هل من الممكن حقًا، أن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) كان يستخدم الغاز السام في ساحة المعركة؟ لم يستخدم جيش الأسلحة الكيميائية منذ حرب العراق وإيران في ثمانينيات القرن الماضي. ولم تقم مليشيا أو جماعة إرهابية بذلك على الإطلاق. وحتى لو صحت هذه الرواية، فمن أين له بهذه النوع الخطير من الأسلحة، وكيف تمكن من الحصول عليها؟
بدأت الإجابات في الظهور عندما وصلت بعثات من منظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW) إلى بغداد للتحقيق في الهجمات التي استهدفت القوات الكردية، بناء على طلب الحكومة العراقية، حيث أكدت الفحوص المخبرية والمقابلات الشخصية مع الجنود الأكراد حقيقة تلك الرواية، وأيقن المحققون أن السائل الأصفر العالق بقذائف الهاون هو “كبريتيد الخردل”.
كل الإشارات كانت تسير في نفس الاتجاه المفزع: في مكان ما في العراق أو سوريا، يقوم تنظيم الدولة الإسلامية بتصنيع أسلحته الكيميائية. لم يكن الإرهابيون أتقنوا إنتاج جميع العناصر بعد، لكنهم كانوا يتعلمون.
اعترافات العفاري ..تفاصيل مرعبة
داخل أحد معسكرات الاعتقال العراقية، في فبراير من عام 2016، عندما خلع أحد الجنود العصابة عن عين سليمان العفاري، العالم البيروقراطي البالغ من العمر 49 عاما، والمختص بصناعة الأسلحة في تنظيم الدولة الإسلامية، في أول يوم له في محبسه، وفي اليوم الفارق في تاريخ القوات الأمريكية والكردية التي كانت تمكنت للتو من القبض على واحد من أهم مصنعي الأسحة في تنظيم الدولة حيا، لم يستغرق الأمر طويلا من العفاري ليحدد اختياراته بدقة، لتتدفق من بعدها الكلمات. سيحصل العفاري على عقوبة الإعدام بلا شك، ولكنه سيكون مع وقف التنفيذ طالما كان سيتعاون؛ ولذلك تعاون.
كانت الصورة التي رسمها العفاري على مدى الأسابيع التالية حول برنامج أسلحة طموح وبدائي نوعا ما، وكان غالبا ما يدار بشكل سيء وغير منظم، لكنه ينطوي على نية خبيثة. لم تتفوه الماكينة الإعلامية التابعة لتنظيم الدولة بكلمة واحدة عن الأسلحة الكيميائية، لكن، بداية من خريف عام 2014، كان داعش يعمل بدأب لصنعها.
جرت التحقيقات في العراق داخل المقر الشبيه بالحصن لإدارة مكافحة الإرهاب التابعة لحكومة إقليم كردستان. وروى العفاري بالتفصيل محاولات التنظيم الإرهابي صنع غاز الخردل، كجزء مما وصفه بجهد أكبر لابتكار أسلحة جديدة وأنظمة لنقل الأسلحة من أجل حماية دولة الخلافة ودحر أعدائها.
على مدى عدة أسابيع أسفرت التحقيقات عن تفاصيل مهمة، شملت مواقع محددة للمنشآت الكيميائية، وأسماء العلماء والموظفين الذين أداروها. وكانت ملخصات يومية تنقل إلى المحللين في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “CIA”، ووزارة الدفاع الأمريكية، “البنتاغون”، ثم تعود عبر الأطلسي إلى غرفة العمليات في بغداد، حيث كان الجنرال سيان ماكفارلاند، قائد القوات العسكرية في تحالف مكافحة تنظيم الدولة، يدير الحرب.
قرأ ماكفارلاند التقارير بعناية. كانت وكالة الاستخبارات ووزارة الدفاع تعملان من أجل تعطيل برنامج أسلحة تنظيم الدولة الإسلامية، وبالفعل حققتا نجاحا مهما، حيث تم قتل أبو مالك، قائد العفاري في التنظيم.
وبرغم موت “أبو مالك”، كشفت اعترافات العفاري أن تنظيم الدولة لم يستسلم. فالوافدون الجدد، بمن فيهم العلماء الأجانب، يعملون لإنجاز رؤية “أبومالك”. وراح ماكفارلاند يحلل أحدث المعلومات الاستخباراتية التي كانت تصل إليه في اجتماعات بالفيديو مع مسؤولين في البنتاغون، الذين توصلوا بشكل منفصل إلى نفس النتيجة المرعبة: إذا حصل التنظيم على وقت كاف فسيتمكن مصنعو الأسلحة لديه من النجاح في النهاية.
وفي بداية عام 2016، وبضغوط من الحملة العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة، كان جنود دولة الخلافة ينسحبون من كل مكان، لكن التهديد الكيميائي بدا أكثر أهمية وخطورة من أي وقت مضى. وكان القلق الذي ساور القادة الأمريكيين والعراقيين على السواء هو أن انهيار تنظيم الدولة سيدفعه للانتقام بإطلاق أسلحته الكيميائية، سواء في ميدان المعركة، أو عبر هجمات إرهابية على المدن الغربية عن طريق واحدة من عشرات الطائرات المسيرة الصغيرة التي بذل التنظيم جهودا كبيرة للحصول عليها.
مهمة صعبة
واجه ماكفارلاند ضغوطا هائلة في العمل. ففي واشنطن كان مستشارو الأمن القومي للرئيس باراك أوباما على دراية تامة بالتحولات التي يمكن أن تحدثها الغازات السامة في حملة الإرهاب التي كان تنظيم الدولة بدأها بالفعل في المدن الأوربية. حتى مجرد هجوم صغير نسبيا في نيويورك أو لوس أنجلوس من شأنه أن يحدث ضجة كبيرة ستجعل البيت الأبيض مضطرا لتوسيع نطاق الحرب وإرسال جيل آخر من القوات البرية الأمريكية إلى المعركة في العراق وربما سوريا.
وفي بغداد، كانت حكومة رئيس الوزراء الأسبق، حيدر العبادي، تشعر بالقلق بالقدر نفسه. وكانت القوات العراقية في الخطوط الأمامية متوترة بالفعل من إمكانية وقوع هجوم بالأسلحة الكيميائية، إلى الحد الذي جعل كبار القادة يشعرون بالخوف من تأثير ذلك على الحالة المعنوية في الجيش.
وفي الزيارات التي قام بها ماكفارلاند إلى نظرائه العراقيين، كان هذا الموضوع دائما محورا للنقاش. لقد شهد المسؤولون من كبار السن تداعيات السارين وغاز الخردل اثناء الحرب العراقية الإيرانية، ولاحت الذكرى بقوة في مخيلاتهم.
“سيتحدثون عنها، وستجعل منها الصحافة العراقية موضوعا مهما”، كما قال ماكفارلاند، مضيفا: “جميعهم يعلمون إلى اي مدى يمكن أن يكون هذا مرعبا”.
لم يكن من السهل العثور على الأسلحة التي يمتلكها التنظيم. فالمنشآت التي وصفها العفاري لم تكن داخل قواعد عسكرية، أو في مخابئ تحت الأرض، كما كان الحال في سوريا؛ إذ كانت تقبع – خاصة المخابئ الأكثر أهمية – في المدن الكبرى داخل منشآت مدنية تخضع لحماية غير لافتة في قلب الأحياء السكنية.
لقد أخفى الإسلاميون مركز إنتاج ضخم داخل جناج مستشفى مدني في مدينة هيت، التي يقطنها نحو 60 ألف عراقي. وآخر في جامعة الموصل، في قلب ثاني أكبر مدينة عراقية من حيث عدد السكان.
وكانت أي غارة جوية ضد مواقع كهذه تشكل خطرا بالغا، إذ يمكن أن تسفر عن إطلاق سحب من المواد الكيميائية التي تنتقل عبر المنازل والمدارس والباحات. وفي حال سقوط مدنيين سيلقى باللوم على القوات العسكرية الأميركية وشركائها.
لكن ماكفارلاند لم يكن لديه متسع من الوقت؛ إذ كان انتظار عثور القوات العراقية على هذه المواقع يعني التأخر لأسابيع، وربما لشهور. وسيستفيد تنظيم الدولة من الوقت حتما لإنتاج المزيد من الأسلحة، أو لإنتاج أسلحة أفضل. أو ربما يقرر نقل مصانعه إلى مواقع اخرى.
تم انتقاء حزمة الأسلحة الخاصة بتنفيذ ضربة بعناية، وضمت أنواعا خاصة من القنابل التي تم اختيارها لمهمة غير اعتيادية. وبدءا من شهر مارس، أي بعد شهر واحد من القبض على العفاري، كان فريق ماكفارلاند مستعدا للقيام بعمل ما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا