رؤى

دعاة عصر السادات.. “الشعراوي” وصراعه مع “الحكيم” و”إدريس” و”زكي نجيب محمود”

المتأمل لشخصية الشيخ محمد متولي الشعراوي «1911-1998» سوف يقف مطولا أمام مشهدين جرت أحداث المشهد الأول بإحدى جلسات مجلس الشعب في مارس من عام 1978 حين تبارى في الدفاع عن السادات وكان حينها يشغل منصب وزير الأوقاف: «لو كان لي من الأمر شيء لحكمت للرجل الذي رفعنا تلك الرفعة وانتشلنا إلى القمة .. ألا يسأل عما يفعل» .. أما المشهد الثاني فيتجلي خلال إعلانه عن موقفه من هزيمة 1967 ونظام يوليو 1952 حين القى مقولته الشهيرة «سجدت لله شكرا عقب الهزيمة» مبررا موقفه هذا بأنه «لم يرد لمصر أن تنتصر وهى في أحضان الشيوعية» .. بين هذين المشهدين عدد لا حصر له من مشاهد صراع الشيخ مع أهل العلم والثقافة كان من أبرزهم توفيق الحكيم وزكي نجيب محمود ويوسف إدريس إلى جانب تلك المشاهد التي شاعت خلال موجة إرتداء عدد من الفنانات المصريات «للحجاب» وإعتزالهن الفن وغيرها من مشاهد إشاعة مناخ «الأسلمة» بالمجتمع المصري خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.

الكاتب الصحفي وائل لطفي في كتابه «دعاة عصر السادات .. كيف تمت صناعة التشدد في مصر» يواصل الإبحار داخل عالم شيوخ عصر السادات في محاولة للتعرف على طبيعة العلاقة التي ربطت ما بين السادات وهؤلاء الشيوخ وطبيعة الدور الذي قام به هؤلاء الدعاة في دعم عملية تحول المجتمع المصري ودفعه دفعا نحو تبني مظاهر «الأسلمة» الثقافية والإجتماعية بوصفهم النواة الأولى لظاهرة الدعاة الجدد التي غاص الكاتب في عالمها لسنوات عدة ليخرج لقراءه منها بثلاثيته: «الدعاة الجدد» و«دعاة السوبر ماركت» وأخيرا «دعاة عصر السادات».

الشعراوي .. الشاعر والسياسي

يستهل الكاتب وائل لطفي تقديمه للشيخ الشعراوي مشيرا إلى أنه ولد لأسرة ريفية بسيطة عام 1911 التحق بالمعهد الأزهري بطنطا حتى أصبح رئيسا لاتحاد طلاب مصر في نهاية الثلاثينيات وعُرِفَ خلال دراسته كشاعر وسياسي انتمى لحزب الوفد وانضم لجماعة الإخوان المسلمين وهو في التاسعة عشر من عمره حتى نشب ذلك الخلاف ما بين الحزب والجماعة فترك الشيخ الجماعة عام 1939 مفضلا الإستمرار في إنتمائه للوفد.

كان الشيخ قد اعجب بجماعة الإخوان المسلمين ومؤسسها حسن البنا وليس أدل على ذلك من قيامة بصياغة أول بيان تصدره الجماعة بعد إنتقالها من الإسماعيلية إلى القاهرة عام 1938 وعلى الجانب الآخر انتمى الشيخ لحزب الوفد وامتدح في قصيدة شعرية له الزعيم سعد زغلول وخليفته مصطفى النحاس الأمر الذي تسبب في نشوب خلاف بينه وبين حسن البنا ذلك أن البنا قد رأى في النحاس باشا أكبر عدو لجماعة الإخوان المسلمين نظرا لشعبيته الجارفة.

لم تقتصر قصائد الشيخ على مدح سعد زغلول والنحاس باشا وإنما امتدح الشيخ إضافة لذلك الملك فؤاد وولده فاروق غير أن موقفه من الملك فاروق تغير مع اندلاع ثورة يوليو 1952 .. يروي الشيخ عن قصائده الشعرية وكيف أحرق كل القصائد التي كتبها في مدح رموز زمن ما قبل الثورة حتى لا يحتسب كأحد رجال العصر البائد؟!

عقب إندلاع ثورة 23 يوليو عام 1952 اتيح للشيخ فرصة السفر للسعودية ضمن أعمال البعثة الأزهرية خلال الفترة من 1952 حتى 1962 وحين عادت البعثة لمصر بقرار من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لأسباب سياسية لم يتمكن الشيخ من الإقامة بمصر لمدة طويلة فسافر للجزائر عام 1963 ضمن أعمال بعثة الأزهر واستمر بها حتى وفاة جمال عبد الناصر عام 1970 ومن ثم عاد مرة أخرى لمعشوفته السعودية حتى عودته النهائية لمصر عام 1973 لتبدأ مرحلة جديدة من حياة الشيخ.

الشيخ الشعراوي نجم شاشات التليفزيون الأوحد

عاد الشعراوي عام 1973 ليصبح نجم التليفزيون المصري الأوحد وليقدم للعالم الإسلامي نموذجا جديدا لذلك الداعية الذي يدعو «لأسلمة» المجتمع دون أن يخوض أي نوع من أنواع الصراع مع السلطة بل على العكس من ذلك باتت دعوة الشيخ أحد ركائز دعم أركان حكم السادات حتى أقبل السادات على تعيينه وزيرا للأوقاف.

يواصل الكاتب وائل لطفي رواية سيرة الشيخ الشعراوي مشيرا إلى ذلك القرار الذي أصدره الشيخ خلال عمله كوزير للأوقاف عام 1976 والخاص بتأسيس بنك فيصل الإسلامي الذي يعد أول بنك إسلامي تم إنشاءه بمصر وكان بمثابة النواة الأولى نحو غرس بذرة ظاهرة الإقتصاد الإسلامي بمصر التي نجم عنها فيما بعد ظهور ما عُرِفَ بشركات توظيف الأموال التي كانت بمثابة وبال على الإقتصاد المصري خلال عقد الثمانينيات حيث الحقت الضرر بنحو 47 ألف أسرة مصرية فقدت مدخراتها بتلك الشركات حين تفجرت أزمة المودعين عام 1988 مع صدور قانون 146 الخاص بتنظيم أعمال تلك الشركات.

مظاهر «أسلمة» المجتمع المصري وفق تلك النزعة الوهابية السعودية التي دعى إليها الشيخ الشعراوي لم تقتصر على المجال الإقتصادي بل تعدتها للمجال الفني والثقافي حيث بادر الشيخ بالدعوة لظاهرة إعتزال الفنانات المصريات التي شهدتها مصر خلال منتصف عقد الثمانينيات من القرن الماضي ولم يتقصر الأمر على إعتزال الفنانات لمجال الفن بل وصل الأمر حد إحتراف بعضهن العمل في مجال الدعاية الإسلامية وإدارة عدد من المشروعات الخيرية والتجارية ذات الصلة بأسلمة الفضاء العام.

الشيخ وصراعه مع المثقفين

بدأت معركة الشيخ مع رموز الثقافة المصرية وفقا للكاتب في مارس من عام 1983 مع صدور سلسلة مقالات توفيق الحكيم بجريدة الأهرام التي حملت عنوان «حديث مع الله» حيث تبارى الشيخ في الرد على ما جاء بتلك المقالات عبر ذلك الحوار الذي  أجراه  مع جريدة اللواء الإسلامي التي كانت تعد بمثابة الظهير الديني للحزب الوطني الحاكم آنذاك «لقد فتحت النار على هذه الحوارات لأنها دعوة للكفر والتطاول على الذات العلية».

لم يكتفي الشيخ بذلك الحوار الذي أعلن فيه موقفه من تلك المقالات بل أنه صب جام غضبه على الحكيم وطالب بعقد ندوة تليفزيونية يتحاور فيها من جهة في مواجهة توفيق الحكيم ويوسف إدريس وزكي نجيب محمود غير أن يوسف إدريس حين سأل عن رأيه فيما يتعلق بعقد تلك الندوة بادر بإعلان رفضه ووصفها بأنها تعد «فكرة تليق بمراهقي الشعراء وصغارهم» وهو ما ندم عليه فيما بعد وفقا للكاتب.

هاجم الشيخ شعراوي بشراسة توفيق الحكيم ومن جانبه بادر يوسف إدريس برد الهجوم عبر إتهام الشيخ «بتكفير المثقفين وتأييد كامب ديفيد ومهادنه السادات وعدم إدانة مذابح صبرا وشتيلا» وبهذا المقام استخدم يوسف إدريس وفقا للكاتب عبارات قاسية أثارت غضب جمهور الشيخ ما دفعه للتراجع عن موقفه بذات الوقت الذي أصدر فيه توفيق الحكيم ما يشبه رسالة اعتذار عن سوء الفهم الذي احاط بتلك المقالات.

مات الشيخ عام 1998 ومازالت بعض فتواه مثار جدل كبير كتلك الفتوى التي افتى فيها بعدم جواز نقل الأعضاء التي أشار فيها «بان الإنسان لا يملك نفسه كله ولا بعضه وبالتالي فلا يجوز له أن يتبرع بأعضاءه لغيره لأنها ملك الله وليست له» .. الأكثر حدة من تلك الفتوى تمثل فيما دعى إليه من الإمتناع عن عمليات غسيل الكلى لمرضى الفشل الكلوي بسبب تكلفتها الباهظة التي تعد عبىء على أسرة المريض إلى جانب الإمتناع عن جميع أشكال الرعاية المركزية التي قد يلجاء إليها الأطباء في علاج المرضى دون وجود أمل حقيقي في الشفاء .. وحين سأله محاوره: «هل نترك المريض يموت؟» أجابه: «فلنتركه .. ولا أنت تريد أن تمنع الموت؟» .. هذا إلى جانب فتواه «بحرمة الإستماع للموسيقى واعتبارها من لهو الحديث الذي يلهي عن ذكر الله».

مات الشيخ بعد أن أسس لميلاد جيل جديد من الدعاة الجدد بوصفه شيخهم الأول .. مات الشيخ بعد أن اسس لتلك الحالة من «أسلمة» المجتمع المصري التي مازلنا نعاني منها حتى يومنها هذا .. غير أن الأمل مازال معقود على الأجيال الجديدة التي باتت تدعو لضرورة تجديد الخطاب الديني ونبذ كل ما يتعارض مع صحيح الدين وكل ما من شانه إعاقة مسيرة المجتمع نحو التقدم .. ودائما وأبدا مازال للحلم بقية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock