لم تكن الطفلة سعاد محمد حسني البابا تدري لماذا تعيش كل هذا العذاب الذي صبغ حياتها وهي صغيرة لا تدري من أمر نفسها شيئا لم تكن تدري لماذ تعيش كالرحالة التي تتنقل من مكان لآخر ولا تستقر في مكان واحد لاكثر من بضعة شهور .. لم تكن تدري لماذا هي بالذات تصبح موضوعا لحرب طاحنة بين والدها ووالدتها وأن تكون هي بالذات محور هذه الحرب ووقودها المستمر
جاء محمد حسني البابا من سورية الى مصر عام 1912 خطاطا شهيرا ومعروفا وتمت الاستعانة بخبرته وعبقريته في معهد الخطوط الملكية وكان أشهر خطاطي عصره واوانه واستقر به الحال في مصر وصار صديقا لبعض المشاهير ومنهم الشيخ محمد رفعت وتزوج وانجب خديجة وسميرة وعز الدين وعفاف ونبيل وسامي وفاروق ونجاة وكان اولاده جميعا ذوي مواهب فنية باذخة فمنهم الموسيقي والملحن مثل عز الدين ومنهم الرسام العبقري مثل فاروق ومنهم المثالة مثل سميرة ومنهم المطربة صاحبة الصوت الجميل مثل نجاة
حالة حرب وحالة شجن
ورتبت الظروف للقاء عابر بين محمد حسني البابا وجوهرة محمد حسن وهي فتاة مصرية جميلة من المنصورة فابدى اعجابه بها وتقدم للزواج منها على زوجته الاولى أم أولاده الثمانية وتزوجها بالفعل في اواخر ثاثينيات القرن الماضي لينجب منها ثلاث بنات هن بالترتيب كوثر وسعاد وصباح
ولا احد يعلم على وجه التحديد السر الذي جعل حياة حسني البابا وجوهرة محمد حسن تنقلب الى جحيم لا يطاق بعد ان انجبا ابنتهما الثالثة صباح اواخر عام 45 زادت حدة الخلافات واشتعلت بين الاثنين وانتهى الامر بالطلاق وتزوجت جوهرة بعدها من جارها بحي الفوالة عبد المنعم حافظ مدرس التاريخ لكن المشاكل بينها وبين طليقها زادت وتيرتها بشكل اكبر على حضانة البنات الثلاث
ووجدت سعاد حسني نفسها وهي طفلة صغيرة تعيش شهورا في بيت ابيها ثم سرعان ما تشد الرحال لتعيش شهورا اخرى في بيت امها وزوجها الجديد ولم تكن سعاد تدرك لماذا كانت هي تحديدا وبشكل اكثر كثيرا من شقيقتيها موضوعا ومحلا للنزاع بين والديها لدرجة انها تنقلت اكثر من ثماني مرات بين بيتي والديها وكان طبيعيا ان تترك الطفلة المسكينة المدرسة والا تستقر في مدرسة من الاساس وفي ظل كل هذه الظروف الخانقة السوداء كانت الطفلة الصغيرة جدا سعاد تغني في ركن الاطفال بالإذاعة المصرية مع بابا شارو انا سعاد اخت القمر بين العباد حسني اشتهر عام 1947 وعمرها لا يتجاوز الاربعة اعوام
وعلى وقع هذه المعارك الساخنة بين والديها كبرت سعاد وقد صهرتها هذه المعارك وخلقت داخلها حالة شجن واسى خاصة جدا ليستقر بها المقام في النهاية وبعد أن وصلت لسن ال 14 للعيش مع امها وزوجها عبد المنعم حافظ الذي كان قد انجب من جوهرة عددا من الابناء الصغار
لقاء الصدفة الجميلة
ولد عبد الرحمن الخميسي في بور سعيد عام 1920 وجاء الى القاهرة عام 1936 وكان يتمتع بمواهب فريدة في كتابة الشعر والغناء وكتابة السيناريو والنقد الفني باختصار كان صاحب مجموعة مواهب متعددة وكان يكتب كثيرا من التمثيليات للاذاعة المصرية وقد كتب قصة حسن ونعيمة للاذاعة واصبحت مسلسلا اذاعيا شهيرا وسميت القصة وقتها ب “روميو وجولييت المصرية” كما انشأ فرقة مسرحية باسمه في مارس عام 1958 وكان يجهز لا يكون اول عروضها هو عرض هاملت وكان الخميسي يدعى من وقت لآخر لالقاء محاضرات في بعض الجهات والمؤسسات الاكاديمية المصرية المختلفة ومنها تلك المحاضرات التي القاها في التذوق الموسيقي على جماعة الجرامفون بكلية الآداب في أوائل الخمسينات وكان احد حضور هذه المحاضرات هو عبد المنعم حافظ الذي تعرف وقتها على عبد الرحمن الخميسي ثم انقطعت الصلة بينهما
مرت السنوات وفي اواخر عام 1958 كان عبد الرحمن الخميسي يسير بصحبة ابنه احمد الخميسي بمنطقة وسط البلد وحيث كانا يسكنان في نهاية شارع الجمهورية من ناحية قصر عابدين وبينما هما يسيران اذ اتجه اليهما رجل واوقفهما قائلا اذيك يا استاذ عبد الرحمن الا تتذكرني اجاب الخميسي اهلا وسهلا اعذرني لا تسعفني الذاكرة فقال الرجل انا عبد المنعم حافظ جماعة الجرامفون بكلية الآداب وهنا تذكره الخميسي جيدا فقد كان يتفاعل معه بشكل جيد اثناء القاء محاضراته في التذوق الموسيقي وبعد السلام والكلام عن الحال والاحوال أصر عبد المنعم حافظ على ان يعزم على الخميسي ونجله احمد على الغداء في اليوم التالي.
وفي الموعد المحدد كان عبد الرحمن الخميسي وابنه احمد يطرقان باب شقة عبد المنعم حافظ المتواضعة ليستقبلهما الرجل وزوجته السيدة جوهرة بترحاب شديد واعدت المائدة وجاءت صنوف الطعام وتناول الخميسي وابنه الغداء مع عبد المنعم حافظ واخذوا يتكلمون في الفن والغناء والموسيقى وبينما كان الخميسي يهم بالاستئذان طلب عبد المنعم حافظ اكواب شاي آخر لضيفيه وجاءت فتاة نحيفة يبدو على وجهها الحزن والانكسار والخجل الشديد في الخامسة عشرة من عمرها تحمل صينية الشاي ولم تتكلم ولم تنطق اخذ الخميسي كوب الشاي وحدق في الفتاة كثيرا واندهش نجله احمد واستغرب استغرابا شديدا ثم نظر الخميسي لنجله اولا وقال : هذه البنت خلقت لتكون نجمة ثم نظر الى عبد المنعم حافظ وقال له بصوت اعلى البنت دي هاتكون نجمة ونجمة كبيرة جدا كمان لتبدأ قصة سعاد حسني
من حسن حظنا ومن حسن حظ السينما العربية والفن العربي كله ان عبد الرحمن الخميسي كان يتمتع بتلك اللماحية العظيمة التي اخبرته ان هذه الفتاة الحزينة ستكون نجمة النجمات ومن حسن الحظ ايضا انه كان يستعد لتحويل مسلسل حسن ونعيمة الاذاعي الى فيلم سينمائي وانه اصر اصرارا شديدا امام محمد عبد الوهاب منتج الفيلم على ان الانسب للفيلم هو ان يقوم ببطولته وجهان جديدان هما سعاد حسني ومحرم فؤاد واقتنع عبد الوهاب بعد طول اعتراض لتهدينا صدفة لقاء عبد المنعم حافظ بالخميسي افضل واجمل نجمة عربية على الاطلاق.