ثقافة

لعبة التذاكي بين ثقافتين.. كيف قرأ يحيى حقي كف مصر؟ (3)

تحت السطح الساكن والخادع، ثمة صور نمطية سلبية متبادلة ومسكوت عنها بين أصحاب المهن من ذوي الثقافة والتعليم الأرفع كالأطباء والمهندسين والمحامين … وغيرهم وبين الناس العاديين من الأهالي في المجتمع المصري. لم يكن من الممكن أن تفوت هذه الظاهرة السلبية على يحيى حقي الأديب الأكثر اهتماما برصد وتحليل كل كبيرة وصغيرة في تضاريس الشخصية المصرية.

وحش ضار لا يشبع نهمه

في مذكراته ” بيت الباشمهندس” (مجموعة خليها على الله) يلخص حقي تلك النظرة المتعالية لدى الكثير من المنتمين لهذه النخبة للفلاح فهم يرونه ” كرجل لا يوثق به وأنه عنيد لا يتحول عن طبعه وأن معاملته باللين والإنسانية عبث ضائع “.

ولكن يبدو الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل يعتقد حقي أن احتقار هؤلاء المهنيون المتعلمون للأهالي وتعاليهم وقسوتهم عليهم وظلمهم لهم أكبر بكثير مما توحي به كلمات الوصف السابقة؛ ففي مذكراته “نهمٌ للمال” (خليها على الله) يشير إلى افتقاد بعض هؤلاء للحد الأدنى من المروءة الإنسانية فى تعاملهم مع الأهالى وتحول الواحد منهم إلى وحش ضار لا يشبع نهمه، ويقدم لذلك نموذجا لطبيب البندر الذى يحصل المال من الفلاح نظير شهادة بصلاحتيه لوظيفة خفير ولو كان أعمى، ويصر على الحصول على مال غير مستحق من أجل علاج مصاب ينزف وإلا أصر على نقله للمستشفى وهو أمر يعرف أنه لا قبل للأهالى بتحمل أعبائه …  وإجرائه الجراحات للأهالي رغم علمه بعدم وجود “بنج ” فى المستشفى ضمانا لتحصيل أجره الذى يفرضه عليهم، بل إنه لا يتورع عن إبلاغ أهل قتيل استعداده لإجراء جراحة عاجلة له مكان وقوع الجريمة فى الغيط مقابل مقدار من المال (!!) وهو ما يصفه حقي بـ” القبح الشديد الذى يبلغ حد الإجرام”.

توظيف الثقافة: بجاحة التذاكي

ولا يفوت حقى رصد واحدة من سمات الفُجر التي يتمتع بها هذا المثقف الخائن لمجتمعه وتتمثل فى توظيفه لثقافته وذكائه وقوة منطقه من أجل تبرير أفعاله البشعة، فعندما يواجهه كاتبنا بجريمته، يكون الرد “الأخلاقى” جاهزا : ” واجب الطبيب التدخل ما دام فى المصاب عرق ينبض !! حتى لوكان الأمل فى نجاح الجراحة واحد فى الألف”،ثم يكشف عن مدى احتقاره وكراهيته للأهالي بقوله: “الصعايدة جنس نمرود ما يجبهوش الأرض إلا الشديد القوى … ولا يفل الحديد إلا الحديد” ( مذكرات ” تسكع على الصبح”مجموعة خليها على الله ).

خليها على الله

“سكيزوفرينيا” المثقف

وتتبدى ازدواجية الطبيب نفسه فى مذكرات ” داخل قلعة “، عندما يقارن حقى بين أساليب الطبيب المنحطة إنسانيا وحضاريا فى تعامله مع الأهالى ، وبين أسلوب حياته الخاصة ، وذلك عندما دعاه للعشاء بمنزله … ” دخلت مسكنا أنيقا نظيفا ينم لأول وهلة عن ثقافة أوربية .. أثاث من الطراز الإنجليزى ، ومكتبة غربية عامرة ، وبيانو فى ركن الصالون. دخلت علينا صاحبة الدار ، سيدة محتشمة وقور … أحسست أنني انتقل فجأة الى صالون ليس في القاهرة بل في لندن أو باريس، لم أعجب حين علمت أنها من خريجات السكركير”. عزفت لنا على البيانو ألحانا تلقاها هواء منفلوط بدهشة يمازجها استغراب.. لم أنعم بعشائى الفاخر بين أطقم من فضة وكريستال وأنا أحاول أن أطابق ما أشهد على سيرة هذا الطبيب خارج داره، زلزل هذا التناقض نفسى زلزالا شديدا وعجزت عن الفهم والتفسير”.

