رؤى

دكتور جودي ابراهيم.. أحد رموز الصعيد المفتَرَى عليه

نخطئ خطأ كبيرا  عند التعريف بالشخصيات العامة، حين نلخص حياتها وأعمالها في تواريخ بحتة تعكس أحداثها الجليلة المقدرة، صحيح علينا في النهاية أن نذكر هذه التواريخ، توثيقا للأقوال وتسهيلا على الراغبين في صيد لآلئ هؤلاء المعتبَرين، لكن ليس دون أن نحاول الولوج إلى عوالمهم، عوالمهم التي تزخر بالدرر النفيسة، سواء في الجانب المهني ظاهر الآثار أو الإنساني عميق الدهاليز، وتستحق العرض المستفيض للإيضاح والإفادة وإبراز القدوات، وقد يعجز الاختصار، بالوميض التاريخي وحده، عن الإحاطة الشاملة بهؤلاء الرائعين مهما يكن دقيقا.. الدكتور “جودي إبراهيم محمد” واحد من رموز الصعيد في مجاله الطبي، ولا أجافي الحقيقة حين أقول إنه واحد من رموز الوطن الفعليين في مجاله المذكور، بل في رحلته برمتها، أعني في شتى تحولاته وتقلباته بطول مسارات خطاه.. وها هو يقول عن نفسه بثقة: أنا شاهد على سنوات وطنية مصيرية، بقضِّها وقضيضها، لا سيما سنوات حكم “مبارك”!

الميلاد والنشأة والتعليم

في الثالث من مارس من عام 1967 من القرن الفائت؛ وُلِد الدكتور جودي في مدينة قنا، لأسرة عادية تنتمي إلى قبيلة الأشراف، كثيفة الوجود في المحافظة الصعيدية الجنوبية، الصدفة السعيدة وحدها جعلته “حَسَنِيًّا” لأبيه و”حُسَيْنياً” لأمه (النسبة إلى الحسن والحسين رضي الله عنهما، لا لأحدهما وحسب وهو الأكثر شيوعا) وهي نفس الصدفة السعيدة التي جعلته يولد في يوم العيد القومي لمحافظته أيضا؛ ففي الثالث من مارس من كل عام تحتفل محافظة قنا بعيدها القومي، وفي الوقت نفسه يحتفل محبو طبيبنا القناوي اللامع بعيد ميلاده؛ وفي حالته الباهرة بالذات تبدو الصدفة كما لو كانت موعدا وقصدا.

مضى صاحبنا، والنجاح الفائق حليفه، من الدراسة الابتدائية في مدرسة المنشية الابتدائية المشتركة بمدينة قنا، إلى الدراسة الإعدادية في مدرسة التحرير الإعدادية للبنين، إلى الدراسة الثانوية في مدرسة الشهيد عبد المنعم رياض الثانوية العسكرية، ثم إلى بكالوريوس الطب والجراحة من كلية طب الزقازيق بجامعة الزقازيق عام 1990(مغتربا عن مدينته لأول مرة).. ومن ذلك إلى دبلومة جراحة المسالك البولية من كلية طب القصر العيني بجامعة القاهرة عام 1997، ومنها إلى ماجستير جراحة المسالك البولية من نفس الكلية والجامعة عام 2002 (الرسالة كان موضوعها التعامل مع حصوات الجهاز البولي بالطرق المختلفة لتحقيق أقل قدر من التدخلات الجراحية التقليدية)، إلى دبلومة إدارة المستشفيات من كلية التجارة بجامعة عين شمس عام 2006، إلى درجة الدكتوراه في جراحة المسالك البولية والتناسلية والعقم من كلية طب القصر العيني بجامعة القاهرة عام 2010 (الرسالة كان موضوعها الاكتشاف المبكر لأمراض البروستاتا بدون اللجوء إلى أخذ عينات و بطرق علمية تحقق أكبر قدر من الدقة في التشخيص).. في الطريق، حصل الطبيب  النابغة على دبلومة تطبيقات الليزر في العلوم الطبية من معهد الليزر- جامعة القاهرة، وعلى دبلومة أمان استخدام الليزر في المجالات الطبية- معهد أبحاث الليزر- جامعة القاهرة، وعلى دبلومة الجودة الشاملة- الجامعة الأمريكية (300 ساعة دراسة).. ومن عجيبٍ أنه عاد إلى الدراسة مجددا، في العامين الأخيرين، كمنتسب إلى كلية الحقوق بجامعة القاهرة، مفضلا دراسة القانون الذي يَعُد نفسه من المولعين به، وقد نجح في الفرقة الأولى بتقدير امتياز، ولا يزال في الآفاق الدراسية التي غالبا ما سيخرج منها ظافرا كعادته، لا يبالي بموقف الذين تربكهم مهابته إذا علموا بأنه رجع طالبا من الأول؛ فهو ليس من طينة بشرٍ يحسبون المسائل حسابات عاطفية خائبة هكذا، تصيبهم بالتردد، لكنه من طينة صلبة لا مساحات عندها للتراجع عما تريده وتقرره..

الخبرات العملية

عمليا، بين 1994 و 1999، عمل الدكتور  جودي كبير نواب ومساعد أخصائي بمعهد ناصر الدولي للبحوث والعلاج، وكان المسؤول الأول معهديا بقسم زراعة الكلى في تلك الفترة نفسها.

ومن 2000 حتى الآن، يعمل كمدير لمركز تفتيت الحصوات بأحد المستشفيات الكبرى بالقاهرة ، وهناك يتم تفتيت الحصوات بالموجات التصادمية من خارج الجسم، بدون جراحة أو تخدير أو ألم .

ومن 2011 إلى اللحظة الراهنة، يعمل كاستشاري جراحة المسالك البولية بالمستشفى نفسها، ضمن فريق طبي على مستوى عال من التدريب، وقد عُيِّن الدكتور جودي كبير الاستشاريين بهذا الفريق الطبي الممتاز.

  تجارب  مهنية وانسانية رفيعة

بعد كل ما ذكرته هنا، وبدون حاجة إلى إيضاح تفصيلي فيما أظن، يُلاحظ، بيسر، حجم الحصائل الشخصية الهائلة من خلال متابعة تجارب التنقل بين البيئات المصرية المختلفة والإقامة فيها للدراسة (الريف المصري، الأجواء العاصمية) وتنوع الدراسة التي يبدو أنها كانت تسير وفق خطة محددة محكمة في ذهنه وصولا إلى بلوغها التمام بالحصول على الدرجة الأرفع.. فضلا عن الأسفار الحرة إلى المؤتمرات الطبية العديدة بالداخل والخارج، والتعامل مع العرب بجانب المصريين بعيادته، ومن بينهم شخصيات مرموقة.. بالإضافة إلى تعدد أماكن العمل وتعدد مواقعه في الأقاليم، وكل مكان له نظامه وطريقته بالبداهة، وكل إقليم ببلادنا الفسيحة له جملة من الخصائص التي تفصله عن غيره مقدار ما تصله به، وقد كتب الدكتور جودي  طائفة من المقالات الطبية ونشرها بمطبوعات متخصصة، وإن لم يحترف الكتابة ولم يواظب عليها، كما استضافته الفضائيات، باتساع، ولا زالت تستضيفه، ويلبيها لو أمكنه، متكلما في مجاله بعلم وافر وأمانة تامة. لا أتحدث عن الخبرات العلمية فحسب، وهي عظيمة جدا بالطبع، لكنني ألفت النظر إلى عدد ما قد يكون الوعي الإنساني والضمير الإنساني حصَّلاه بالضرورة في المشوار الطويل الحافل الراسخة جذوره والمتشابكة فروعه .

المهارت الطبية

حصد الدارس والممارس مهارات طبية لا حصر لها، بعضها نادر بالأكيد، من بينها إجراء مئات العمليات في تخصص المسالك البولية فيما يخص المناظير بالذات؛ حيث إنها في يقينه المستقبل الحقيقي والآمن لعلاج أمراض المسالك البولية والتناسلية والعقم، مع الإجادة التامة للتدخل الجراحي التقليدي مع الحالات التي يفيدها مثله، وكذلك عمليات استئصال البروستاتا بطريقة البلازما “التبخير” ثنائي القطبية، وهي حاليا أحدث طرق العلاج في العالم، حيث تتميز هذه الطريقة بنسبة أمان عالية جدا، وخاصة لمرضى القلب ومرضى سيولة الدم.

الأسرة والخصال الطيبة

تزوج الدكتور جودي من طبيبة، تخصصها خلاف تخصصه، وأنجب منها “حبيبة” و”سيفا”، وهما يدرسان الطب كمثل والديْهما، ويقيم في القاهرة بشكل دائم لمتابعة أعماله  في العاصمة ، لكنه لا ينقطع عن بلده قنا، ولا أبناء قبيلته من الأشراف، ولا أصدقائه وأحبته من كل قبيلة وبيت في الصعيد الجنوبي الذي يعرفه ويوقره، وبالنسبة للمسألة القبلية التي لها اعتبارها عند قومنا الصعايدة طبعا، فلو أقبل عليه مريضان، واحد من قبيلته وواحد من قبيلة أخرى؛ فإن المقدَم عنده ذو الحالة الأخطر لا الذي ينتسب إلى نسبته الشريفة، فهذه أخلاقه بالقطع لا الظن، وفي الإنسانيات عموما فإننا بإزاء وزن راجح بلا جدال، ولولا علمي بكراهيته لذكر ما يفعله من البر بأهله ومن الخير للناس، في السر والعلن، لذكرت جملة طويلة من ذلك تضعه في مصاف الكرماء الطيبين الأماجد، إلا أنه مع ذلك يدرك معنى أن يكون الإنسان غنيا وقويا، وواقفا على أرضية صلبة لا رخوة، وقدر اتصافه بالصبر يتسم بالجسارة في الحق، ولا يحب الاستغلال ولا الخلط بين الأمور، كالمقارنة البائسة بين الطب العام والخاص مثلا، بلا علم كاف بطبيعتهما وما تحويه كل ناحية من المزايا والعيوب، وبما يعكس اجتراء سافرا من الخلق أحيانا وتجنيا مقيتا بالمثل وعدم فهم يحيِّر ذوي الألباب..

الوجه الثقافي والفلسفة الخاصة

بين الدكتور جودي  وبين الثقافة، في صورتها العامة، رباط متين؛ فلديه مكتبته العامرة بالكتب العلمية والأدبية والفنية والفكرية والدينية، وفي كل المجالات في الحقيقة، ومن يجلس إليه، قبل التعرف بمؤهلاته ووظائفه وتخصصه، قد يظنه مشتغلا بالإبداع أو ما يشبه ذلك، ولا ريب سيراه صاحب فلسفة خاصة في الحياة؛ فليس يعيشها بلا عقل ولا ترتيب. إنني أتحدث عن رجل خمسيني على كل حال لا عن عجوز عركته السنون، وهذا سبب من أسباب عبقريته عندي، بل عند كل ذي تقييم موضوعي صاف من الشوائب والأكدار، كما أتخيل بلا أدنى مبالغة، فأنا أتحدث عن قيمة تجاوز قيمة هذا العجوز المحنك بحكم كبر السن، عن قامة شابَّة ناضجة تذكِّر الناس برموز وطنيين، ولا تقل هي عنهم، بسعيها الجاد ونباهتها الباذخة، ، وقد يجب هنا أن أذكر أنه أحد داعمي الدولة، فيما يراه موافقا مصلحة الجموع، وقد لا يراه الآخرون كذلك، غير أنه يبقى، على مستوى الميل الشعوري، منحازا إلى السواد الأعظم من الناس، ومستوعبا للمشكلات المتفاقمة في النواحي كلها، ومتطلعا إلى الحلول العملية العاجلة والنور الأتم الذي يشمل وطنا عريقا بمواطنيه الذين يعانون ، ، وعينه تراهم في حال المرض والوهن، تراهم، بيقينها الطبي النافذ الحاسم وحسها الإنساني الراقي الشفوق، وهم في أكثر الأحوال التي يكون فيها الإنسان بقمة الاحتياج إلى معاونة فاعلة واحتواء صادق، والمعاونة والاحتواء الموصوفان كلاهما في قبضته، كطبيب حاذق وإنسان نبيل.

عبد الرحيم طايع

شاعر وكاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock