مختارات

البشري الحكيم المتواضع.. الحافظ لمجامع الدين والوطن

بقلم: كمال حبيب، نقلًا عن صفحته على الفيسبوك

رحم الله الفقيه الدستوري والقاضي العادل الحجة والمؤرخ المنصف والمفكر العبقري المتواضع الحكيم طارق البشري ، سليل أسرة البشري التي جمعت بين معاقد العلم الشرعي والقانوني فكان خير خلاصة لهذه الأسره الكريمة.

فجده سليم البشري كان شيخا للأزهر مرتين من عام 1900-1904 ومن عام 1909- 1916 م وكان شيخا للسادة المالكية الذين قعدوا للمصالح والاستصلاح والمقاصد، وعمه عبد العزيز البشري كان أديبا كبيرا وساخرا محتشما أنيقا، وأبوه عبد الفتاح البشري كان رئيسا لمحكمة الاستئناف حتي وافاه أجله عام 1951 م.

وكان أخوه ظافر البشري كان وزيرا للدوله للتخطيط والتعاون الدولي من عام 1993- 1996 في حكومة كمال الجنزوري وله كتاب بعنوان ” الاقتصاد في الخطة والمسار خلال ثلاثة عقود ” ، وكان يقطن معه في نفس الفيلا المتواضعة التي كان يقيم بها في حي المهندسين بمدينة القاهرة حيث كان يتخذ من الدور الأول مسكنا له بينما كان يقيم المستشار طارق البشري وأسرته القاضي عماد البشري رئيس هيئة المفوضين بالمحكمة الدستورية العليا وابنه المهندس زياد وزوجته الكاتبة الصحفية الكبيرة عايدة العزب موسي في الأدوار العليا.

ظافر البشري
ظافر البشري

قرأت كتابه الحركة السياسية في مصر من 1945-1952 م وكانت مقدمته الطويلة نسبيا للطبعة الثانية تمثل تأسيسا لمنهج التعامل مع الذات والتعبير عن تحولاتها وفهمها لمسار حركة التاريخ والإنسان والأمم ، كانت تلك المقدمة قد كتبها يوم 5 أكتوبر 1981 أي قبل اغتيال السادات بيوم واحد ، وهو ما جعلني وأنا أكتب أول وثيقة تعبر عني كجهادي هي وثيقة الإحياء الإسلامي عام 1986 م في السجن ، أقول وقتها إن طارق البشري كتب مقدمته بعد 6 أكتوبر عام 1981 م لكنه سجل انتهاءه منها قبل ذلك التاريخ بيوم واحد حتي لا يبدو أن التحولات الهائلة التي جرت علي المجتمع المصري في تلك الفترة في السياسة والاقتصاد والسياسة الخارجية والمجتمع والتي كانت هائلة وكبيره لا بد وأنها أثرت علي مثل طارق البشري .

أذكر أنه اتصل بي مرة في البيت يسألني من هو ” أبو عبد الرحمن ” الذي كتب وثيقة الإحياء وقد كنت مهرت مقدمتها بكنيتي في ذلك الوقت فقلت له وأنا أشعر بالكسوف والخجل “العبد لله ” يبدو أنه كان يريد التأكد من أنني من كتب هذه الوثيقة المهمة التي كان طارق البشري أحد مصادرها في مواضع متعددة وكان حامد ربيع وغيره ،، كانت الوثيقة مكتوبة من جهادي ولكنها بأسلوب فكري وسياسي مختلف عن طريقة الجهاديين في الكتابة في ذلك الوقت .

ثم إنني قرأت كتبه كلها تقريبا فلم أدع منها شيئا فكتابه الضخم ” المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية ” قرأته كله باحترام وتقدير وأنا في السجن ، ثم أهداني هو كتبه تقريبا ممهورة بتوقيعه وكلمات عزيزات بالثناء والدعوات ومنها كتابه عن ” الديموقراطية ونظام 23 يوليو 1952-1970 ” ، ثم مجموعته الهامة عن الفكر الإسلامي المعاصرالملامح العامه للفكر الإسلامي المعاصر ” ، ” الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي ” ، ” في المسألة الإسلامية المعاصرة ” .

المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية

وظللت أتابع ما يكتب وكان كتابه ” الجماعة الوطنية بين العزلة والاندماج ” موضعا لقراءة لي فيه قدمتها وقتها علي موقع الجزيرة نت ” حيث كنت أكتب له في ذلك الوقت ربما عام 2005 .

إنني أعتبر نفسي تلميذا في محراب ذلك العالم الكبير ،، فقد كان هو من تابع معي في الحقيقة دراستي في الماجستير عن ” الأقليات والسياسه في الخبرة الإسلامية ،، دراسة حاله للدوله العثمانية ” والتي طُبعت بعد ذلك في كتاب بعنوان” الأقليات والسياسة في الخبرة الإسلاميه من بداية الدولة النبوية وحتي سقوط الدولة العثمانيه 641-1908

وكان هو من ناقش تلك الرسالة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسيه بالمشاركة مع أستاذي المشرف علي الرسالة الدكتور “علي الدين هلالومع أستاذي الدكتور” كمال المنوفي” رحمه الله الذي أشرف علي رسالتي للدكتوراه من بعد .

كنت لا أكف عن لقاء المستشار البشري رحمه الله في مكتبه بمجلس الدولة وأنا أعد رسالتي للماجستير فكان يلقاني بوجه مستبشر وابتسامة رائقة ووجه طيب نضر وكان لا يتأفف ولا يضيق بي أبدا ، بل كان يقوم مودعا لي حين انصرافي حتي يصل معي إلي الباب .

ظللت أزوره في الفيلا التي يقطن بها في حي المهندسين زيارات لم تتوقف ، وكان بعض مريدي المستشار من طلبة العلم يتوسطون لدي من أجل تهيئة زيارة له فلا يتأخر أو يتضايق بل كان بيته مفتوحا لطلبة العلم والمحبين والمريدين

طارق البشري وكمال حبيب

وفي بيته المتواضع الأنيق تشعر بطاقة إيجابية هائلة تطلقها النفوس الطيبة المقيمة بالشقة فكانت زوجته – شفاها الله هي من تأتي بالشاي للضيوف في تواضع كبير ، وكان القاضي عماد محبة في والده يقوم بذلك فكنت أتفحص وجهه متمليا في أدبه وتواضعه والأنوار المنبثقة منه ومن أبيه وأمه حفظها الله وعافاها .

وحين ترك الفيلا إلي شقة مجاورة في حي المهندسين ذهبت لزيارته هناك متجشما الوصول إليه ومحادثته لمعرفة الطريق، وهناك التقيته وتناقشنا في بعض القضايا الفكريه وكان هادئا كريما متواضعا وكان آخر ما أهداني كتابه ا لقيم ” دراسات في الديموقراطية ” وكتب إهداء رقيقا عليه كعادته .

جمع البشري بين العلم والعمل و التواضع ما رأيت عبقريا يفري فريه في حب الأوطان والدين وبناء جامع يحفظ ولا يبدد ويجمع ولا يفرق ويبني ولا يهدم ،، كان الدين الإسلامي ومصر هما عشقه واهتمامه الرئيسي فاجتهد لدينه منطلقا يوسع ولا يضيق وييسر ولا يعسر ويفتح ولا يغلق ويمد حبال الفهم وسبر الغور وتحرير المنازع وتصحيح المقصد وإصابة الغرض ،، واجتهد لمصر فأرادها كنانة محفوظة لا يريدها أحد بسوء أو غرض إلا قام يذب عنها ويحامي عليها ويحفظ بقاءها ووجودها ، فكانت قضية استقلالها شاغلها الشاغل وقضية ديموقراطيتها مناط كفاحه ومجال عمله الرئيسي فرفض المحاكمات العسكريه للمدنيين وأفتي بعدم قانونيتها حين عُرضت عليه كقاضي في مجلس الدولة مسألة قانونية محاكمة جماعة شكري مصطفي ومن معه علي محكمة عسكرية وهو ما حرمه من حقه فيما بعد من الترقي ليكون هو رئيس مجلس الدوله فقد خرج متقاعدا نائبا للرئيس .

رحم الله القاضي العدل و المؤرخ النزيه والمفكر الحر الذي عاش قانعا راضيا في محراب العلم وريث جده وأعمامه وأبيه الذين ورثوه العلم وأقاموه علي ثغر من ثغور المرابطة الحافظة علي الدين والوطن ، فلم يسع لشهرة ولا مغانم ولا مال ولكنه بقي النموذج الفذ العبقري المتواضع الذي لم يترك دينارا ولا درهما ولكنه ترك العلم وهو خير ما يتركه الإنسان لدينه ووطنه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock