رؤى

“فتحي عبد الله”.. حديث بسيط عن الشاعر والإنسان والمصباح!

الرحيل المفاجئ للشاعر الكبير “فتحي عبد الله” صدم الوسط الثقافي في مصر صدمة شديدة، صحيح هو كان يعاني من مشكلات صحية في الكلى والكبد بالإضافة إلى مرض السكري المزمن، غير أنه كان متفائلا ومواظبا على العلاج، بل كان في أوج تألقه على السوشيال ميديا في الشهور الأخيرة، ينشر أعماله الجديدة، ويكتب، بقوة فوق العادة، كتاباته التحليلية المهمة عن أجيال من الشعراء في مصر والبلاد العربية، ويدلي بدلوه في كافة القضايا المطروحة على الساحة الثقافية بصراحته المعهودة التي كانت تغضب المثقفين الفسدى والمثقفين المستبدين، بل كثيرا ما كانت تغضب بعض خلصائه وزملائه ومحبيه لفرط جرأتها وعدم استثنائها لأحد أيا كان قربه الشخصي منه.. ينتمي الراحل إلى قرية رملة الأنجب بمركز أشمون في المنوفية، استقر في القاهرة وعمل بها، وهو من البارزين في جيل الثمانينيات الشعري، وفي رحلته سفر لعامين إلى العراق، وهو ما ربطه بالبلد الشقيق وبشعرائه ومثقفيه، وكسره كسرا بعد ذلك مع ما جرى للعراق من تمزق إذ تكالبت عليه قوى الاحتلال الغربي وسط تواطؤ عربي مخز وتغاض دولي مهين.

الصعلكة ومحطات العمل

كثيرون يصفون “فتحي عبد الله” بالصعلوك الكبير؛ والمعنى الواضح في أذهانهم للصفة أنه الفقير الذي لا يملك شيئا والمتسكع الذي يعيش على الهامش، ليس أبعد من ذلك، وقد عاش المبدع المؤثر ومات فقيرا حقا، وعاش ومات زاهدا في الشهرة، وممن يفضلون الهوامش على المتون.. باختصار شديد، تنقل بين الغرف السكنية الرخيصة في بدايات نزوله القاهرة، ومن هنا توطدت علاقته بالمبدعين المنتمين إلى إقليمه أو الأقاليم المصرية الأخرى، سواء أكانوا من جيله أو من أجيال سبقته أو لحقته، وحين استأجر مكانا خاصا مناسبا جعله للرفاق كما لنفسه، وعمل في هيئة الكتاب، إلى أن وصل لمنصب مدير تحرير سلسلة “كتابات جديدة”، وعمل في فترة من الفترات في جريدة القاهرة إلى أن توقفت عن الصدور (زمن غالي شكري).. كما أسهم، تطوعيا، في تأسيس وإصدار مطبوعات ذات حيثية، تهتم بحركتي الشعر الأدب في أثوابهما المتجددة، وبآفاق الثقافة في الواقع المتطور.. وفي خلال تلك السنين أحاط الريفي الجميل المدهش بالقاهرة إحاطة شاملة؛ عرف مقاهيها الثقافية وحاناتها ومكتباتها وندواتها وكاذبيها وصادقيها ودراويشها، ودائما هرب من الفخ الإعلامي الشره، وحافظ على مسافة بينه وبين الجميع؛ فلم يذب في كتلة ولا تجمع ولا سمح لمثلهما أن يذوبا فيه.. بقي سيد نصه وأسير معتقداته وأفكاره، بلا تزمت ولا تضييق على العقل ولا الفؤاد، هكذا بالرغم من الزحام والصخب اللذين كانا يلفان محيطه، ويبدوان كما لو كانا منه وكان منهما!

الشاعر والإنسان

كشاعر، تميز “فتحي عبد الله” عن معظم الأقران في نطاق القصيدة النثرية التي تخصص فيها وبرع (بعد أن مر بالتجارب الشعرية الطبيعية التي تسبقها عادة وأجاد فيها)؛ لأنه كان أكثر تركيزا وأشد إخلاصا، من علمه الأكيد أنه لن يترك لأولاده ولا للعالم أوراقا أكثر تعبيرا عن وجوده اللطيف هادئ الإيقاع من تلك القصيدة في نهاية الأمر، ومن سبب ذاتي أعمق، هو أنها كانت عزاءه الأثير حين تعظم التباريح وتزيد ولا يجد شخصا ولا شيئا يحوي تشظيه غير جموحها وانعتاقها واتساع أجوائها الرؤوم، دون سواها من القوالب الشعرية.. إنها تطابقه تماما كأنه هو هي.. وتمثله تمثيلا يعكس صدقه في الوجوه والمرايا؛ لأنها ماكرة كمكر خواطره، وخارجة عن المعتاد كخروج خطاه عن الطرق المرسومة المحددة سلفا، وليست كالطعام المكشوف الذي يتساقط عليه الذباب ويجتمع، مما يرفضه رفضا قطعيا ولو اشتهاه، وليست مجانية، كما يقال، أي لها تكلفة كمثل ما يحب أن يكلفه هواه المهج، ولا عديمة الجذور كنبات شيطاني، لكنها المتجذرة ذات الأصول كتجذره في أرضه الطيبة، ولا بنت الغرباء الاستعماريين، ممن هو عدو أمثالهم من الكائنات الجشعة المسعورة. أصدر عدة دواوين، من أبرزها: “راعي المياه”، و”سعادة متأخرة”، و”مسيقيون لأدوار صغيرة” و”أثر البكاء” وأخيرا ديوانه الأحدث الذي أعلن عن صدوره قبيل وفاته على صفحته بالفيسبوك “يملأ فمي بالكرز”، دوره النقدي والتنظيري دعمه تلقائيا في الصميم قبل أن يدعم الآخرين، وثقافته الرحبة ساعدته تماما على أن يكون في الصدارة، بجانب وعيه الفارق ونباهته الفريدة، ولغته العالية كدرعمي حصد اللغة في دراسته ثم اجتهد في البعد عن اللغة الجامدة المعقدة والدنو من اللغة اللينة السلسة، وتلك الضفيرة التي تجلت فيه ما بين ريفيته الصادقة وعاصميته المكتسبة وعالميته المرئية في عينيه الصغيرتين الحميمتين، وقد كان مشغولا بعالم مختلف، أعمق من السطحية التي تظللنا، عالم كأنه استئناس الوحشة، أو كأنه تقريب الإعلان العالي إلى أحلام من يتطلعون إليه من الضئيلين الذي يعبرون الشارع، ولحمهما ببعضهما على نحو ما، من آرائه المثيرة للجدل حول الشعر إيمانه بتدوين ما يطرأ على ذهن الشاعر في أثناء الكتابة الشعرية، مهما يكن، وهو ما كان يسميه ب”الهلوسة الشعرية” التي يراها جديرة بالتدوين؛ لأنها ليست بعبثية ولا عدمية، في تصوره، لكنها موجودة سلفا في عالم أرقى وأنقى، وما على الشاعر إلا أن يثبتها هنا جريا مع واقعها السري وهو شيء أقرب إلى إلى الفضفضات الصوفية في الحقيقة، وقد حوت شخصيته الإبداعية بعدا صوفيا لا شك فيه.

الرسائل عادة لا تذكر الموتى

وكإنسان، كان لصيقا بقيم إبداعه فلا ينفصمان البتة، وقد عاش عمره القصير متفائلا آملا في الغد الأفضل، ومرحا وضحوكا، وذا فلسفة تستوعب تناقض روحه المتمردة مع حضنه الأليف، وحقانيا، وصامدا فلا يهزمه المرض ولا الخراب الثقافي المنتشر، وهو أعرف العارفين به، وكم مد يديه إلى الناس بالمعونة في أوقات كان هو أحوجهم فيها إلى المعونة، لم يتخل عن أحد ولا بخل على أحد، على قلة الجهد البدني وندرة ما في اليدين. لقد ألقى الحكمة ببلاغة سهلة وفعل الخير بأريحية تامة، حتى أتاه ظل الموت في موعده الذي لا يتقدم ولا يتأخر، والاعتقاد الأدنى إلى الصواب أنه باغتنا نحن ولم يباغته هو!

دوره الكشفي الساطع

كان “فتحي عبد الله” بمثابة مصباح عظيم يرشد الضائعين في الأتياه والمتخبطين في الدياجير المدلهمة؛ فالحقائق لديه كانت واضحة صادحة، وهو كان يعلم أنه يقاوم قدرا هائلا من الادعاء والاحتيال والخسة، حتى من الذين كان يجب أن يكونوا بعيدا عن دائرة الشبهات؛ فالتلوث ضرب معظم الموهوبين في الشعر والأدب، بمن فيهم الكبار الذين رسخوا والجدد المبشرون الماضون إلى الرسوخ، وضرب معظم العاملين في الحقل الثقافي في مقاتلهم، وأعمى الأبصار وشوش الضمائر ونزع اليقين من الصدور أو كاد.. كان وحيدا في ذلك، أعني بطريقته المباشرة الصادمة واستعداده التام للقتال والدفاع عن حصاناته وحصونه (اختياراته وقناعاته)، وقد تكون الوحدة بالمناسبة مفتاحا كبيرا لشخصيته، بكل تجلياتها لو صاحبت الكائن الإنساني ولازمته، وفي صفحته الشخصية بالفيسبوك، وهي مفتوحة ومتاحة للجميع، كما في أرشيف المجلات والصحف المتخصصة الكثيرة التي نشر فيها مقالاته الألمعية المهمة، عديد من المعارك التي خاضها جسورا نبيلا، لا يبالي بثمن باهظ فادح يمكن أن يدفعه في سبيلها أيا كان.

يملأ فمي بالكرز

قصيدة نثرية شاهقة للشاعر (عودة إلى قصائد الجبل/ من ديوانه الأخير”يملأ فمي بالكرز):

تتبعني المجندة الشقراء في البراري

وأنا لا صقور لي

وتقرأ صحائفها أمام البوذيين

في كبرياء لا حدود له

لا تقترب من سفينة المهربين

إلا بإشارة مني

فأنا عاصفة سوداء

تأخذ العظام المكسورة إلى بئر

لا يعرفها أحد

تغطس بين الدلافين في غمضة عين

وتخرج بالخاتم الضائع

وتضحك من توبات الصرع التي تصيب

المهرب الكبير

إذا رأى الشمس دالية على بابه

فقد عرف أن حبيبته في السفينة

وأنها معصوبة العينين

وتبكي ليل نهار

وقد يطلقون الكلاب عليها

فمن يا ترى يقتل القبطان

في تلك اللحظة

ويأخذ قبعته إلى خادم الجلسة

كي يبدأ العزف على جيتارها المكسور

وتعلو الفراشات وتهبط في سهولة نادرة

وأنا أتقلب على الرمل

في ألم لا احتمله هذه المرة

وأمزق ما تقع عليه يدي

حتى أعثر على خاتمها المفقود

فأصيح على طيور خضراء

ترفرف بالقرب من رأسي

لقد خطفوها من أعلى الجبل

ولفوها بالملاءة الحمراء

وقرأوا على جثمانها الممزق

لفائف (قمران)

ولم تجد قمحها كما قالوا

ولا أكياس الذهب

فأغمي عليها مرة أخرى

وأخذت في البكاء

إلى أن وضعوها على تابوب أبيض

ورائحة من هنا أو هناك

ودقات عالية

فأخذتها الرعشة المعهودة وصاحت

عطره في خشاش الرمل

وفي الصندوق المغلق

وبين أصابع قدمي

ولا يمنعني منه أحد

فأنا روحه في الجبال

وفي الورود

وفي سفينة الهاربين

حتى يعود إلي صدري

في سلام

عبد الرحيم طايع

شاعر وكاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock