في الكتابات الثورية ، كما في التاريخ الثوري للشعوب حالات مُشابهة لٍمّ تعشه مصر إلي الأن ، فبعد ثورة شعبية كبيرة مثل الثورة الروسية عام ١٩١٧ ، وثورة شعبية أخري كالثورة الإسلامية في إيران عام ١٩٧٩ ، جرت أحداث وظهرت كتابات تُعالج تلك المشكلات الناتجة عن ثورات شعبية كبيرة بهذا الحجم ، ففي الثورة الروسية دعا أحد قادتها ” ليون تروتسكي ” إلى مفهوم ” الثورة الدائمة ” مُنطلقا من فرضية عملية ، بأن الثورة تحمي نفسها باستمرار العمل الثوري من تظاهر وإضراب وحشود جماهيرية لا تتوقف !!!
بل أنه زاد على ذلك بان الثورة ، في بلد ما لابد أن تحمي نفسها بما أسماه ” الثورة العالمية الدائمة ” أي تصدير الثورة إلى البلدان الأخرى ، في حين أن ” فلاديمير لينين ” قائد الثورة الروسية دعا إلى ماهو مُخالف لٍمّ طرحه رفيقه في الثورة ، فقد رد عليه وعلى غيره من دعاة الثورة الدائمة في كتاب هام عنوانه ” الدولة والثورة ” أكد فيه عَلى أهمية قيام الدولة الاشتراكية بعد نجاح الثورة ، واصفا الدولة ، ومن واقع قراءات تحليلية للثورة الفرنسية وغيرها ، بأنها ” أداة عصية وصعبة المراس ” ينبغي ترويضها لصالح الطبقة العاملة وتلك الطبقات المقهورة المتحالفة معها ، وأن الثورة لا قيمة لها دون تحقيق إنجازاتها على الأرض ، ببناء المصانع والمدارس ومؤسسات الثقافة والتعليم والعلاج وكهربة الريف والمدن ، و لإنجاز ذلك كله ينبغي توافر عاملين بالغي الأهمية : أولا ، بناء الحزب ، ثانيا ، بناء الجبهة الوطنية . وبذلك يمكن قيام ” الدولة النموذج ” ، النموذج في التقدم والعدل والحداثة وتفجير الطاقات الإبداعية للإنسان ” …
هذه الوقائع ، سواء على صعيد الفكر والوقائع العملية ، استمر الجدل حولها وبشأنها سنوات طوال ، سواء في الثورة الروسية أو الثورة الإسلامية الإيرانية عام ١٩٧٩ ، وهذه الوقائع أيضاً جرت وتجري في مصر بعد ثورة ٢٥يناير ، فنحن وخلال العديد من السنوات في حالة دائمة للبحث عن طريق ، فغداة الحادي عشر من فبراير ، وبعد ساعات من رحيل ” مبارك ” عاد الناس من الميادين ، ميدان التحرير وغيره ، إلى منازلهم وأعمالهم في انتظار التغيير المنشود !!
لكن الإنتظار طال ، ولم يحدث ماهو مأمول أو مأمون ، فقد تولي الجيش السلطة بتفويض من ” مبارك ” بإدارة شؤون البلاد ، أي إدارة انتقالية وليست حاكمة أو قائدة ، مهمته تسليم السلطة الحقيقية لإدارة مدنية مُنتخبة من عموم الشعب ، فضلا عن قيام مؤسسات تشريعية على أسس دستورية سليمة وواضحة ….
غير أن تلك الأماني لم يتحقق منها شيئا يُذكّر ، فالمجلس الأعلى للقوات المسلحة تحت قيادة المشير “حسين طنطاوي ” انتقل من حالة من الإضطراب أو الارتباك إلى حالة أخرى ، حالة من السعي إلى الهدوء ، بادئا إدارته لتلك المرحلة بإعلان دستوري في مارس من عام ٢٠١١ ، إذ قُلبت كل المعادلات والقواعد المعمول بها في مثل تلك الحالات الثورية ، فقد وضُع هدف صياغة الدستور الجديد للبلاد في المرتبة الثالثة من أولوياته ، بعد الانتخابات التشريعية وانتخاب رئيس الدولة …
وبدا عند كل ذي عينين أن ذلك الترتيب لا يخدم أحدا من القوى السياسية سوى جماعة الإخوان المسلمين ، فهي الأكثر تنظيما وقدرة على الحشد لعوامل كثيرة يطول شرحها ، وسوف نعالجها بإذن الله فيما هو قادم من حديث ….
كان الأمر أشبه وأقرب إلى [الصفقة ، بين الطرفين ]، ورغم عدم وجود أدلة قاطعة على صحة ما أقوله أو أؤكده ، فإن ما يعزز تصوري يرجع إلى أمرين ، أولهما ، وقوع المجلس الأعلى تحت تهديد ، خفي أو صريح من ” جماعة الإخوان ” بحرق البلد إذا لم يتم تمكينهم وفق السيناريو المُعد ، والذي جاء الإعلان الدستوري في مارس عام ٢٠١١ بما جاء فيه من نصوص ومواد ، مُعبرا عّما أرادوا وعلينا أن نتذكر سُبل الحشد من أن ” التصويت بنعم هو لصالح الإسلام ، والتصويت بغير ذلك هو لصالح دولة الْكُفْر العلمانية “!!
ثم انطلقت مظاهرات الفرح والسعادة الإخوانية وجماعات الإسلام السياسي المُتحالفة مع الجماعة ، والتي لخصها أحدهم ب ” غزوة الصناديق ” واللي “مش عاجبه عليه أن يُهاجر من البلد ” !!!
هذا عن الأمر الأول ، أما الأمر الثاني المٌتعلق بالمجلس الأعلى ، أنه وقع تحت ضغط أو وهم من أشاعوا له من بعض القوى السياسية وعلى رأسها ” جماعة الإخوان ” أن مكانه الطبيعي هو العودة سريعا إلى الثكنات العسكرية ، فليس له خبرة التعامل مع المشكلات المدنية بكل تعقيداتها ف ” السياسة نجاسة ” عَلى حّدْ زّعم ” كمال الشاذلي ” أحد أركان حكم مبارك ، ولم يجد واحد من قيادات الإخوان سوى تَرديدها ليقنع الجيش المصري بالامتثال لها !!
ورغم أن هذا الكلام فيه بعض من الصحة إلاّ أن فيه كثير من الخداع والتضليل والكذب ، قول ينطبق عليه وصف الإمام ” علي ” كرم الله وجهه ” كلمة حق يُراد بها باطل ” ….
والباطل هنا هو التصوير للمؤسسة العسكرية وقادتها ، بأن الجيش وليس المجلس الأعلى وحده ، هو فاقدا للثقة في النفس ،وغير قادر على الفعل ، وأن ما حدث بتكليفه إدارة شؤون البلاد هو توريطه والزّج به إلى تحديات ومشكلات لن يكون قادرا عَلى حلها ، لاعنا اليوم الذى نطق فيه اللواء ” عمر سليمان ” مدير المخابرات السابق ونائب الرئيس بتكليف ” مبارك ” للجيش بتلك المهمة العصية عليه ! ….
هذه الأحداث شكلت صورة لواقع سياسي واجتماعي مؤسف ومخزن …
البعد الأول:
أن جماعة الإخوان ومن لّفّ لفها تمكنت من آليات العمل التعبوي والحشد الجماهيري في عشرات المحافظات المصرية …
البعد الثاني:
أن ما عرف بمعسكر الثورة ، وإن كان قد اكتشف تامر الإخوان علي الثورة وتصارع معه ومع تحالف دعم الشرعية الذي ضم كل متطرفي الإسلام السياسي خاصة بعد ترك الإخوان للميدان لكي يركزوا علي مصالحهم ومقاعدهم في البرلمان ويقفزوا إلي أو علي السلطة . إلا أن أقساما محدودة ولفترات محدودة أيضا تعاونوا مع الإخوان خاصة بعد أن خيروا في الجولة الثانية لأول انتخابات رئاسية بعد ٢٥ يناير بين مرشح نظام مبارك (أحمد شفيق ) ومرشح الإخوان (محمد مرسي ) وهم من أطلق عليهم حزب ” عاصري الليمون ” أو مجموعة فيرمونت .
في هذه المرحلة من ارتباك القرار عند المجلس الاعلي للقوات المسلحة وخضوعه لفكرة أن الإخوان هم الطرف الوحيد المنظم الذي يمكن التفاهم معه خاصة وأن معسكر الثورة وتحالفات الشباب مفتتة كان طبيعيا أن تحدث وقائع غريبة ومُريبة لا أعرف لها حتى الآن سببا أو تفسيرا ، عمليات قتل عشوائية ، قطع طرق ، تظاهرات استعراض قوة حاشدة لجماعات الإسلام السياسي ، سُميت حينها بجمعة ” قندهار ” حيث رفعت لأول مرة أعلام تنظيم القاعدة بجانب أعلام جماعة الإخوان .
أما البعد الثالث للمشهد:
فكان من نصيب المجلس الأعلى ، الذي لم يجد مفرا من دعوة عدد من ممثلي القوىّ السياسية ، ومن بينهم جماعة الإخوان لتشكيل ما يُسمىّ ” المجلس الاستشاري ” في محاولة لتقديم المشورة له في إدارة شؤون البلد، غير أن التجربة تقلصت وحوصرت حتى بدت كالثمرة الذابلة ، فتحالفات الإخوان كانت تتحدث داخل ذلك المجلس بلُغة ، أما خارجه فكان الحديث والنية مُبيتة في اتجاه آخر ، ووصل الأمر ، بفعل مؤمرات وحملات من التشكيك والإرتباك إلى رفع الشعار المُريب ب ” سقوط حكم العسكر ” !!!…
شعار رفعه الإخوان من وراء ستار في غالب الأحيان ، لترفعه قطاعات بريئة ونقية من الشباب الغاضب ، فوقعت وقائع حرق أو حصار للمؤسسات الصحفية والإعلامية وهجمات طائفية على عشرات الكنائس ، ووقائع قتل في ظل فوضىّ عارمة وغامضة كما حدث لعشرات الحالات أشهرها مذبحة استاد ” بورسعيد ” حيث تم قتل العشرات من شباب الألتراس من مُشجعي النادي الأهلي كما جرت في هذه الفترة عمليات قتل رموز من رموز الميدان مثل الشيخ ” عماد عفت ” و” مينا دانيال ” وغيرهما …
حتى أطُلق وقتها ما يُعرف ب” الطرف الخفي ” الذي يقف وراء تلك الوقائع الغريبة والمريبة ….
فماذا عساها أن تفعل المؤسسة العسكرية المصرية؟؟
كان على المجلس الأعلى للقوات المسلحة ، أن يُسارع بإلقاء كرة النار في وسط الملعب ، ويبتعد عن كارثة سريعة يتجه إليها الوطن ، فبادر بتحديد موعدًا للانتخابات الرئاسية وفق إعلان مارس ٢٠١١ ، ويتم إجراؤها بالفعل في الموعد المُحدد لها على مرحلتين …
فيأتي مرشح جماعة الإخوان رئيسا مدنيا مُنتخبا ، غير أنه وعلى غير ما أعلن وتعهد بأنه سيكون رئيسا لكل المصريين على نحو ما التزم وأعلن مع تحالف بعض القوى السياسية ممن يوصفون ب” عاصري الليمون ” وفق أعلان فندق ” فيرمونت ” جاء مندوبا للجماعة في قصر الرئاسة المصرية !!.
لتبدأ وقائع واحدة من أكثر سنوات التاريخ السياسي المصري الحديث ارتباكا وعشوائية وفوضى وسوادا …. سنة هي الأكثر خطورة في حياة المصريين منذ زمن طويل طويل ، فالوطن الموحد منذ ” مينا مرمر ” المُلقب بموحد القطرين ، كان على حافة الحرب الأهلية ، والانهيار الحقيقي للدولة المصرية !!!
كان على الشعب المصري أمامه أحد طريقين ” الموت ” أو ” الحياة ” …
فما عساه أن يختار ؟؟؟