شهدت السنوات العشرون ما بعد مؤتمر باندونج عام ١٩٥٥ – أي الفترة ما بين منتصف الخمسينات وحتى منتصف السبعينات تقريباً – تلاحماً وترابطاً بين حركات التحرر في العالم العربي وبين نظيرتها في القارة الإفريقية.
وتكشف أستاذة الإعلام الدكتورة عواطف عبد الرحمن في دراستها القيمة عن “أفريقيا والرأي العام العربي” أن الصحافة العربية وخاصة المصرية كانت بمثابة مرآة عكست في تلك الفترة الرأي العام العربي المتعاطف مع الحركات الإفريقية المختلفة الساعية للتخلص من نير الاستعمار والتفرقة العنصرية.
الصحافة المصرية .. وقضية الكونغو
ومن بين الأمثلة التي تعرضها الدكتورة عواطف عبد الرحمن لتغطية الصحافة المصرية لقضايا و حركات التحرر التي كانت تشهدها القارة السمراء في تلك الآونة هي قضية الكونغو في مطلع الستينات وكيفية تعاطي الإعلام المصري معها.
وترجع أزمة الكونغو إلى القرن التاسع عشر حين اعتبر ملك بلجيكا ليوبولد الثاني الكونغو مزرعته الخاصة وسخَّر الشعب الكونغولي بأكمله لزراعة المطاط في عملية راح ضحيتها عشرة ملايين كونغولي.
إلا أن شعب الكونغو ظل يناضل من أجل حريته واستقلاله عن الاستعمار البلجيكي٫ وفي أواخر الخمسينات وبعد مفاوضات خاضها السياسي الكونغولي باتريس لومومبا مع نظرائه في بلجيكا٫ وافقت هذه الأخيرة على منح الكونغو استقلالها٫ وجرى انتخاب لومومبا كأول رئيس وزراء لهذا البلد الإفريقي.
إلا أن بلجيكا ما كانت لتقبل باستقلال حقيقي في مستعمرتها السابقة فشجعت السياسي الكونغولي تشومبي على إعلان انفصال إقليم كاتنجا الغني بالموارد الطبيعية عن الحكومة المركزية في العاصمة والتي كان يرأسها لومومبا.
كان موقف الصحافة المصرية في تلك الفترة واضحاً – وفقاً للدراسة – وكان انعكاساً لموقف النظام الرسمي المصري٫ حيث غلب على التغطية الاعلامية المصرية لتلك الأزمة “التأييد المطلق للحكومه الشرعيه بقيادة لومومبا وإدانة انفصال إقليم كاتنجا”
كما احتلت أخبار الكونغو “الصفحات الأولى من جريدة الأهرام” اضافة الى “موقع ثابت في الصفحة الثانية المخصصة للشؤون الخارجية”.
https://www.youtube.com/watch?v=qxNgdrsA86U
كان مصدر الصحف المصرية الأول في هذه التغطية هي الأخبار الواردة من العاصمة الكونغولية “ليوبولدفيل” اذ لم يكن لجريدة الاهرام ولا لغيرها من الصحف المصرية مراسل في العاصمة البلجيكية بروكسل أي أن الصحف المصرية تبنت بالكامل وجهة النظر الكونغولية في تلك الأزمة.
كما غلب على المقالات التي تناولت الأزمة في الصحف المصرية لاسيما في كل من “الأهرام” و”الجمهورية” إدانة تامة للتدخل الأجنبي في الكونغو واعتباره تآمراً خارجياً على بلد حديث الاستقلال.
واستغلت الجمهورية بالذات “جميع إمكاناتها الصحفية المتاحة والمختلفة من مقالات وأخبار وصور وغير ذلك في التعبير عن القضية الكونغولية وتبني وتأييد كفاح الشعب الكونغولي
ولجأت هذه الصحف إلى تثبيت “العنصر المكاني” في نشر أخبار الأزمة الكونغولية حيث احتلت دائماً قلب الصفحة المنشورة بها الأخبار الخاصة بالكونغو بشكل يلفت نظر القارئ بمجرد تصفح الجريدة.
https://www.youtube.com/watch?v=iGD7gI9RiPg
تأييد مطلق للزعيم لومومبا
ودأبت الصحف المصرية على “تكرار نشر صور باتريس لومومبا في شكل دائري دون بقية الأشكال” مع تكرار كتابة “الزعيم الأفريقي أسفل الصورة” مما يعكس تأييد الصحافة للقضية الكونغولية ممثلة في شخص لومومبا .
وفي حين كانت الصحف المصرية تحتفي بلومومبا كان ذكر تشومبي يأتي دائماً مسبوقاً بكلمة “الخائن” مكرسة بذلك صورة محددة لهذا السياسي المتآمر ضد وطنه في ذهن القارئ المصري والعربي.
في الوقت ذاته احتفت جريدة الأهرام وأبرزت قرار الرئيس جمال عبد الناصر باستقبال أسرة لومومبا في القاهرة ومنحهم حق اللجوء السياسي حيث كان لومومبا قد أرسل زوجته وأولاده إلى مصر بعد أن أدرك حجم المؤامرة الاستعمارية المحاكة ضده وضد حكومته وخشي عليهم.
وبالفعل حدث ما توقعه لومومبا حيث شجعت كل من بلجيكا – المستعمر السابق- والولايات المتحدة تحركاً عسكرياً بقيادة الوزير موبوتو سيسي سيكو أطاح بحكومة لومومبا واعتُقل هذا الأخير بتهمة واهية هي “تأييد الشيوعية” واللجوء إلى الاتحاد السوفيتي.
وسرعان ما أُرسل لومومبا إلى إقليم كاتنجا حيث قُتل في عملية تواطأ فيه كل من الانفصاليين وضباط من الجيش البلجيكي.
وترى عواطف عبد الرحمن أن تعبير الصحافة المصرية عن تلك الأزمة كان يمهد ويخدم لحشد تأييد مصري وعربي لتحرك مصري وصل الى حد تقديم العون العسكري من خلال إرسال قوات مصرية إلى “أرض الأزمة”.
ورغم تراجع الاهتمام في الصحافة المصرية بالشأن الإفريقي بداية من منتصف السبعينات تقريباً إلا أن الصحف المصرية خرجت في التسعينات لتنقل أخبار سقوط نظام موبوتو على يد تحالف القوات الديمقراطية من أجل تحرير الكونغو بقيادة لوران كابيلا الذي كان ذات يوم قائد الجناح الشبابي في الحركة الوطنية الكونغولية التي قادها لومومبا.