في روايته “الوجه الحجري” يقدم الكاتب الأمريكي ويليام غاردنر سميث قصة شاب أمريكي أسود اللون يواجه التمييز العنصري في بلاده بسبب لونه مما يضطره للهجرة واللجوء إلى فرنسا التي يعتبرها بلد “النور و الحرية”.
إلا أن هذا الشاب سرعان ما يصدم حين يتعامل مع الواقع في فرنسا٫ حيث يُدرك أن التمييز الذي طالما عانى منه في الولايات المتحدة٫ يعاني منه الجزائريون المهاجرون إلى فرنسا خاصة في سنوات حرب التحرير التي خاضتها بلادهم ضد الاستعمار الفرنسي.
ومع نهاية الرواية يقرر البطل العودة إلى بلاده مرة أخرى ومواجهة التمييز الذي تمارسه السلطات هناك ضد السود الذين بات يسميهم “جزائريو الولايات المتحدة”.
ملتقى الثوار
ما تخيله سميث تماهى و تلاقى مع الواقع في أواخر الستينات٫ فعقب تمكن الجزائر من انتزاع استقلالها بعد ثورة دامية استمرت ثماني سنوات (١٩٥٤- ١٩٦٢) والتخلص من الاستعمار الفرنسي الذي جثم على صدر ذلك القُطر العربي لأكثر من ١٣٠ عاماً٫ تحولت الجزائر العاصمة الى قِبلة للثورات والحركات التحررية من كافة أرجاء العالم.
وكانت البداية مع الرئيس أحمد بن بيلا٫ أول حاكم للبلاد بعد الاستقلال الذي منح أكثر من حركة تحرر أفريقية حق التواجد على أرض “المليون شهيد”.
واستمر هذا النهج مع خلَفه الرئيس الثاني هواري بومدين الذي أطاح ببن بيلا من السلطة عام ١٩٦٥ ومع نهاية الستينات تقريباً كانت الجزائر تحتضن وتستضيف على أرضها عددا هائلا و كبيرا من الحركات الثورية من مختلف أرجاء المعمورة.
فإضافة الى الفصائل الفلسطينية ولا سيما حركة فتح التي كانت تحظى بدعم الجزائر منذ عام ١٩٦٥ عام انطلاق ما عُرف لاحقاً باسم الثورة الفلسطينية٫ كان في البلاد أيضاً ممثلون عن ثوار فيتنام الذين كانوا يخوضون حرباً ضروساً ضد الولايات المتحدة الأمريكية ، وثوار غينيا بيساو، والرأس الأخضر المكافحين ضد الاستعمار البرتغالي لبلادهم وأعضاء من حزب المؤتمر الأفريقي الذي كان يناضل ضد نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا.
https://www.youtube.com/watch?v=vERrXXsYN10
الفهود السود
وبحلول عام ١٩٦٨ استضافت الجزائر ثائرا مختلفا من أرض مختلفة٫ حيث وصل الى البلاد في ذلك العام القيادي الأمريكي الراديكالي ستوكلي كارمايكل أحد أبرز منظري حركة القوة السوداء في الولايات المتحدة والذي وجد في الجزائر ملاذاً بعد سنوات من ملاحقة الأمن له في بلاده.
وفي العام التالي لحق ب كارمايكل رفيقه الدريدج كليفر٫ عضو حزب الفهود السود الداعي إلى المساواة بين جميع الأمريكيين
كان كليفر قد فر من الولايات المتحدة عقب اشتباك مسلح مع قوات الأمن راح ضحيته زميله بوبي هوتن وأصبح كليفر على أثره مطلوباً ومطارداً٫ وبناء على نصيحة من رفاقه سافر مع زوجته كاثلين – التي كانت أيضاَ عضوا بارزا في حزب الفهود السود – إلى فرنسا أولاً ومنها الى الجزائر التي رحبت بهما وبمن كانوا يرافقونهما.
وعبر وساطة من الكاتبة الأمريكية المقيمة في الجزائر إلين مختفي – التي كانت زوجة للمناضل الجزائري مختار مختفي- منحت الحكومة الجزائرية كليفر وأسرته ورفاقه مقراً في العاصمة أسموه “المكتب الخارجي” لحزب الفهود السود.
وأتاح وجود الفهود السود في الجزائرالعاصمة لهم التواصل مع عدد كبير من الحركات الثورية التي كانت تخوض نضالاً مشابهاً لنضالهم٫ ناهيك عن الاتصال بكافة وسائل الإعلام المختلفة بعد التضييق الإعلامي الذي عانوا منه في بلادهم.
وعلى هامش المهرجان الإفريقي الأول الذي عقد في الجزائر عام ١٩٦٩ عقد الفهود السود لقاءً تاريخياً مع وفد يمثل عدداً من الفصائل الفلسطينية المختلفه٫ أعرب فيه كلا الطرفين عن تفهمه لنضال الطرف الآخر وتضامنه معه.
وفي العام التالي أصدر حزب الفهود السود بياناً أعلن فيه تضامنه مع نضال الشعب الفلسطيني “بنسبة مئة في المئة” على حد تعبير البيان وتعهد الحزب في بيانه بالمُضي في هذا النهج ودعا ما أسماها “كافة الحركات التقدمية في العالم” إلى أن تحذو حذوه في هذا الشأن.
إلا أن فترة الود والصفاء بين الفهود السود وحكومة الجزائر لم تدم طويلاً٫ حيث أفسدها حادث خطف ناشطيْن ينتميان للأمريكيين السود لطائرة أمريكية توجها بها الى الجزائر في يونيو من عام ١٩٧٢.
ورغم أن الحكومة الجزائرية رفضت تسليم الخاطفيْن إلى الولايات المتحدة إلا أنها ردت إلى الأخيرة أموال الفدية التي طلبها الخاطفان والبالغة نحو نصف مليون دولار.
وأثار تصرف الحكومة الجزائرية غضب الدريدج كليفر معتبراً أن هذه الأموال هي “أموال الثورة” وعقد موتمراً صحفياً وجه فيه نداءً الى “الرفيق بومدين” قال فيه “لا نطالب الجزائر أن تخوض معاركنا بدلاً منا ولكننا نرجوها ألا تخوض معركة الحكومة الأمريكية نيابة عنها”.
كانت هذه الخطوة من قِبل كليفر سبباً كافياً للرئيس بومدين لكي يطالب كليفر بالتخلي عن منصبه كمسؤول عن المكتب الخارجي وهو ما خضع له كليفر بالفعل وسرعان ما غادر الجزائر مع زوجته.
كانت تجربة حزب الفهود السود في الجزائر – على قصر مدتها النسبي (١٩٦٨-١٩٧٢) – تجربة فريدة التحم فيها نضال الأمريكيين السود من أجل العدالة مع نضال العرب والأفارقة من أجل الحرية والاستقلال وخلقت لُحمة وتعاونا وترابطا بين تيار “القوة السوداء” في الولايات المتحدة وبين شعب فلسطين لازالت مستمرة حتى يومنا هذا.
المصادر:
https://africasacountry.com/2018/07/algeria-and-the-american-black-panther-party
https://samidoun.net/2016/09/the-black-panther-party-for-palestine-by-greg-thomas/
https://www.thenation.com/article/archive/elaine-mokhtefi-algiers-book-review/