أثار تطاول أحد الإعلاميين المصريين علي أهالي صعيد مصر في برنامجه على إحدى القنوات الخاصة الكثير من الجدل بين كافة الأوساط الإجتماعية والثقافية ، فتبارى الكثيرون في الدفاع عن أهل الصعيد وأجرى المجلس الأعلى للإعلام تحقيقا مع ذلك الإعلامي أسفر عن صدور قرار بوقفه عن العمل لمدة شهرين مع تغريم القناة التي تطاول على شاشتها الإعلامي الموقوف وأساء لأهل الصعيد مبلغ ربع مليون جنيه مصري ، ورغم ما قد أحيط بتلك الواقعة المؤسفة من ضجة هائلة و رفض شعبي ورسمي مبرر بكل تأكيد ، إلا أنها قد حملت بين ثناياها شيئا ما من الإيجابية إذ فتحت المجال لطرح قضايا الصعيد ومشكلاته ، ومن ثم تبارى بعض الكتاب في تناول قضية الهجرة الداخلية وطبيعة المشكلات التي يتعرض لها المهاجرون من الصعيد إلى القاهرة والوجه البحري وغيرها من المشكلات التي يعاني منها صعيد مصر.
الباحثة البريطانية الإنثربولوجية وينفيريد بلاكمان التي قدمت إلى مصر خلال عشرينيات القرن الماضي وقضت بها نحو ست سنوات كاملة غاصت خلالها بعمق في صعيد مصر وخرجت بدراستها الفريدة التي حملت عنوان: «الناس في صعيد مصر» التي نقلها للعربية أحمد محمود وصدرت عام 1995 تناولت العادات والتقاليد التي كانت شائعة بالصعيد خلال عشرينيات القرن الماضي والتي ربما مازالت حاضرة إلى يومنا هذا بداية من طقوس الميلاد والزواج وطقوس الموت ومراسم الدفن وطقوس الزراعة والحصاد والتبرك بالمشايخ والقديسين وطقوس السحر والشعوذة إلى جانب عدد من الإحتفالات السنوية وعلاقة ذلك التراث الثري بطقوس مصر القديمة التي تمتد جذروها لعهد الفراعنة.
القرية بصعيد مصر
تستهل الباحثة وينفيريد بلاكمان تقديمها لقرى صعيد مصر بوصف ذلك المشهد البديع حين كانت تمر القرى أمام عينها وهى تجلس بعربة القطار المتجه إلى الصعيد محاطة بغابات النخيل الشاسعة ، وحيث تعد أبراج الحمام أحد المعالم المعمارية المميزة لتلك القرى بما تحتويه من جرار منقوشة «بتلك النقوش البديعة التي يحبها الحمام فتجعله يعود إلى بيته» وفقما روى أهالى تلك القرى للباحثة.
أما بيوت أهل القرى فمبنية من الطوب اللبن وأحيانا تُغطى أو “تُليَّس” – بتعبير أهل الصعيد – جدرانها بطبقة من الطين المخلوط بالتبن وتحتوي بعض البيوت على سلم يؤدي للطابق العلوي حيث توجد المندرة المفروشة بالدكك المغطاة بالكليم التي توضع عليها الوسائد كما يضم الطابق العلوي غرفة الخزين التي يتم حفظ الطعام فيها ، أما سطح البيت فهو مكان تصفه الباحثة بأنه لطيف يمكن الجلوس عليه ومشاهدة الحياة التي تسير بالشوارع الواقعة أسفله كما يستخدم كمكان لمبيت الطيور والقطط والكلاب وتجفيف الحبوب وغيرها من الأغراض وغالبا ما يتم تزيين بيوت القرية بصحن أو طبق فنجان من الصيني ليكون بمثابة تعويذة لإبعاد الشر والحسد عن أهل البيت ، وقد يكون البيت من الخارج مزينا برسوم الحجيج الملونة التي تضم عددا من الرسومات المختلفة كالجمال والبواخر والقطارات والأشجار وأمام بعض البيوت توجد المصطبة حيث يلهو الأطفال والطيور عليها وقد يجلس رجل مسن ممسكا مسبحته يتأمل المارة في ذهابهم وإيابهم.
يقطع الباعة الجائلون شوارع القرى الملتوية وهم ينادون على بضاعتهم بندءات مميزة منها على سبيل المثال «يا بصل .. يا حلو زي العسل» وعادة ما تأتي تلك النداءات منغمة حتى ان من لا يعرفها قد يظنها غناء شجي وليس مجرد نداء بائع على بضاعته.
النساء وعشق الزينة
الفتاة بقرى صعيد مصر وفقا للباحثة تتمتع بحياة حرة وهى صغيرة حتى بلوغ سن الزواج حينها فقط تُحجَب عن الأنظار ويتم ثقب أذن كل فتاة وأنفها في سن مبكرة حيث يمكن لها أن تتفاخر بملكيتها لزوج من «الأقراط» إلى جانب «الخزام» وتتزين بعض الفتيات بعقد مصنوع من العملات الذهبية كدليل على مدى ثراء أسرتها إلى جانب الأساور المصنوعة من الذهب.
أما نساء القرية الفقيرات فيتزين بالحليّ المصنوع من الفضة أوالنحاس وقد ترتدي بعضهن الخلخال المصنوع من قشرة الذهب أو الفضة إلى جانب الأساور المصنوعة من الزجاج مختلف الألوان وتتزوج الفتاة في الغالب من ابن عمها أو أي من شباب عائلتها أو شباب قريتها ويقدِّم الزوج لعروسه عقدا مصنوعا من العملات الذهبية كنوع من استثمار المال الذي يتم توفيره واستخدامه عند الضرورة.
و لو حدث وتوفى زوجها فإن المرأة الصعيدية تخلع حليها سواء كان من الذهب أو الفضة أو النحاس وترتدي عقدا حباته زرقاء داكنة أو سوداء تعبيرا عن الحداد وقد ترتدي أقراطا وأساور زرقاء أو سوداء ولا تعود للبس «الخزام» إلا إذا تزوجت من رجل آخر.
كما يعد الوشم من صور الزينة الشائعة بين الجنسين ويقوم بعمله متخصصون بهذا الفن حيث تقوم امرأة برسم الوشم للنساء والفتيات ويقوم رجل بوشم الرجال والصبيان وينادي فنان الوشم الجوال «يا شباب تعالى دق» وتنادي النساء على فنانة الوشم «تعالي يا شابة يا دقاقة».
ويحمل الأقباط بصعيد مصر وشم الصليب على بطن الرسغ وقد رأت الباحثة أحد أهالي قرية صعيدية يحمل بجوار الصليب على بطن ذراعه وشما كتب اسفله تاريخين هما 1911 و1914 وحين سألته عنهما أشار بأنهما تاريخا حجه لمدينة القدس وأن والدته تحمل عددا أكبر من الوشم مدونا بها بالتواريخ عدد مرات حجها للقدس.
طقوس الزواج والميلاد والموت
تلعب الموسيقى دورا مميزا في إحتفالات الزواج حيث يتقدم موكبالعروس فرقة موسيقية ويقيم العريس وليمة ببيته لأصدقائه ، وتبقى العروس بغرفة في بيت والدها مع قريباتها ورفيقاتها وترقص النساء وتهدي صديقات العروس مبالغ مالية صغيرة لها ومع المساء تُطلق الأعيرة النارية والزغاريد وتستمر تلك الإحتفالات لعدة أيام وغالبا ما كانت تستمر لمدة ثلاثة أيام بلياليها
اما بالنسبة لطقوس الولادة فتحتفي نساء الصعيد بميلاد الأطفال حيث تقوم القابلة أو إحدى قريبات السيدة التي تلد بإلقاء المشيمة في النيل أو إحدى الترع الجارية ولابد لها من أن تضحك أو تبتسم وهى تلقيها لأنهن يعتقدن بأن هذا ما سيجلب السعادة على حياة الطفل في المستقبل.
أما المرأة التي تفقد عدة أطفال وتأمل أن يعيش صغيرها المولود حديثا فتحمل طفلها بين ذراعيها وعلى رأسها «قفة» مصنوعة من سعف النخيل، وتخرج من بيتها طلبا «لحسنة» لطفلها، وهى تفعل ذلك أيا ما كانت درجة ثرائها، يعطيها الناس بعض النقود ويعطيها آخرون بعض الطعام وفي نهاية اليوم تقوم بتوزيع ما جمعته على فقراء القرية حتى وإن كانت فقيرة مثلهم حيث تعتقد أن ذلك العمل من شأنه أن يحفظ لها وليدها الصغير.
وقد تضع بعض النساء عددا من التعويذات لحماية أطفالهن وفي اليوم السابع من ميلاد الطفل تأتي القابلة فتقوم بغسل الطفل وأمه ويوضع ماء الغسل بأبريق بطشت على مقربة من الطفل ويتم تزيين الأبريق بطريقة تختلف وفقا لنوع المولود إن كان ذكرا أم أنثى كما توضع بجوار الطفل سلتان تحتوي إحداهما على الخبز وتحتوي الآخرى على الملح والقمح والبرسيم والفول والحلبة والعدس والذرة ويوضع على إحدى السلتين غربال كبير ينام فيه الطفل طول الليلة التالية وفي الصباح تعود القابلة ويتم الإحتفال بالمولود بما يعرف باسم «السبوع» حيث يتم الدق على الطشت ونشر الحبوب بأرجاء البيت مع ترديد عدد من العبارات من بينها «صلي على النبي».
عند وفاة أي رجل أو امرأة لابد من ذبح كبش تراق بعض دمائه في المكان الذي حدثت فيه الوفاة إضافة لغسل الملابس التي كان يرتديها المتوفي وتلآوة القرآن الكريم عليها ، وعند وفاة طفل تذبح دجاجة وهى في مجملها طقوس ترتبط بإعتقاد أهل الصعيد آنذاك بأن روح المتوفي ستظل عالقة بالبيت إذا لم تتبع بمثل هذه الذبائح ، ويزور أهالي المتوفي القبور يوم الخميس أو الجمعة وتُحضر النساء السلال الكبيرة المليئة بحلقات الخبز التي يتم توزيعها على رواد المقابر ، والعائدون من القبور لا يحق لهم دخول بيوت غيرهم خاصة إذا ما كان هناك طفل صغير حديث الولادة لأنه أمر يعد من قبيل الفال غير الحسن على حياة هذا المولود.
مهن.. وعادات
وقد شاعت بصعيد مصر خلال القرن الماضي عادة الثأر تلك العادة السلبية التي أخذت في التراجع بالآونة الأخيرة والجدير بالذكر هنا أن الباحثة وينفيريد بلاكمان تؤكد على أن تلك العادة لم تكن من العادات المتجذرة بتراث صعيد مصر ذلك أنها من العادات الوافدة إلى المجتمع الصعيدي وترجع بداية ظهورها إلى تاريخ وصول القبائل المهاجرة من الجزيرة العربية إلى جنوب مصر.
وتعرضت الباحثة لطبيعة الحرف والمهن التي شاعت بالصعيد مشيرة إلى أنه إلى جانب مهنة الزراعة كان هناك عدد لا حصر له من الحرف مثل حرفة صناعة الفخار التي تصنع من الطين وتوضع في الشمس حتى تجف ومن ثم يتم إشعال النار ، فيها كما يتم صنع السلال من سعف النخيل والجريد وأشهر تلك السلال ما يطلق عليه «المقطف» إلى جانب صناعة الأقفاص والأسرة والكراسي والطاولات الصغيرة ونسج الأقمشة الصوفية والسجاد على أنوال تقام داخل البيوت وتلعب النساء دورا مميزا بالعديد من تلك المهن التي تتم داخل المنزل سواء تعلق ذلك بالنسيج أو بصناعة الخزف.
وتلفت الباحثة النظر إلى أن الإحتفال بالمولد النبوي يعد أحد أبرز الإحتفالات السنوية التي يعتد بها أهالي الصعيد كما تلفت إلى ذلك الإحتفال الذي يتم فيه تكريم القديس جورج الذي يجتذب أعدادا كبيرة من المسيحيين والمسلمين على حدا سواء وفيما عدا مراسم الذكر التي يقوم بها المسلمون في موالدهم فإن مختلف طقوس الإحتفال تعد متشابهة ما بين إحتفالات المسلمين والمسيحيين ويتذكر المسلمون موتاهم خلال عيدي الفطر والأضحى ما يجعلهم يحرصون على زيارة القبور وهم يحملون جريد النخيل والكثير من العطايا التي يتم توزيعها على الفقراء.
تختتم الباحثة دراستها بالإشارة إلى أن العديد من العادات والتقاليد والطقوس التي مازالت حية بصعيد مصر إنما تعود في جوهرها إلى تلك الطقوس التي كانت شائعة بمصر الفرعونية ، فمازالت نساء الصعيد يستعن بالوشم والزينة كجداتهن ومازالت العديد من طقوس الميلاد والوفاة ومنح الهدايا التي تقدم لمؤذن المسجد وعازف الزمار والحلاق والفقهاء والفقراء والمستحقين خلال موسم الحصاد تعود في مجملها بجذورها لموسم الحصاد لدى المصريين القدماء.
الصعيد بكل ما يحمله من تراث ثقافي وإجتماعي ثري يمتد بجذوره إلى قدماء المصريين يستحق دون شك الكثير من الدراسات الإنثربولوجية كما يستحق توجيه المزيد من البرامج التنموية التي تحفظ لأهله مكانتهم.