ثمة مقولة منسوبة الى الامام علي بن ابي طالب – كرم الله وجهه – هي “الفقر في الوطن غربة والغنى في الغربة وطن”.
وبصرف النظر عن مدى صحة المقولة أو عن كونها بالفعل من اقوال الامام فان ما يعنيني بشكل شخصي هنا هو أنها تكشف عن إدراك مبكر في تاريخ أمتنا وثقافتنا للمعنى الحقيقي للاغتراب.
إذ أن الخطر الحقيقي على الفرد وفقاً لهذا المنطق ليس بعده عن وطنه الام وإنما شعوره بغربه داخل حدود الوطن وبين بني قومه.
قد يكون سبب هذا الاغتراب سبباً اقتصادياً بحتاً كما توحي المقوله ولكن ايضاً قد يكون سببه هو تغير المجتمع ذاته وتحول منظومة القيم فيه بشكل يصعب على الفرد إستيعابه.
وتزداد وطأة الغربة داخل الوطن بالذات لدى المتعلمين منأولاده ممن صقلهم العلم وسمت بهم الثقافة، إذ تصطدم تصوراتهم المثالية لما ينبغي أن يكون عليه حال اوطانهم بالواقع الذي لا يمت لهذه التصورات بصلة، فتكون النتيجة شعوراً بعدم القدرة على التعايش مع الواقع فضلاً عنالقدرة على تغييره ويلجأ الفرد -خاصة المثقف- الى العزلة والتقوقع على الذات.
رصدت عدة اعمال فنيه هذه الظاهرة: اي الاغتراب داخل الوطن٫ ولعل من أبرز النماذج التي قدمتها السينما المصريه الشخصية المغتربة داخل مجتمعها شخصية”مهدي”، المثقف في فيلم “عودة مواطن” للمخرج الراحل محمد خان والذي عُرض عام ١٩٨٦.
فهذه الشخصية التي جسدها الفنان احمد عبد العزيز تغلب عليه الكآبة بسبب عدم قدرته على مواكبة تغيرات المجتمع وعلى عكس شقيقه المتفائل والمقبل على الحياة إبراهيم (شريف منير) فان مهدي منعزل ومنكب على ذاته مؤمن بلا جدوى الفعل وهو ما يبرزه الفيلم في عدة مشاهد كمشهد يلعب فيه مهدي لعبه الشطرنج مع ذاته رغم أنها بطبيعتها لعبة تحتاج الى لاعبين اثنين.
ينتهي الحال بمهدي الى مصحة نفسية ويلخص في مشهد شديد الدلالة لشقيقه الأكبر شاكر (يحيى الفخراني) الذي خاض تجربة الغربة خارج حدود الوطن جوهر مشكلته في طبيعة العصر الذي يعيشونه: ذلك العصر الذي يسحق الطبقة الوسطى التي ينتمون إليها وصعد بطبقة اجتماعية وهوى بأخرى.
تطل فكرة الاغتراب داخل الوطن بشكل أكثر كثافة في اعمال مبدع آخر هو الكاتب والمخرج محمد أمين ٫ ففي فيلمه الاول “فيلم ثقافي” عام ٢٠٠٠ والذي يتناول ظاهرة الكبت الجنسي لدى الشباب المصري ومحاولاتهم التحايل عليه عبر مشاهده الافلام الإباحية، يقدم امين شخصية”جمال المكتئب” التي جسدها الممثل الشاب شريف صبحي وهو شخص تماماً كمهدي، فقد أي اتصال له مع العالم الخارجي وصار حبيس غرفته حيث اوصله الواقع الذي يعيشه إلى حالة من الاكتئاب الحاد.
يرفض جمال اسلوب رفاقه في اشباع احتياجهم الجسدي ويعتبر أن مشاهدتهم للافلام الاباحيه هي – في حد ذاتها – اهانه لآدميتهم إلا أنه في الوقت ذاته لا يملك ان يقدم لهم بديلاً عنها٫ حيث يدرك الجميع أنهم عاجزون عن تغيير ما حولهم.
يطل الاغتراب مرة أخرى في اعمال امين لاحقة ففي “ليلة سقوط بغداد” عام ٢٠٠٥ يقدم امين نموذجاً مشابه لجمال وإن كان أقل كآبة هو طارق (احمد عيد) الشاب النابغ الذي يبدع اختراعات مختلفة منذ دراسته الثانوية إلا ان الواقع يصدمه بعد تخرجه من الجامعة٫ إذ لا يجد عملاً يتوافق مع إمكانياته ويلجأ للكذب على أسرته مدعياً أنه يعمل في المركز القومي للبحوث في حين انه في الحقيقه يلجأ ككثير من الشباب مثله إلى تعاطي المخدرات هرباً من الواقع.
بل إن الاغتراب يصبح أكثر مراره في فيلم أمين التالي”بنتين من مصر” عام ٢٠٠٨ حيث أن بطلتي الفيلم رغم تفوقهما العلمي تشعران بالاغتراب لعجزهما عن تلبية أبسط حقوقهما الآدمية: الحق في الحب والارتباط أو كما تقول إحداهما “يمكن للمرء احتمال الحرمان الجسدي لكن المشكلة الحقيقية تكمن في الحرمان العاطفي”.
https://www.youtube.com/watch?v=7qwDh4VO028
تدرك الفتاتان ان وضعهما ليس بالخاص او المميز بل هو وضع جيل كامل من الفتيات خاصة مع لجوء كثير من الشباب الى السفر خارج الوطن للاتيان بالحد الادنى من الدخل الذي يوفر حياة لائقة وهو ما يعني بالضرورة سنوات من البٌعد والحرمان.
وفي “فبراير الأسود” عام ٢٠١٣ يطرح أمين سؤالا حول هذه المعضلة وهو هل السفر بعيداً عن الوطن هو علاج لظاهرة الاغتراب داخله؟
ففي هذا العمل الذي ينتمي لنوعية الكوميديا السوداء نجدأهل العلم (باحثين- استاذه جامعيين…الخ) وقد باتوا غرباء داخل وطنهم ويشعرون أنهم معرضون للخطر داخله في أية لحظة وبالتالي فلا سبيل لهم للنجاه بأنفسهم وأسرهم سوى ترك الوطن أو كما يأتي في حوار الفيلم “التخلي عنه كما تخلى هو عنا”.
الا أن اندلاع انتفاضة ٢٥ يناير ٢٠١١ يضع ابطال الفيلم أمام تحد جديد: هل يمكن أن يأتي تغيير جذري ينهي اغترابهم ويعيد الاعتبار لهم ولعلمهم أم سيبقون كما هم : غرباء داخل بلادهم.