كتب: ص. سينغر
ترجمة وعرض: تامر الهلالي
(في هذا المقال المهم يرى ص.سينغر المحلل الاستراتيجي بمؤسسة نيو أميركا أن اقتحام مبنى الكابيتول في السادس من يناير الماضى والذي يعد الحدث الأمريكي الأبرز في السنوات الأخيرة أثار بشكل واضح قضية الفوضى الرقمية والتضليل عبر الانترنت ودور اليمين المتطرف فيها وطرق مواجهتها ) فإلى نص المقال:
ليس من قبيل المبالغة القول إن الأسابيع القليلة الماضية أعادت تشكيل مشهد حرب المعلومات. بدأت ساحة الحرب عبر الإنترنت، وقد كانت مرتكزة منذ فترة طويلة نحو السمية من خلال الخوارزميات والمديرين التنفيذيين لوسائل التواصل الاجتماعي المكرسة لإبقاء الأشخاص ينقرون طوال الوقت وتشمل عملية التصحيح التخلص من أكبر موزعين للأكاذيب عبر الإنترنت ، حيث شاهد عشرات الآلاف من منظري المؤامرة والمتطرفين حساباتهم وقد تم سحبها من محاور ومنصات مختلفة للعنصرية مثل منصة “بارلر”.
غيرت هذه الإجراءات طبيعة التصفح والإبحار عبر الإنترنت وعملت على التفرقة بين الحقيقة والأكاذيب ، ويمكن القول إجمالاً أنها وضعت حدوداً فاصلة ما بين عهد “ما قبل 6 يناير وهو اليوم الذي جرى فيه اقتحام مبنى الكابيتول الأمريكي” وما بعده”.
و تساهم مثل تلك الجهود في إيقاف كل هذا الانهيار الخطير الذي تشهده الأمة الأمريكية والانزلاق إلى هاوية المعلومات المضلِلة والمضلَلة، لكن علينا أن نبذل الجهود التالية على المدى القصير والمتوسط والطويل لمساعدتنا على الخروج – والتأكد من أننا لا ولن نتراجع.
المدى القريب: تغيير الرسالة
لقد تطلب الأمر تمردًا عنيفًا في محاولة لإلغاء الانتخابات ، لكن شركات وسائل التواصل الاجتماعي تحركت أخيرًا لإغلاق مسارات المعلومات المضللة وهم يتعرضون الآن للعقاب .
في حين أن هناك العديد من المخاوف المبررة بشأن قوة هذه الشركات، فإن قدرًا كبيرًا من النقد المحيط بما قاموا به هو في الواقع جهود سيئة النية لإعادة كتابة السردية.
و يتعلق الأمر بادعاءات المتطرفين – إنه بطريقة ما في أعقاب خمس حالات وفاة واحدة من أكثر الأحداث المخزية في التاريخ السياسي الأمريكي-،( يقصد بها اقتحام مبنى الكابيتول الأمريكي ) فإن فقدان حساباتهم على تويتر يحولهم إلى “ضحايا” حقيقيين !.
في الوقت نفسه، يجب علينا بالطبع، الحفاظ على الشركات في حالة تأهب لضمان استمرارها في مواجهة المشاكل على شبكاتها. وقد بدأ المتطرفون في أقصى اليمين ومنظرو المؤامرة من منظمات مثل منظمة QAnon” بالفعل يغيرون الطريقة التي يبثون بها الرسائل، كما يغيرون المصطلحات المستخدمة ، وما إلى ذلك ، لمحاولة التسلل والاستفادة من الفسحة الحرة التي لازالت ممنوحة لهم للعمل على إعادة التهيكل والتموضع ، لكن خلال تلك العملية من المراجعات ، من المهم أيضًا دحض الادعاءات الشائعة وغير الدقيقة بشكل متزايد بأن الإجراءات الأخيرة كانت “رقابة” على “النمط الأورويلي”.
أورويل 1984
إلى جانب إثبات القاعدة القائلة بأن أولئك الذين يذكرون رواية ” جورج أورويل 1984″ هم الأقل استعدادًا لقراءتها ، تكشف هذه الادعاءات عن سوء فهم أو ربما سوء فهم متعمد للرقابة بثلاث طرق رئيسية.
الادعاء الأول هو أن ترامب أُسقط بسبب ما وصفه بانتخابات مسروقة و في الحقيقة لم يكن الإدعاء مجرد أكاذيب ، بل كان ذا صلة بتهديدات العنف المتعددة في الماضي والمستقبل.
وفي حين أن أكاذيب الرئيس السابق المتكررة بشأن الانتخابات أدت إلى تعليق حساباته (وكان من الممكن أن تكون كافية لحظره بناءً على قواعد الشبكات) ، فقد تصرفت الشركات أخيرًا بعد الواقعة المخزية في “الكابيتول”.
تم حظر حساب ترامب على تويتر بشكل دائم ثم قام بعدها بنشر شريط فيديو تعهد خلاله بالعودة إلى السلوك الرئاسي الطبيعي، لكنه بدلاً من ذلك أعلن أنه لن يشارك في حفل تسلم بايدن الرئاسة و “الانتقال السلمي” الأوسع كما هو مفهوم في أعرافنا وتقاليدنا الديمقراطية.
و في أعقاب أعمال الشغب ومواجهة عدة تهديدات مترابطة محددة ، قرر تويتر أن سلسلة تغريدات ترامب الجديدة توحي لمتابعيه،- بمن فيهم أولئك الذين خططوا للعنف وكانوا يخططون للمزيد – ، أن قضيتهم ظلت عادلة ومجال عملهم واضح.
حرية التعبير؟
يتمثل الادعاء الثاني في سوء فهم أساسي لماهية حرية التعبير، وحيث لا توجد ولن توجد حرية التعبير بنسبة 100٪ في ديمقراطيتنا ،عبر الإنترنت أو حتى في منازلنا . لقد قررنا كمجتمع أن بعض عناصر الكلام تنتهك أعرافنا وقوانيننا ، سواء كانت تصنع صورًا إباحية للأطفال أو تحرض على العنف.
يمكن أن يتخذ هذا الأخير شكلًا مما يسميه علماء القانون “الخطاب الخطير”: وهو ما يعرف بشيء قاله متحدث مؤثر لجمهور حساس يجعل العنف الجماعي أكثر احتمالية، تمامًا كما قامت شركات وسائل التواصل الاجتماعي بمراقبة شبكاتها بحثًا عن كل شيء بدءاً من المواد الإباحية للأطفال مروراً ب الأفلام المقرصنة إلى قطع رؤوس الإرهابيين ، فهي تتمتع بحقوقها – ويجب الدفاع عنها بالفعل عندما تختار – حظر الكلام الخطير من منصاتها.
غالبًا ما يكون الحكم النهائي عبارة عن تفسير خاطئ متعمد للسلطات والمسؤوليات المختلفة للشركة مقابل تلك التي تتحملها الحكومة. لدى الكيانات الخاصة خيار اتخاذ (أو عدم اتخاذ) إجراءات، حتى في الأماكن العامة ، لا تستطيع الحكومة القيام بها.
و كطريقة موازية لشرح الأمر، فإنك في أمريكا ، لديك الحق في شراء وبيع مسدس أو مواد إباحية للبالغين. ولكن لمجرد أن المرء له الحق في القيام بذلك ، فلا يجب أن تسمح له مراكز التسوق الرائعة ولا مواقع البيع مثل أمازون وغيره بالقيام بذلك في الأسواق الخاصة بهم. إنهم يقررون ليس فقط على أساس القانون، ولكن استناداً على قانون السوق الحرة ، بما يعتقدون أنه سيكون جيدًا لهوامش ربحهم وعلاماتها التجارية، حيث تمنحهم ملكيتهم مجالًا واسعًا ليس فقط لما يتم بيعه ، ولكن حتى فيما يُسمح بقوله في مساحاتهم.
لمواصلة هذا المثال، فإنك كأمريكي، يمكنك قانونًا أن تعبر عن رأيك بحرية على أي منتج، بكل الوسائل بما فيها الشتائم، لكن أمازون قررت أنه على شبكتها ، لا يمكنك شتم أو مراجعة المنتجات التي لم تشترها.
المدى المتوسط: تغيير البيانات
من المرجح أن تعمل التحولات الأخيرة في سياسات شركات وسائل التواصل الاجتماعي حيال المتطرفين اليمينيين ، كما فعلت مع داعش: ليس من خلال القضاء عليهم تمامًا أو دفعهم خارج الإنترنت ، ولكن إجبارهم على التواجد في أماكن أصغر وأكثر سرية. لذا سيظل الخطر قائما، لكن قدرة الحركة على التجنيد والتنسيق وقيادة الأحداث تقل بشكل كبير.
ومع ذلك، هناك اختلاف جوهري يأتي من الطريقة التي تعاملنا بها مع اليمين المتطرف بشكل مختلف، حيث. كان ينم التعامل مع تنظيم الدولة الإسلامية بوصفه شرًا و يقوم بانشطة مجرمة بشكل مؤكد، بينما تم منح التطرف اليميني حرية التصرف في سياساتنا وقانوننا لفترة طويلة جدًا.
النبأ السيئ بالنسبة لنا هو أن هناك الآن قدرًا هائلاً من “الاختباء على مرأى من الجميع” من أتباع هذه الأيديولوجية، بينما النبأ السيئ بالنسبة لهم هو أن الكثير مما اعتقدوا أنه مخفي أصبح الآن معروفاً للجميع علانية .
و يعد التعهد بالاضطلاع بهذا التحدي إلى مستوى جديد، بالتأكيد أصبح هناك أكبر خطر ملح على تاريخ الأمن السيبراني النازي واليميني المتطرف، وربما حتى كل تاريخ الأمن السيبراني للجماعات المتطرفة .
عندما سحبت شركات التكنولوجيا المختلفة الأنظمة الأساسية التي تسمح لشركة ” بارلر” بالعمل ، شقت حوالي 56 “تيرابايت من بيانات مستخدميها طريقها إلى العلن ، وذلك بفضل ممارسات الأمان والخصوصية السيئة للموقع.
والنتيجة هي أنه في الوقت الذي تم فيه إيقاف مركز رئيسي للمتطرفين ومنظري المؤامرة، فإن مجموعة كبيرة من المعلومات والتفاصيل التي نشروها أصبحت الآن على الإنترنت.- ا لنصوص ومقاطع الفيديو والصور – متاحة الآن و يمكن لأي شخص تنزيلها ، وأحيانًا يمكنك ان تجد مع الملفات المرتبطة إحداثيات GPS. بعضها يمكن مطابقته مع القواعد العسكرية ومراكز الشرطة وسيارات الدوريات الفردية وحتى الشخص المحدد.
و لكي نكون واضحين ، فإن الاحتفاظ بحساب بارلر “Parler” ليس غير قانوني ولا بالكاد هو “دليل على التطرف والتعاطف مع الإرهاب” ، كما ادعى البعض خطأ. لذا فالمسألة ليست ما إذا كان شخص ما على Parler ، ولكن بالأحرى ما فعلوه هناك ، بما في ذلك عندما اعتقدوا أنه لن تكون هناك عواقب.
وتبحث الآن مجموعات تشكلت من باحثين و صحفيين و سلطات إنفاذ القانون فقط في فيض المعلومات لمعرفة ذلك. مما لا يثير الدهشة ، أنهم يجدون العديد من الأشياء الفظيعة التي تتجاوز مشاركة فئة الجنايات في الاستيلاء العنيف على مبنى الكابيتول الأمريكي. (بالفعل ، نشر أحد المواقع كل وجه تم التقاطه في 827 مقطع فيديو لأعمال شغب الكابيتول المنشورة على Parler.)
ربما ما كان أكثر أهمية هو انه من بين أولئك الذين ينشرون أشياء عنصرية أو عنيفة ، كان هناك العديد من أفراد الشرطة والجيش وموظفين بالوكالات الحكومية الفيدرالية والولائية والمحلية ، والذين تُظهر منشوراتهم ليس فقط خيانة للثقة العامة ، ولكن أيضًا انتهاكات للقواعد المهنية والعقود وحتى القوانين.
المدى الطويل: وقاية النظام
منذ بضع سنوات و حتى الآن ، تحدث النقاد والسياسيون بشكل عام عن “إصلاح” وسائل التواصل الاجتماعي عن طريق تغيير إما الكود القانوني أو الآليات الإجرائية ، ولكن عندما نظرت مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي في 85 اقتراحًا من 51 منظمة بحثية وسياسية ، كان الإجراء الأكثر شيوعًا الموصى به هو تعزيز تعليمنا حول كيفية استخدامه.
المواطنة الإلكترونية
و يجب أن يكتسب مستهلكو المعلومات عبر الإنترنت – أي نحن جميعًا – المهارات اللازمة “لتعلم التمييز” بين البيانات والمعلومات الحقيقية والمزيفة ، والمتلاعب بها والأصيلة.
إن بناء مهارات “محو الأمية الرقمية” أو “المواطنة الإلكترونية” هو الطريقة التي علينا ان نبني بها مزيدًا من المرونة في النظام. من حيث الصحة العامة ، وهو ما يمكن وصفه باستعارة طبية بأننا بذلك نقوم بتلقيح الهدف ضد التهديدات الفيروسية عبر الإنترنت، حيث تقلل هذه المهارات من ضعفنا الفردي والمجتمعي ضد كل شيء بدءا من عمليات المخابرات الروسية إلى مناهضي التطعيمات ضد فيروس كورونا.
رغم ذلك ، فقد فعلنا القليل جدًا لغرس هذه المهارات. في جميع أنحاء الولايات المتحدة التي يبلغ عددها 14000 نظام مدرسي تقريبًا ، حيث تفتقر معظم المدارس إلى برامج محو الأمية الرقمية ، في حين أن المدارس التي تفعل ذلك كانت بمفردها إلى حد كبير للعثور على أدوات التدريس الناجحة و تمويلها.
وسائل غير تقليدية
يجب أن تدرك إدارة بايدن أن “إصلاح” وسائل التواصل الاجتماعي ، وجميع العلل المرتبطة بها ، تتطلب أكثر من نهج سياسة التكنولوجيا التقليدية.
وبدلاً من ذلك ، لابد ان تسير سياسة الأمن القومي وسياسة التعليم جنبًا إلى جنب لمساعدة المعلمين والأطفال والآباء في حماية مستقبل أمتنا ، لذا نحتاج إلى دعم فيدرالي للمساعدة في إنشاء ودعم برامج محو الأمية الرقمية الفعالة.
يتحمل المجتمع المدني بعض اللوم أيضًا. وتجدر الإشارة إلى أن الإجراء الموصى به هو الجزء الأقل دعمًا من قبل المؤسسات والذي عملت عليه مراكز الفكر والجامعات. تمامًا مثل المنصات اللازمة لإمالة ساحة اللعب ، كذلك يحتاج العاملون في القطاع غير الربحي إلى تصحيح هذا الخلل.
باختصار، الفوضى التي وجدت ديمقراطيتنا نفسها فيها لم تحدث بين عشية وضحاها. لقد تم تكوينها على مدار سنوات وسيستغرق التراجع عنها والتخلص منها سنوات. و لحسن الحظ ، مثل الإنترنت نفسه ، فإن الإجابة على سؤال مااذا يجب فعله حيال ذلك كلها متاحة في العلن.
تعريف بالكاتب:
ص. سينغر هو محلل استراتيجي في New America مؤسسة ومؤلف العديد من الكتب حول التكنولوجيا والأمن.