقط بسبب إضراب ١٩٨٩ ومواجهاته الدامية، إنما أيضا بسبب الوعى للأهمية الاستراتيجية والرمزية للشركة. فهى من الشركات القليلة عالمياً التى يتم الإنتاج فيها بشكل متكامل من بداية استخراج المادة الخام حتى تصنيع المنتج النهائى. وكان لها دور رائد فى صناعة الحديد فى المنطقة، وقد تم انتداب العاملين بها لإنشاء مصانع مشابهة فى دول عربية مثل ليبيا والسعودية لمشاركة خبراتهم فى صناعة الحديد. أما نظام الإنتاج المتكامل فكان سببا كافياً فى بلاد كثيرة أخرى لديها مصانع حديد والصلب متكاملة مشابهة للحفاظ على شركاتها واعتبارها صناعة استراتيجية ودعمها حتى اليوم. ولنا مثال فى شركة «بيلاى» الهندية، أكبر شركة للحديد والصلب فى الهند، والتى أنشئت فى نفس توقيت وبنفس مواصفات الشركة المصرية. وتعد اليوم من أكثر الشركات العامة الرابحة فى الهند رغم تعرض الهند أيضا إلى ضغوطات نفس برنامج الإصلاح الاقتصادى والتكيف الهيكلى.
وظل برنامج الإصلاح الاقتصادى والتكيف الهيكلى له أثر غير مباشر أيضا على الشركة. فى ١٩٨٢ أنشئ مصنع حديد وصلب آخر فى الإسكندرية بمساعدة يابانية وبتكنولوجيا أفران متطورة، وأصبح معروفا بمصنع حديد الدخيلة. وتم بيع هذا المصنع بعد ذلك لرجل الأعمال أحمد عز. وساعدت ممارساته الاحتكارية على سيطرة شركة الدخيلة على سوق التسليح البيليت فى مصر. فحتى ٢٠٠٦ كان حديد التسليح يمثل ٨٠٪ من سوق الحديد فى مصر، هكذا أصبح حديد عز أهم مصنع للحديد فى مصر، حيث يحتكر أكبر شريحة من سوق الحديد. فى ٢٠٠٩ تم إغلاق عنبر حديد التسليح داخل شركة الحديد والصلب المصرية تماما بعدما فشل فى الصمود أمام الممارسات الاحتكارية لحديد عز الدخيلة. الجدير بالذكر أن عنبر حديد التسليح فى الحديد والصلب المصرية كان فى الجزء الألمانى من الشركة الذى تأثر بشدة بسبب عدم إحلال وتجديد المكن بسبب سياسات برنامج الإصلاح الاقتصادى والتكيف الهيكلى التى حدت من الإنفاق وكانت العنابر الألمانية التى بنيت فى الخمسينات من البداية تعانى من سوء توريد للمعدات.
رغم ذلك استمر الإنتاج واستمرت المبيعات، واعتمدت الشركة على تركيز إنتاج عنابر القطاعات الخفيفة التى بنيت بتكنولوجيا روسية فى السبعينات وكانت أقدر على مواكبة السوق فى سلعة عليها إقبال شديد.
أما القطاعات التى استمرت فى الجزء الألمانى من الشركة فقام فيها العمال بأدوار عظيمة لضمان استمرار الإنتاج وتعويض عدم الإنفاق على المكن، وشمل هذا الجهد مثلاً تصنيع العمال قطع الغيار بأنفسهم فى ورش المصنع لتوفير شراء قطع الغيار من الخارج، زاد من قدرتهم أن معظمهم كان يعمل فى الشركة منذ ثلاثين أو أربعين عاماً والخبرات التى اكتسبوها كانت لا تضاهى بمال بسبب فهمهم لطبيعة هذا المكن ولعملية الإنتاج ولسوق الحديد ككل. وتأثر العمال بقرار وقف التعيينات فى القطاع العام وقطاع الأعمال ككل لمدة ١٦ عاما منذ بداية التسعينات، ثم فتح الباب للشباب لفترة محدودة ما بين ٢٠٠٧ و٢٠١١ ولكن بعقود مؤقتة، فتقلص عدد العمال من ٢٥٠٠٠ عامل عام ١٩٨٢ إلى ٧٥٠٠ عامل فى ٢٠٢٠ وأصبحت الشركة تعمل بثلث قدراتها.
استمر الحال هكذا لفترة حتى عجزت الشركة عن مواجهة قرار وقف إمداد شركة الكوك للفحم لاحتياجات شركة الحديد والصلب من الفحم وفصلهم عن بعض كشركتين كان يتم التعامل بينهما ككيان واحد نتيجة تفاقم مديونيات شركة الكوك وقله إنتاجها، ولكن كان قرار ضخ الأموال فيها لإنقاذها مما جعلها لا تعتبر شركة الحديد والصلب أولوية لها وفصلت الشركتين.
أما القرار الأخير الذى أثر على سوق الحديد الوطنى ككل وهو زيادة سعر الطاقة وخصوصا سعر الغاز الطبيعى والذى أثر على قدرة المصانع الوطنية على منافسة المنتجات العالمية من الحديد وخصوصا الحديد المستورد، الذى تم إغراق السوق به (وخصوصا بعد أزمة كورونا بعد ركود بيع الحديد العالمى وبيع مصانع كثيرة عالمية لمنتجاتها بأسعار قليلة للتخلص من البضاعة الراكدة).
وهكذا أصبح من الصعب الحفاظ على استمرار إنتاجية شركة الحديد والصلب بدون تدخل سياسى واقتصادى واضح يحافظ على الصناعات الوطنية ويرى فى إنقاذها فرصة للتصدى لتغيرات أسعار الحديد فى السوق عالميا، واعتماد نصف الإنتاج العالمى على الصين ذات الممارسات التجارية المجحفة التى يصعب منافستها ويرى فى المصنع المتكامل فرصة حقيقية لحماية السوق المصرية وتوفير منتجات مختلفة من الحديد هناك احتياج شديد لها. وتجدر الإشارة إلى أن مديونيات الشركة لا تعتبر واسعة مقارنة بمديونيات هيئات قطاع عام وخاص، بما يعنى أن إنقاذه ليس مستحيلا إنما يحتاج لإرادة.
ويبقى من المفيد الإشارة إلى أن المؤسسات المالية العالمية مثل صندوق النقد والبنك الدولى أصدرت مؤخرا تقارير كثيرة ملخصها أن المؤسسات العامة وقطاعات الأعمال تلعب دورا مهما فى الحماية الاجتماعية والحد من الفقر، وتشجع شراكات ما بين المؤسسات العامة والخاصة.
وتدل تجربة الحديد والصلب على أنها عززت من الدور الاجتماعى الذى تلعبه المؤسسات الصناعية وقدرتها على خلق كوادر مهنية ذات تدريب عال، فقصة مديونيات الحديد والصلب وتفاقمها على مر السنين ومحاولات الحفاظ عليها ترصد التغيرات المستمرة فى المخيلة العامة للأدوار التى تلعبها قطاعات الأعمال والصناعات الوطنية فى الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وهى القصة التى نتمنى أن يكون مازال أمامها فرصة لإعادة تشكيلها بشكل يضمن صلابة الاقتصاد والاجتماع معاً.