هذا الرصد الواقعي لطبيعة بعض المنتمين للنخبة المهنية المثفقة المصرية وازدواجيتها التي تفقدها القدرة على لعب دورها المفترض في قيادة المجتمع، يفتح الباب أمام أهمية دراسة وتحليل التاريخ الاجتماعي الثقافي المصري الذي شهد تكون مفهوم مشوه لحداثة سطحية مفرطة في أنانيتها، تأخذ من الحداثة الغربية مظاهرها ومغانمها المادية، دون جوهر نظامها القيمي الذي قام على أساس فكرة مسؤولية النخبة في نمو المجتمع ككل وكوحدة عضوية متكاملة، وليس النمو المادي (المشوه ثقافيا) لنخبة مزعومة دون الأغلبية الساحقة الفقيرة الجاهلة في المجتمع.

تنكيل رمزي: الثقافة الشعبية تتفوق

في مواجهة هذا الاستعلاء والتنكيل المتذاكي واللاإنساني من قبل هذه الفئة من المتعلمين أصحاب المهن، لا يملك البسطاء من الأهالي إلا التشفي باستخدام نوع آخر من التذاكي المتفوق المعروف في الثقافة الشعبية المصرية القائم على استخدام الحيل والمناورات اللغوية خلال ممارستهم لعلاقاتهم الاجتماعية المعقدة مع تلك النخبة الخائنة لأهلها ولمجتمعها. بل إن يحيى حقي نفسه –رغم محبته للأهالي والفلاحين خلال تجربته الوظيفية بينهم – لم يسلم من هذا النوع من التنكيل “الرمزي” في لعبة التذاكي المتبادلة والمعقدة التي انطلت حتى على خبير بالثقافة الشعبية للمصريين قبل أن يكتشفها في نهاية المطاف.

في “حصير الجامع” ( مجموعة أم العواجز) يرصد حقي بعض آليات المناورة التي يستخدمها الأهالي تهربا من المشاركة في مشروع عام تمثل في التبرع لتنظيف الجامع وفرشه بالحصير الجديد. يسجل حقي بدقة كيف تلكأ الجميع في بادئ الأمر، ثم بدأوا واحدا بعد الآخر في طرح بعض الحجج الشخصية واختلاق العراقيل ” العامة ” التي تحول دون التبرع، وتعمدهم الملحوظ الدخول في التفاصيل حتى يضيع الموضوع الأساسي..

” احتج واحد منهم أنه لا يصلي في الجامع وربما لم يدخله منذ شهور… واقترح (آخر) أنه لا يجب فرش كل الجامع مادام أنه لا يمتلئ ويكفي نصفه، وتكلم آخر عن المقاس والأسعار…. “.

أما الآلية الأخرى للتذاكي الاجتماعي المفعم بالرغبة في الانتقام والتشفي فهي آلية توريط هؤلاء المتعلمين المتحذلقين الوافدين فيما اقترحوه دون تورط الفلاحين أنفسهم. يشرح حقي بالتفصيل كيف نجح عمدة القرية في توريطه وحده بالإسهام بأكبر تبرع للمسجد دون أن يتورط هو والفلاحين بمليم. يقول العمدة: “طبعا يا حضرة المفتش الدفع بعد المحصول، إنت عارف الفلاح دلوقتي ماحلتوش ” اللضا “، المزارع حاجة والميري حاجة”.

تدريجيا يكتشف حقي عدم حماس العمدة والأهالي أصلا للتبرع لأي مشروع، بل إنه بدأ يلاحظ تشفي العمدة فيه لإثارته الموضوع من الأصل ودعوته هو والأهالي للتبرع لفرش حصير الجامع، بل وتعمدهم التذاكي عليه ونجاحهم في توريطه وحده في الدفع.

ظل العمدة يشكو له تهرب الفلاحين من الوفاء بالتزاماتهم التي وعدوا بها .. “كان العمدة في كل هذه الاحاديث يكثر في التفاصيل والزخارف، وقد علمت فيما بعد أنه كان في أغلبها كاذبا.. ورغم حدته وشكواه من كسوفه، كدت أسمع التشفي في كلامه.. لأنه بين لي أخيرا أنني كنت قصير النظر، قليل الخبرة “.

وتكشف نهاية المذكرات عن معاناة الموظف القاهري المثقف المخلص للأهالي: ” لا أشك أن العمدة سيعتقد أنه ضحك على … لا يتعبني إلا مثل هذه المشاكل الصغيرة. هي تافهة ومع ذلك تختصر ويتبلور فيها ما هو أهم وأعظم “.

فؤاد السعيد

كاتب وباحث مصري متخصص في الثقافة السياسية felsaid58@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock