رؤى

أروى الصليحية.. بلقيس الثانية أولى ملكات الإسلام

بينما كان  ملك اليمن  أحمد المكرَّم الصليحي يجود بأنفاسه الأخيرة، كانت السيدة أروى بنت أحمد زوجته المخلصَّة تُعمل فكرها فيما أوصاها به من ضرورة الحفاظ على الدولة من الانهيار.. لقد خاض المكرَّم منذ وَلِيَ السلطة حروبا طاحنة ضد المتمردين ومشعلي نار الفتن المذهبية والمتطلعين إلى الوثوب على العرش.. فلم يدخر وسعا في الحفاظ على أركان الدولة رغم اعتلال صحته منذ صغره؛ إلى أن أصيب في إحدى المعارك إصابة بالغة تفاقمت بعد ذلك حتى شُلَّ الملك الشاب، ولم يعد قادرا على إدارة شؤون الحكم. وما كانت وصيته لزوجته بتولي إدارة شؤون البلاد من بعده إلا عن قناعة تامة بأنها تصلح لهذه المهمة، فهي الخبيرة بأمور السياسة والحكم؛ لطول مكثها في مقر الحكم مذ كانت طفلة احتضنها عمها الملك بعد وفاة أبيها وزواج أمها من عامر بن سليمان، كذلك فإن رجاحة عقلها وإقبالها على مجالس العلم قد هيِّآها لذلك على أفضل ما يكون.

كما أن اعتلال صحة الأمير أحمد منذ صغره؛ قد جعل والده الملك علي بن محمد مؤسس الدولة الصليحية يهتم بإعداد ابنة أخيه لتكون زوجة للمكرَّم لتساعده في أمور الحكم والقيام بأعباء الدولة.. وعندما اشتدت الفتن وأسفرت عن اغتيال الملك أدارت “أروى” الأزمة بحكمة بالغة حتى آلت الأمور إلى زوجها الذي  كانت أمه قد أسرعت بتزويجه  إياها فور بلوغها السابعة عشرة.

مسجد الملكة أروى بنت أحمد الصليحي
مسجد الملكة أروى بنت أحمد الصليحي

السيدة الحرة

فور وفاة المكرَّم حاول “سبأ الصليحي” الوثوب على العرش مستعينا بالخليفة المستنصر الفاطمي؛ لكن الخليفة انحاز إلى الشابة الحكيمة لما بلغه عنها من أهلية للحكم؛ فكتب لها خطابا بالوصاية على العرش لحين بلوغ أكبر أبنائها سن الرشد.

وكان ذلك في عام 1098، لتصبح أروى منذ ذلك التاريخ الحاكمة بأمرها والمتصرفة في شؤون المملكة لنحو  خمسة عقود.

لم تجد الملكة الجديدة في صنعاء ما يجعلها تأمن شر أعدائها، ولا ما يحقق طموحها؛ فاختارت أن تنقل عاصمة الدولة إلى مدينة “جبلة” مسقط رأسها.. فعرفت آنذاك بـ”ذي جبلة”.. وكان عبد الله بن محمد الصليحي قد اختطَّ للمدينة في حياة المكرَّم، الذي كان ينوى نقل دار الملك إليها لولا أن وافته المنية.

حرصت أروى على رفع شعار التسامح الديني وحرية العبادة، ليسود الإخاء الاجتماعي ويعم الرخاء الاقتصادي، فكثرت  القوافل التجارية  على أرض اليمن السعيد، وبذلك شهدت البلاد من نعيم الاستقرار ما لم تعرفه على يد حكامها السابقين.

عندما انتقلت الملكة أروى إلى جبلة أمرت بتحويل البناء الذي أقيم لها لتتخذه دارا إلى جامع مازال قائما إلى يومنا هذا وينسب لها كما لازال يحتفظ بعناصره المعمارية الزخرفية التي يتبين من خلالها مدى تأثره بأنماط العمارة الفاطمية. إذ كانت الدولة الفاطمية في مصر بمثابة مرجعية روحية للدولة الصليحية؛ يُلجأ إليها بين الحين والآخر إذا لزم الأمر.. ولم تدخر الملكة وسعا في نشر الدعوة الفاطمية؛ فأنعم عليها الخليفة الفاطمي بلقب السيدة الحرَّة، وعُهد إليها بتعيين الدعاة وإرسالهم خارج اليمن لنشر الدعوة، فانتشر المذهب  الفاطمي بذلك في بلاد الهند وعُمان وغيرهما من البلدان.

كانت “أروى” على جانب كبير من الذكاء والأخلاق الفاضلة إلى جانب ما وهبها الله من جمال الخلقة، إذ كانت بيضاء اللون مشربة بحمرة مديدة القامة معتدلة البدن تميل الى السمنة كاملة المحاسن جهورية الصوت قارئة كاتبة راجحة العقل حسنة التدبير، تحفظ الأخبار والأشعار والتواريخ وأيام العرب ولها تعليقات وهوامش على الكتب تدل على غزارة مادتها.. ويذكرها “الداعي إدريس” فيقول “كانت الملكة الحرة متبحرة في علم التنزيل والتأويل والحديث الثابت عن الأئمة والرسل عليهم السلام” وكان الدعاة يتعلمون منها من وراء الستر ويأخذون عنها ويرجعون اليها وامتازت السيدة “أروى” بالصلاح والتقوى والخبرة الواسعة والمعرفة الفائقة بأحوال الناس مما ساعدها على إدارة شئون البلاد والعباد.

صحن مسجد الملكة أروى بنت أحمد الصليحي
صحن مسجد الملكة أروى بنت أحمد الصليحي

جعلت اليمن سعيدًا

لذلك اعتبرت الملكة أروى بنت أحمد أعدل من حكم اليمن ليس ذلك فحسب بل اعتبرت الأجدر من حيث الكفاءة  والدراية بإدارة شئون البلاد؛ فلقد أحدثت ثورة زراعية وإدارية، ووصل اليمن في عهدها الى ذروة مجده، وقمة تحضره حيث صار بحق اليمن السعيد فكان مقصد العرب من الراغبين في طلب العلم أو التجارة أو الابتعاد عما كان يضرب الأصقاع من فتن واضطرابات.. كما أوقفت الكثير من الأراضي الزراعية للمواشي وبناء المرافق الخدمية، وأوصلت مياه الشرب النقية إلى كل منازل مدينة جبله عبر ساقية طويلة تمتد مساقيها إلى أعلى قمة في الجبل المطل على المدينة، وعملت على توفير مساكن للعلماء والمتعلمين ونظمت حلقات العلم في جامع جبلة؛ فكان طلاب العلم يلتحقون بهذه الحلقات من كافة المناطق.

ودعما لاستتباب الأمن في دولتها عمدت “أروى” إلى الاستعانة بخؤولتها في “زريع” وكانوا أسياد العشائر وأصحاب النفوذ، يخشى جانبهم في عموم اليمن، فاستطاعت بذلك أن تعيد توازن القوى، وتأمن أطماع “صليح” في ملكها.. وقد أفلحت في ذلك حتى قيل أنها استطاعت أن تقضي على الفتنة، وتطفئ نار الحرب بحكمة عقل “صليح” وقوة قلب “زريع”.

ضريح الملكة أروى بنت أحمد الصليحي
ضريح الملكة أروى بنت أحمد الصليحي

ولما قدم ابن نجيب الدولة إِلى اليمن موفدا من الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله وداعيا له، أخضع الإِمارات المتمردة، عزّ جانب السيدة الحرّة وانقمع أهل الفتن، إِلا أنه بدأ منذ سنة 519هـ، يسيء إِليها ويستخفّ بأمرها ويدّعي أن تقدمها في السن قد أعجزها عن أمور الحكم، مما يوجب الحجر عليها.. وحاول ابن نجيب الدولة انتزاع الحكم منها؛ لكنّ أمراء البلاد وشيوخها ساندوها واتهموا ابن نجيب الدولة بالتآمر على الخلافة الفاطمية، فأمر الخليفة بالقبض عليه وإِعادته إِلى مصر، ولكن السفينة التي كانت تقلّه غرقت في أثناء الرحلة، وأسندت الحرّة أمر الدعوة إِلى سبأ بن أبي السعود من آل زريع (وهو أول بني زريع الذين خلفوا الصليحين).

وعن عمر ناهز التسعين رحلت الملكة العظيمة أروى بنت أحمد الصليحية أول ملكة في الإسلام إلى جوار بها عام 1138م بعد حياة حافلة بجليل الأعمال ودفنت بضريحها بالركن الشمالي الغربي من جامعها الذي شيدته بمدينة جبلة.. وإثر وفاتها دب الضعف في الدولة وتقطعت أوصالها بعد أن آل أمرها إلى أمراء من بني “زريع” إلى ان انتهى أمرها تماما على يد توران شاه بن أيوب عام1173م.. وقبل في رثائها:

وَلَوْكَانَ النِّسَاءُ كَمَنْ فَقَدْنَا    لَفُضِّلَتْ النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ

وَمَا التَّأْنِيثُ لِاسْمِ الشَّمْسِ    عَيْبٌ وَلا التَّذكيرُ فَخْرٌ للهِلالِ.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock