رؤى

“علي ليلة” عالمٌ تأمل صفحات مصر

“إلي أستاذي المرحوم الأستاذ الدكتور “علي ليلة” بطاقة حب واعتراف بالفضل, ليس لأنك علمتني: فذلك فيض من فضل منك… ولكن لأنك عظيم… ولأن أمك التي أنجبتك مجيدة… ولأن مصر التي عايشتها بهية وعفية وولادة… لم يعد ” علي ليلة” يملأ عالمنا, ولم تعد خطواته تملأ المكان”.

هذه الكلمات لم تخرج من رحم قلم عالم فحسب, ولكنها خرجت من قلب محب معترف بالجميل, فعنوان المقال مقتبس من مقال ” كتبه المرحوم الدكتور علي ليلة عن أستاذه “سيد عويس” في المؤتمر السنوي السابع للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عام 2005, والذي جاء بعنوان” سيد عويس عالم تأمل صفحات مصر فقدم نظريته”, وكنت وقتها محظوطاً بسكرتارية الجلسة التي ترأسها وزير التموين الأسبق المرحوم الدكتور “أحمد جويلي”, وتعلمت وقتها معني الأستاذية, وبالكلمات التي كتبتها في المقدمة استهل “علي ليلة” ورقته عن أستاذه “سيد عويس”, ولم أجد أفضل من هذه الكلمات في ذكري وفاته ليصدق قول ربنا ونبينا” وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ”, وكأن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض, صدق الله العظيم وصدق رسوله الكريم.

كنت أتمني في هذه السطور أن أعرض تجربتي مع أستاذنا, ولكن فضلت أن أعرض تجربة “علي ليلة” مع العلم والحياة, لتتعلم منها الأجيال المثابرة, والكفاح, وتتعرف الأجيال الجديدة علي المساهمات التي قدمها الدكتور “علي ليلة”, خاصة وأنه رحل في هدوء, كما عاش في هدوء.

أولاً: “علي ليلة” : صفحات غير منسية في الذاكرة العلمية

أشرق ” علي محمود علي أبو ليلة ” إلي عالمنا يوم السادس من سبتمر عام 1941, تربي في أسرة متوسطة بقرية ” زاوية رزين” بمحافظة المنوفية, حفظ القرآن في قريته وألقي ذلك بظلاله علي طريقة تفكيره ومسيرة حياته, أكمل تعليمه الأساسي في مركز منوف في ظل مجانية التعليم إبان ثورة يوليو. انتقل إلي القاهرة عام 1960 ليلتحق بكلية الآداب جامعة القاهرة, وانضم في البداية إلي قسم الجغرافيا ولم يمر عليه شهر حتي وجد نفسه أكثر شغفاً بقسم الاجتماع, فتحول إلي دراسة علم الاجتماع, بعد تخرجه عين باحثاً بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عام 1964, حصل علي دبلوم العلوم الجنائية عام 1965, وسجل للماجستير في أصعب التخصصات وهو النظرية الاجتماعية في موضوع” الأسس النظرية والمنهجية للاتجاه الوظيفي في علم الاجتماع مع دراسة ميدانية لظاهرة القرابة في مجتمع محلي” , وذلك عام 1973, وحصل علي درجة الدكتوراه عام 1980 في موضوع ” الأسس النظرية والمنهجية لنظرية الفعل في علم الاجتماع تحليل نقدي”.

مر المرحوم الدكتور علي ليلة بمسيرة عطاء طويلة في الحياة الأكاديمية, فحين تعيينه  باحثا في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عام 1964 عاملاً مهماً في تكوينه الفكري واحتكاكه بالدكتور “سيد عويس” الذي كان يتذكره دائما, وانتقل إلي جامعة عين شمس عام 1978 ليعين معيداً بها, سافر إلي الولايات المتحدة الأمريكية عام 1984 لاستكمال مشروع كتاب مشترك عن البيروقراطية المصرية بالتعاون مع جامعة فلوريدا ومركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية, حصل علي درجة أستاذ مساعد عام 1985, وحصل علي الأستاذية عام 1990, عمل بالتدريس في عدد من الجامعات العربية منها جامعة قطر, والإمارات المتحدة, وجامعة الملك سعود.  حظي بعضوية اللجان والمنظمات العلمية و منها الجمعية الدولية لعلم الاجتماع , كما عين أمينا عاما للجنة الوطنية العربية للتربية والعلوم والثقافة “يونيسكو –اليسكو –آيسيسكو-إبتداء من 8/10/2013 حتى نهاية سبتمبر 2014, وحصد العديد من الجوائز في مجال التميز العلمي.

 ثانياً: العلم الذي حمله فوق ظهره

صال وجال “علي ليلة” في جميع فروع علم الاجتماع, وكان له مقولة شهيرة يرددها دائماً ” من يكتب في النظرية يستطيع أن يكتب في جميع فروع علم الاجتماع” مع العلم أنه عندما كان يقول ذلك ليس من قبيل الفخر, فهو رجل في قمة التواضع, ولكنه كان يستحث طلابه وتلاميذه علي العمل في النظرية.

قدم “علي ليلة” مائة وخمسة عشر بحثا في مؤتمرات محلية ودولية, طاف من خلالها أرجاء العالم, بدأها عام 1980 “بملامح السياسة الاجتماعية في إطار التجربة الناصرية رؤية تقييمية” , وختمها عام 2016 بورقته حول “البعد الثقافي لمشاركة المرأة العربية” في مؤتمر بجامعة الدول العربية برئاسة وزير الشئون الاجتماعية التونسية , وتشرفت بأنني قمت بإلقائها نيابة عنه نظراً لتدهور حالته الصحية في ذاك الوقت. نشر المرحوم الدكتور “علي ليلة” ثلاثة وثلاثين مقالا في دوريات علمية عديدة بدأها عام 1974 في المجلة الجنائية القومية بعنوان “العنف في المجتمعات النامية، من وجهة نظر التحليل الوظيفي”, غطَّت مقالاته العديد من فروع المعرفة, شارك الدكتور علي ليلة وأشرف علي مشروعات بحثية علي المستوي المصري, والعربي بل والعالمي, حيث شارك بالكتابة والإشراف علي سبعة وعشرين بحثا ميدانيا ناقش خلالها قضايا وهموما محلية وعالمية.

ألف الدكتور علي ليلة طوال مسيرته واحدا وأربعين كتاباً, شهدت بدايتها كتبا عن النظرية, ثم تطرق بعدها إلي العديد من القضايا , بل والمشكلات العالمية بداية من منتصف التسعينات, حيث بدأت كتاباته مع موجات العولمة تنطلق نحو مناقشة القضايا ذات البعد العالمي, وتداعيات ذلك علي مصر والعالم العربي.

النظرية الاجتماعية وقضايا المجتمع - علي ليلة

اهتم الدكتور علي ليلة بالترجمة, فقد ترجم خمسة كتب مهمة, منها كتاب علم الاجتماع والنقد الاجتماعي عام 1981 بالاشتراك مع الدكتور محمد الجوهري والسيد الحسيني, وكتاب الاقتصاد والمجتمع في العالم الثالث عام 1982 بالاشتراك مع الدكتور محمد الجوهري والدكتور أحمد زايد, وترجم بمفرده عام 1989 كتاب  “النظرية الاجتماعية ونقد المجتمع :الآراء الفلسفية والاجتماعية للمدرسة النقدية” , وفي عام 1992 اشترك مع الأستاذ السيد يس في ترجمة كتاب “النظرية الاجتماعية ونقد المجتمع ، الآراء الفلسفية والاجتماعية للمدرسة النقدية”, وترجم بمفرده عام 2005 الكتاب المهم “الأزمة القادمة لعلم الاجتماع الغربي”.

نوقشت اسهاماته في العديد من الجامعات العالمية, ومنها جامعة ليدز في إنجلترا, وقدم الدكتور علي اسهاماً باللغة الفرنسية عام 1994 حول العنف من المنظور الاجتماعي, كما قدم مساهمة عام 1984 عن القيم البيروقراطية والتنمية,  واشترك مع الأستاذ السيد يسن في كتاب عن البيروقراطية المصرية عام 1988, وقدم عام 1990 اسهاماً حول إدارة النظام السياسي للاحتجاج, وفي عام 2007 قدم مساهمة باللغة الإنجليزية حول المجتمع المدني في البحرين.

 اتسم تفكير علي ليلة بالمرونة الفكرية, فعلي الرغم من كونه وظيفياً, إلا أنه لم يكن حبيسا لها, وتجلي ذلك في العديد من المؤلفات وخاصة الأخيرة والتي اتخذت الطابع النقدي, كما أن من يتأمل فكره وخصوصاً منذ بداية الألفية يدرك أنه اتجه توجها دينيا, فقد انتدب إلي دار الإفتاء المصرية, وأنتج فيها موسوعة الأسرة المصرية, والتي كان يأمل أن تخرج بشكل يحقق التوازن بين الناحية الدينية والاجتماعية, ويثبت أنه لا يوجد تعارض بين الوجهتين, كما أنه عمل في تلك الفترة وتعاون مع مركز الدراسات المعرفية التابع للفكر العالمي الإسلامي, وألف له مجموعة من المؤلفات, ونظم مجموعة من المؤتمرات , وألقي به العديد من المحاضرات.

ثالثاً: “علي ليلة” منبر للإنسانية الصامتة

أحسن إلي الناس تستعبد قلوبهم* فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ ” الإمام الشافعي”

في يوم الأربعاء من كل أسبوع, كان الطلاب المصريون والعرب يتزاحمون في  قسم الاجتماع منتظرين شيخهم, بينما كان آخرون  يتزاحمون كل سبت علي معهد الدراسات العربية, وهناك آخرون كانوا ينتظرون  من يناقش حتي يحظوا باستاذيته.

جمع “علي ليلة” بين النزعة العلمية والإنسانية والدينية, فما من أحد تعامل معه إلا وقد لمس دماثة الخلق, وحسن المعاملة, وغلبة النزعة الدينية, ولما لا وهو حافظ لكتاب الله, كانت سجادة الصلاة في مكتبه يخرج من المحاضرة, ليصلي فرض الله, وكنت شاهد عيان عليه في دار الإفتاء, فكان في معظم أفعاله يستشير أهل العلوم الشرعية قبل أن يخوض غمار أفعال كثيرة كان ينوي عليها. كان تدينه وسطيا, ويكفي أن يكون أول من قدم التعزية في الصحف المصرية عقب وفاة الدكتور علي ليلة  هو مفتي الديار المصرية.

بناء النظرية الاجتماعية - علي ليلةوتتجلي إنسانيته الصامتة ورفعتها في تعامله مع طلابه حينما كان يقطع المسافات لمناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه في الوجه القبلي, حيث كان يذهب إلي أقصي صعيد مصر, ويتطلب الأمر أن يبيت  هناك ليلة المناقشة, وعندما يحجز له الطالب تذكرة قطار السفر وفندق المبيت, كان يسأل الفندق كم تكلفة الليلة, وينظر في سعر تذكرة القطار, وبعد المناقشة كان يعطي مكافأة  من جيبه الخاص للطالب  على سبيل الهدية تتجاوز ما دفعه , كان لايريد أن يكلف الطالب علي الاطلاق.

وأراه وهو يسأل طلابه المقربين عن أحوالهم وظروفهم المادية والأسرية, وكان يمد لكل من حوله يد العون بطريقة فيها من الأدب الجم ما يدل علي خلق صاحبها. وإذا أردت أن تتعرف علي فيض إنسانيته الصامتة أنظر إلي حال بعض طلابه بعد وفاته, فقد اكتشف بعض طلابه حقيقة المنح الوهمية, فما المنح الوهمية؟ عندما يجد  أستاذنا أحد طلابه في ضائقة مادية كان يساعده بطريقة المنح, وهي الطريقة التي لم تظهر ولم يتعرف أحد علي سرها إلا بعد وفاته, وأتشجع في هذا المقام أن أسردها, فعندما كان يجد طالبا متعثرا ماديا , كان يقول له أكتب طلب منحة لمركز الدراسات المعرفية فهم يقدمون منحا مالية لدعم الرسائل العلمية, وكان يأخد الطلب, ويأتي بالفرح لطلابه بأن المركز قد وافق علي المنحة علي أن تعطي المنحة مكافأة شهرية للباحث, مقابل إنجاز رسالته, وفي أول كل شهر يأتي إليه طلابه ويعطيهم المال ويستلم منهم ورقة مكتوبا فيها أنهم استلموا المكافأة الشخصية المقررة, وبعد وفاته تم التأكد أنه لم تكن هناك منح, ولكنها مساعدات إنسانية صامتة  لطلابه, إنها الإنسانية في أبهي صورها.

مر علي ليلة بمشكلات أسرية جمة هزت جوانب حياته وأركانه, والصعوبة أنها جاءته في مرحلة متأخرة من عمره, ولكنه استطاع أن يتجاوز هذه المشكلات – التي لا مجال  للحديث عنها-  بوسيلتين كما كان يردد دائما , بقلمه, ورفيقة دربه التي زادت حياته اشراقاً الفاضلة الأستاذة هدي ابراهيم, فكانت له نعم السند والمعين وتجاوزت معه فترة صعبة من مراحل حياته.

تفاعل الحضارات - الدكتور علي ليلةلم يصارع علي ليلة المرض لفترة طويلة, وعندما اشتد عليه المرض, كان يحمل هم طلابه, فيغيير لجان المناقشات العلمية, ويطلب حذف اسمه حتي لا يتعطل الطالب, وبالفعل تمت مناقشة عدد من طلابه دون حضوره, وفي نفس الوقت طلب نقل إشرافه إلي أساتذة آخرين, حتي لا يتسبب في تعطيل أحد.

رحل الدكتور علي ليلة عن عالمنا في فجر يوم  28 فبراير عام 2017 بمستشفي الطيران, وتم نقل جثمانه إلي قريته” زاوية رزين” في المنوفية بناء علي طلبه, فاللهم ارحمه واعف عنه وألحقه  في عبادك الصالحين.

وليد رشاد زكي

أستاذ مساعد علم الاجتماع - المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock