فن

صدفة البدايات في حياة نجوم الفن –(2) عبد الحليم حافظ

عرف  الفتى الصغير عبد الحليم علي اسماعيل شبانة ابن قرية الحلوات التابعة لمحافظة الشرقية الحزن واليتم والشقاء مبكرا جدا حتى قبل أن يدرك ويعرف ويعي شيئا عن الدنيا .. عرفه وليدا ماتت امه وهي تلده، وعرفه رضيعا في بيت خاله متولي عماشة  تقوم  نساء عابرات بإرضاعه وهن يتأففن منه ويصفنه بالنحس ثم اكتمل الحزن الذي لم يكن يدركه بعد أن رحل والده الشيخ علي اسماعيل بينما لم يكمل أصغر أبنائه عبد الحليم  عاما واحدا من عمره..

استقبل عبد الحليم الحياة بلا أب ولا أم وبثلاثة أشقاء يكبرونه هم اسماعيل ومحمد وعلية، وعلى هذا اليتم المبكر جدا نشأ وعلى هذا الحزن أقام..وقد خلق هذا الفقد المبكر وهذه الحياة الحزينة بلا أب يكفل ولا أم تحنو من الصبي عبد الحليم انسانا شفيفا وكسيرا وحزينا وجد سلواه وضالته في صوته الشجي  الذي يمتلئ عذوبة وشجنا وإحساسا..صوت الآهات والأحزان والأنات التي يقذفها القلب المكسور  في وجه هذه الحياة التي قست عليه كثيرا

البحث عن وظيفة

وجد الفتى عبد الحليم سلواه أيضا في شقيقه الأكبر اسماعيل الذي يكبره بعشرة سنوات ،  والذي تقول بعض الروايات انه كان حاضرا لحظة ولادة عبد الحليم ووفاة والدته وأنه رأى بعض النسوة قاسيات القلوب يردن أن يخنقن   شقيقه المولود باعتبار أنه كان سببا في موت والدته فصرخ و أسرع باتجاههن وخلص شقيقه من أياديهن

سبق اسماعيل شبانة أخاه عبد الحليم إلى عشق الغناء والموسيقى وقد كان يتمتع بصوت جميل طربي لا يقل شجنا وعذوبة عن صوت شقيقه الأصغر

التحق اسماعيل شبانة بمعهد الموسيقى العربية وتخرج منه عام 1944 وكان من جيل كارم محمود وعبد العزيز محمود وعبد الغني السيد وعباس البليدي وكان  عاشقا متيما بصوت وموسيقى سيد درويش .. وعين مدرسا للموسيقى بوزارة التربية والتعليم .. وهنا تجسد الحلم أمام الفتى عبد الحليم ..  لماذا لا  يسير في نفس الطريق الذي سار فيه أخوه الأكبر .. أن يلتحق بمعهد الموسيقى العربية.. فالحصول على شهادة التخرج من المعهد يتيح لصاحبه أن  يشغل وظيفة حكومية مأمونة .. وهي وظيفة  مدرس للموسيقى في وزارة التعليم .. وتلك كانت اهم طموحات عبد الحليم حافظ آنذاك .. تأمين لقمة العيش بعد سنوات من المعاناة والشقاء

و التحق عبد الحليم حافظ بمعهد الموسيقى العربية عام 1943 زميلا لكمال الطويل حيث جمعهما عشق الموسيقى ومحبة الغناء .. ومن الطريف أن عبد الحليم التحق بقسم التلحين بينما التحق كمال الطويل بقسم الغناء والاصوات.. وكان التحاق حليم بقسم التلحين  رغم جمال صوته دليلا على أنه كان يبحث عن وظيفة مدرس الموسيقى المضمونة التي تؤمن له حياة بسيطة لكنها مضمونة .. ولم تكن أحلامه تذهب ابعد من هذا الهدف البسيط .. أن يصبح مدرسا للموسيقى

أجمل صدفة

تحقق حلم عبد الحليم حافظ البسيط بعد تخرجه من  قسم التلحين بمعهد الموسيقى العربية ليعمل مدرسا  للموسيقى لمدة أربع سنوات في طنطا  والزقازيق والقاهرة.. لكن أنى لموهوب حقيقي ولمبدع تتراقص الموسيقى  ويتردد الشدو  في صدره  أن يقنع بوظيفة جامدة  روتينية  يتجرع اعتيادها اليومي من أجل لقمة العيش فقط ؟  كبر حلم حليم واتسع  قليلا وقرر أن يتخلص من وظيفته الميري  ليبحث عن  عمل جديد يتيح له أن يكون قريبا من الغناء والموسيقى بشكل عملي  وليس بشكل نظري كما يحدث في وظيفة مدرس الموسيقى  وكان  حلمه يبحث عن  نافذة ضوء صغيرة وجدها حين   تقدم للالتحاق كعازف لآلة الأبوا بفرقة الإذاعة الموسيقية  وتم قبوله والتحاقه بالفرقة لتسوق الأقدار في طريقه أجمل الصدف وأبدعها.. إذ ألقت في طريقه بمبدع آخر  أصر على تحقيق حلمه على غير إرادة أبيه

 كان حافظ عبد الوهاب طالبا محبا للغة العربية ويجيد الانجليزية  إجادة تامة وكان حلمه ان يعمل مذيعا لكن والده أصر على ان يلتحق ابنه بكلية التجارة التي لم تكن توافق ميوله على الإطلاق.. ومنذ البداية كره حافظ دراسة التجارة   بعد ان حاول أن يفهمها وأن يتأقلم على دراستها  لكنه لم يستطع فانسحب منها  إلى حلمه القديم .. أن يكون مذيعا .. ووجد حافظ ضالته في اختبارات أعلنت عنها الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية ونجح فيها بسهولة ليعين مذيعا بالإذاعة ويترقى سريعا فيصبح كبير مذيعين ثم  مراقبا عاما لإدارة الموسيقى والغناء وسكرتيرا فنيا وعضوا بلجنة الاستماع للأصوات الجديدة.

 في ذلك الوقت كان المطربون المعتمدون لدى الإذاعة المصرية يسجلون أغانيهم بستوديو الإذاعة  بمصاحبة فرقة الإذاعة الموسيقية التي كان حليم  قد أصبح  عازفا على آلة الأبوا بها  وبحضور مراقب عام إدارة الموسيقى والغناء حافظ عبد الوهاب .. وفي يوم السعد والحظ الكبير بالنسبة لعبد الحليم  كان من المقرر أن يأتي المطرب ابراهيم حمودة   ليسجل إحدى أغانيه لكن حمودة تأخر عن موعده  وظل أعضاء الفرقة ومعهم حافظ عبد الوهاب في أماكنهم بانتظار  ابراهيم حمودة .. وطال الانتظار بعض الشئ .. ليتقدم عازف الأبوا المغمور عبد الحليم علي اسماعيل شبانة إلى الإذاعي الكبير ومراقب  عام ادارة الموسيقى والغناء بالإذاعة حافظ عبد الوهاب .. الذي  حكى القصة كاملة لبرنامج كاميرا 9 واكمل الحكاية قائلا : ما جاش ابراهيم حمودة في ميعاده وتأخر فجاءني عبد الحليم وقال لي :” بدل ما احنا قاعدين كدة ممكن أغني فلما استغربت من طلبه قال لي :  جرب بس تسمعني ووجدتني أقول له : ماشي ودخلنا غرفة البروفات وبدأ عبد الحليم يغني فلفت صوته أذني تماما .. وجاء بعدها ابراهيم حمودة وسجل أغنيته  ولكني كنت قد قررت   بعد سماعي لحليم  أن أسلط عليه الضوء وأن أرعاه   و حددت له موعدا وطلبت منه أن يجئ ليغني أمام لجنة الاستماع بالإذاعة المصرية

 وأمام لجنة الاستماع التي كانت تتكون من أم كلثوم وعبد الوهاب ومحمد القصبجي وابراهيم شفيق جاء عبد الحليم  ليغني أغنية  يا حلو يا اسمر من تأليف سمير محجوب و ألحان  الملحن الشاب وقتها محمد الموجي وانبهرت لجنة الاستماع بصوت حليم وتنبأت له بمستقبل عظيم في تاريخ الغناء المصري وجاء  محمد عبد الوهاب إلى حافظ عبد الوهاب لكي يعرفه بذلك المطرب  باذخ الصوت والموهبة لتبدأ انطلاقة عبد الحليم حافظ ونجوميته العريضة .. واعترافا من حليم بفضل حافظ عبد الوهاب طلب منه أن يمنحه اسمه باعتباره والده الروحي ووافق حافظ عبد الوهاب سعيدا ومرحبا .. وربما يعرف الجميع حكاية اكتشاف حافظ عبد الوهاب لعبد الحليم لكن الكثيرين لا يعرفون بالتأكيد تلك الظروف والأجواء التي جاءت فيها فرصة وصدفة الاكتشاف  التي فتحت لحليم باب المجد الكبير.. وهو ما نورده في هذه السلسلة

وهكذا غيرت الصدفة الجميلة مسار عبد الحليم حافظ بل مسار الغناء المصري  والعربي كله.. فربما لو لم يتأخر ابراهيم حمودة عن موعده في الإذاعة المصرية ما عرفنا العندليب الاسمر ولربما ظل   عبد الحليم  هو عازف الأبوا المغمور طوال حياته ..وهكذا تكتب قصص حياة الناس جميعا  .. وهكذا يريد الخالق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock