رؤى

ابراهيم عبدالمجيد  و” الإسكندرية في غيمة”  (1-2)

“الإسكندرية في غيمة” هي الجزء الثالث والأخير من ثلاثية الإسكندرية ، للصديق ” ابراهيم عبدالمجيد ” والتي تبدأ برائعته ” لا أحد ينام في الإسكندرية ” ثم تحفته الفنية ” طيور العنبر ” ثم يأتي الجزء الثالث والأخير ، لتُختتم تلك الملحمة الإنسانية والتاريخية الرائعة..

*****

واذا كانت رواية ” لا أحد ينام في الأسكندرية ” تؤرخ لتلك الفترة الزمنية المُحددة مابين غزو ” هتلر ” لبولندا المجاورة ، في سبتمبر من عام ١٩٣٩ ، لتُفجٍرْ شرارة الحرب العالمية الثانية ، وتنتهي صفحات تلك الرواية البديعة مع نهاية الحرب في مايو ١٩٤٥ ، فإن ” طيور العنبر ” قد أخذت مساحة زمنية تُماثل سابقتها ، بتأميم الرئيس “جمال عبدالناصر ” قناة السويس في ٢٦ يوليو ١٩٥٦ ، وتنتهي مع وقوع ذلك الصدام المؤسف بين الدولة المصرية وعدد من المنظمات الشيوعية في اليوم الأول من عام ١٩٥٩ …

******

” الإسكندرية في غيمة ” مثلها مثل سابقتيها ، لا تُغادر مسرح الأحداث التاريخي لتلك الثلاثية ، وهي مدينة الإسكندرية، بكل جمالها وسكونها وإبداعات مُثقفيها وطلابها وعمالها ، وشباب جامعتها العريقة ….

*****

أما الإطار الزمني للأحداث والوقائع المُثيرة ، فهي تبدأ من الصفحة الأولى لتلك الرواية البديعة ، وهو منتصف العام ١٩٧٥، لتنتهي مع الإنتفاضة الشعبية في يناير ١٩٧٧ أي نحو ثلاث سنوات من الأحداث المُتلاحقة والمُضطربة الأنفاس ، للناس والدولة والوطن !!

 *********

غير أن تلك الرواية الرائعة قد صدرت عن دار الشروق المصرية سنة ٢٠١٣ بعد ثلاثة عشر عاماً من صدور ” طيور العنبر ” ونحو عشرين عاماً من صدور ” لا أحد ينام في الإسكندرية ” الصادرة في طبعتها الأولى سنة ١٩٩٦ ، وهو الأمر الذي يُثير سؤالاً منطقياً يتعلق بمغّزّىّ هذا التّباعُدْ الزمني الذي يفصل بين الأجزاء الثلاثة ، رغم أن ” ابراهيم عبدالمجيد ” لم ينقطع عن الكتابة الإبداعية خلال تلك السنوات ، حيث صدر له أربعة روايات هي ” برج العذراء وعتبات البهجة وشهد القلعة ثم في كل أسبوع يوم جمعة ” وبعض المجموعات القصصية …

لا أحد ينام في الإسكندرية******

الدلالات الفنية والتاريخية للإجابة عَلى هذا التساؤل ، تبدو واضحة ، فالجزء الأول من الثلاثية ، أحدث اهتماماً نقدياً مُعتبراً واحتفاءً واهتماماً مُستحقاً من القراء ، وهو الأمر الذي وضع ” ابراهيم ” أمام تحدٍ حقيقي ، فرض عليه أن يواصل الكتابة عن مدينته الأثيرة والساحرة دون توقف ، آخذاً  نفسه بالشدة والجدية والإهتمام ، بل والكثير من التّهّيُبْ !!

حيث وّقّرّ في قرارة نفسه أنه أمام مشروع عمره ، وهو ما حّكىّ عنه تفصيلاً في كتابه الجميل ” ما وراء الكتابة : تجربتي في الإبداع ” الصادر في القاهرة سنة ٢٠١٥ حيث تحدث بحب ووّجدْ إنساني جميل عن تلك التجربة التي مّرّ بها خلال كتابته  لتلك الثلاثية …

ومن هنا بدا الإهتمام واضحاً أشد الوضوح لإستكمال هذا المشروع ، دون التعجل في الأمر ، ولذلك تبدو تلك الثلاثية ذروة النُضج الفني للكاتب ، حتى باتت الثلاثية عنواناً لمؤلفها ، اذ حّكّىّ لي مرة ، أنه خلال اتصال تليفوني مع أحد المسؤولين ، والذي أدرك منذ اللحظة الأولى أنه في حالة تذكر للاسم  ، أن اختزل عليه ” ابراهيم” الطريق قائلاً له :

” أنا ابراهيم عبدالمجديد بتاع لا أحد ينام في الإسكندرية ” !!

فما كان من تجاوب المسؤول عَلى الفور ، بالترحيب والضحكات المُتبادلة عَلى طرفي خط التليفون ، حيث كان هذا الحوار في نهاية سنوات القرن الماضي وبعد صدور الجزء الأول من تلك الثلاثية !!

ما وراء الكتابة تجربتي مع الإبداع*******

” الإسكندرية في غيمة ” وعند قرأءتي لها ، بدت هي الأقرب الى قلبي عما عداها ، برغم تميز سابقتيها في جوانب عدة ، والسبب في ذلك منطقي للغاية ، فهي تسجل وقائع عشتها ، وعاشها جيلي كله ، فهي تتحدث عن النصف الثاني من عقد السبعينيات ، حيث تسارعت الحوادث اثر حرب أكتوبر ، اذ بدأت الخطوات العملية للتخلي عن ثوابت ثورة يوليو في السياسة الخارجية بوضع كل ” أوراق اللعبة ” كما أسماها الرئيس ” السادات ” في يد الولايات المتحدة الأمريكية ، بل والحديث صراحة عن التحالف السياسي والعسكري مع أمريكا ، والتخلص مما أسماه الرجل من تركة التعامل من موسكو ، مٌهدراً وناكراً فضل السلاح السوفييتي في تحقيق الإنجاز العسكري المُذهل الذي حققه المقاتل المصري ، البطل الحقيقي لهذه الحرب ، بالسلاح السوفيتي !!

وفي الصفحة الأولى من الرواية ينقل لنا الراوي ، تصريح الرئيس ” السادات ” في إنجلتر وهو في طريق عودته من الولايات المتحدة يقول :

” أن الغرب يستطيع تزويد مصر بأسلحة لا يقدر عليها الإتحاد السوفيتي !!

وبدا السؤال المنطقي هنا ، تجاه ما قاله ” السادات ” يدور حول طبيعة العقيدة العسكرية لهذا السلاح ، وهو ” هل يسمح الغرب باستخدامه ضد اسرائيل ، التي لازالت آنذاك تحتل الجزء الأكبر من سيناء ” !! ؟؟

******

كان ” السادات ” يواجه أزمة حقيقية ، فالإدارة السياسية للحرب أهدرت ما تم تحقيقه في ميدان القتال !!

وبدلاً من البحث عن حل يحقق توازناً دولياً يحقق المطالَب العربية والمصرية ، اتجه الى المزيد من التورط ، فقد أعلن ما يُسمىّ بسياسة ” الإنفتاح الإقتصادي ” بصدور القانون ٤٧ لسنة ٧٤ ، ليقضي عملياً عَلى القطاع العام ، ويضع مصير ملايين العمال في مهب الريح !!

*****

هذا هو المُناخ السياسي والإجتماعي الذي تجري فيه وقائع تلك الرواية البديعة ، ففضلاً عن ذلك التوجه الى الغرب ، وتفكيك القطاع العام والتخلي عن المكاسب الاجتماعية لدولة “عبدالناصر” ، كان من المنطقي عند نظام ” السادات ” أن يُعيد التحالف مع قوي اليمين العربي ، ويُبعث من جديد الحلف الرجعي بقيادة السعودية ، ليأتي معها الفكر الوهابي الصحراوي ، ويُلقي بظلاله الكثيفة والكئيبة عَلى المجتمع المصري ، فتتكون الجماعات الإسلامية ، تحت إشراف الأجهزة الأمنية والسياسية للنظام ، ويعود الإخوان من جحورهم ومعتقلاتهم ليتسيدوا المشهد بكامله ، ويدفعوا بشبابهم الى المواجهة المُسلحة بالخناجر والسكاكين والجنازير الحديدية  في الجامعات المصرية ، مع كل من يخالفهم الرأي ، وخاصة من التجمعات اليسارية من ناصريين وماركسيين وليبراليين !!

******

كانت الجامعات  المصرية ساحة حرب ، وبدا المشهد خطيراً في جامعة القاهرة وعين شمس وأسيوط والأسكندرية وغيرها ، وكانت صحف الحائط تعبيراً عن تفاعلات هذه المواجهة ، وتجسيداً لحالة الغضب العارمة لتلك السياسة الجديدة التي جاء بها ” السادات ” بوضع مصير السياسة الخارجية  في أيد أمريكا ، ورهن مصير البلد بأيد الاخوان من ناحية ، وتلك الطبقة من الرأسماليين الطفيليين الجُدد الذي أطلق عليهم الدكتور ” رفعت المحجوب ” وهو واحد من أهم رجال النظام وصف “القطط السمان” ، ثم زاد توحشهم فأسماهم نفس الرجل بالبقرات السمان !!

رفعت المحجوب
رفعت المحجوب

*******

في ظل تلك الظروف وهذا المٌناخ ، عادت الحركة الشيوعية من جديد ، بعد حل تنظيماتها في ربيع عام ١٩٦٤ ، عادت بكل قوة ، وحددت هدفها بمواجهة السياسة الجديدة للنظام ..

******

ففي مُنتصف السبعينيات  أُعلن في بيروت عن تأسيس ” الحزب الشيوعي المصري” وبدأت كوادره القديمة خطواتها العملية لتأسيس خلاياه في كل مصر ، بين العمال وشباب الجامعات  وصغار الموظفين والمثقفين والنقابات المهنية  والعمالية ، وجاءت تظاهرات اليوم الأول من عام ١٩٧٥ اختباراً لتوازن القوى  بين النظام وقوى اليسار ، وخصوصاً اليسار الماركسي ، والذي قُبضّ في أعقابها عَلى عدد كبير من القيادات القديمة المعروفة لدى أجهزة الأمن ، فيما كانت المُفاجأة الأهم هي القبض عَلى مجموعات من شباب الجامعات بتهمة الإنتماء لمنظمة شيوعية تسعى لقلب نظام الحكم !!

*******

كلية الآداب بجامعة الإسكندرية ، كان بها أنشط خلية ماركسية في ذلك الوقت ، كانت المجموعة تضم الطلاب ” بشر زهران ، نادر سعيد ، حسن حافظ ، كاريمان علي ويارا فؤاد ” …

********

كانوا خليطاً من انتماءات اجتماعية مُختلفة ، تحركهم دوافع إنسانية بريئة ، ولا يملكون أي ثقافة سياسية مُتكاملة سوى انحيازهم الطبيعي لإنجازات ثورة يوليو ، مما جعلهم يلحقون بأول مركب يّعبُرْ النهر ، حاملين معهم كل زادهم ” الكثير من البراءة ، والكثير من الإحباط ” !!

******

فماذا عساهم أن يفعلوا أمام وطن يضيع بين أعينهم ، وباتوا فيه غُرّباء ؟؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock