عَلى مدى احد عشر فصلاً ، ونحو أربعمائة صفحة ، وبلغة عربية فصيحة وسهلة وجميلة ومُمتعة ، نعود الى زمن السبيعنيات العاصف، والذي يشبه أجواء الإسكندرية من أمطار وعواصف ونوات ، فتجعل المشهد بأكمله ضبابياً مُغلفاً بالغموض والإضطراب!!
*********
المشهد الأول بعد الإفتتاحية السياسية للرواية ، يُجسد تلك المخاوق ويضع ملامح هذا العمل الإبداعي المُقبلين عليه ، ففي ليلة شتوية مُمطرة ، بدأت نّوة ” المّكنسة ” منذ ثلاثة أيام والتي يأتي مطرها شديداً عَلى الإسكندرية ، هكذا تكون الأيام العشرة الأخيرة من نوفمبر كل عام ، كانت السُحب السوداء تندفع فتتصادم بقوة ، ويملأ البرق الخاطف المُتقطع فضاء المدينة ، يتلوه رعد مُتتابع مُزلزل ، من يحرس المدينة الليلة غير الملائكة في السماء !!
*********
الملائكة الذين يحرسونها في الأرض ليسوا سوى فتاتين جّمٍيلتين ، باهرتي الجمال ، أحدهما أسمها ” يارا ” والثانية هي ” كريمان ” الأولى من أُسرة أُرستقراطية تّسكُنْ في أحدى البنايات المُطلة عَلى كورنيش المدينة من ناحية الغرب ، ولكنها بجانب جمالها الفاتن ، فهي الأقرب الى الملاك ، لتُزيدها البراءة فتنة فوق فتنة الجمال !!
أما ” كريمان ” زميلتها في قسم الفلسفة بكلية الآداب ، هي الجمال الأنثوي بإمتياز ، قوية البنية ، قوية الشخصية ، غير أن فتنتها هي الطابع الغالب الذي يجعلها مُعتدة الشخصية ، قوية البأس دفاعاً عن أُنوثتها ، حتى أذا وصل الأمر حد القتل لمن يشتيها بغير إرادتها ….
******
حوالي الساعة العاشرة مساءاً من هذه الليلة المُمطرة العاصفة ، طرقت ” كاريمان ” طرقاً خفيفاً عَلى باب بيت صديقتها ” يارا ” فتستقبلها بلهفة وترحاب رغم الزيارة المُفاجئة والتي تأتي دون انتظار ، فتقول لها :
” طبعاً مُندهشة من حضوري المٌفاجئ ، فقالت يارا مُبتسمة : عَلى العكس سعيدة جداً، مُندهشة فقط من جمالك ، ابتسمت كاريمان وفّرّكت يديها قائلة : الله عَلى الدفا .”
*****
هذا الدفء العائلي الذي تّنعم به ” يارا ” تفتقده زميلتها ، فقد غامرت بالخروج من بيتها في تلك الليلة لتنفد بجلدها من زوج أمها السّلّفيْ ، حامل المسبحة في يديه ، والذي يكتسي وجهه بذقناً طويلة تصل الى منتصف بطنه ، ولا يّكُف عن تهديد أمها بالوعيد بالنار ، فصارت طوع بَنَانَه خاضعة ذليلة !!
ولأن أمها خرجت من البيت الى عملها ، فسوف تكون ” كاريمان ” فريسته الليلة ، فهو المُتحرش بها نهاراً وليلاً ، مع صمت أمها التي أغلقت أذنيها عن شكواها !!
لم تجد ” كاريمان ” ملجأً سوى بيت صديقتها لتحمي نفسها من غائلة الإدعاء بالتقوى الكاذبة والشرع الحرام !!
******
هكذا يبدو المشهد في الفصل الأول من تلك الرواية البديعة ، وهكذا سيبدو المشهد في نهاية هذا الحكاية !!
********
بعد نحو عامين من الزمن مرا عَلى الإسكندرية وأهلها ، وبعد عشرة فصول طُويت من هذه الرواية البديعة ، كان مشهد النهاية لملائكة الأرض اللاتي يحرسن المدينة بنقائهن !!
*******
لم تكن ” يارا ” تدري أن جرس شقتهم سيدق طويلاً عند ساعات الفجر ، بعد ستة أيام من القبض عَلى ” كاريمان ” وزملائها ” نادر وبشر وحسن ” عقب مظاهرات ١٨ و١٩ يناير للعام ١٩٧٧ ، فقد كانت نائمة ، فإستيقظت عَلى الفور ، عندما سمعت أصوات غريبة وكثيرة ونقاش حاد بين والدها وشقيقها الضابط في البحرية التجارية والقادم توه من رحلة طويلة من أمريكا الجنوبية واضطراب أمها وخوفها عَلى ابنتها …
لقد اقتحم ضابط أمن الدولة البيت ، بملابسه المدنية ، فضلاً عن ضابط بوليس من المباحث
العامة ، وثُلة من الجنود والمخبرين الذين فاض عددهم ، وضاقت بهم غرف الشقة ، فوقفوا عَلى درجات السلم يحملون رشاشات صغيرة !!
قال ضابط أمن الدولة للأب :
” ابنتك يا حضرة في تنظيم شيوعي ، ابنتك ممن حرضوا على المظاهرات ، تراجع الأب الى أحد المقاعد وسّقّطّ جالساً في ذهول ” !!
ما كاد ضابط أمن الدولة يقول ذلك حتى خرج أحد المُخبرين الّذين دخلوا غرفة ” يارا ” رافعاً في يده عدداً من مجلة ” الإنتصار ” الخاصة بالحزب الشيوعي المصري ، وعدداً آخر من نشرة ” كفاح شعب ” الخاصة بنفس الحزب .
******
أما الملاك الثاني ، ” كريمان ” فقد خرجت منذ أيام قليلة من المُعتَقل ، حيث قضت خمسة شهور من الغياب خلف سجن النساء بالقناطر ، بمحافظة القليوبية ، خرجت واثقة من قضيتها كم هي عادلة ، مُصممة رغم الجراح وخيبات الأمل عَلى البقاء في الميدان !!
******
كان ” نادر سعيد ” الذي خرج من المُعتقل منذ أيام قليلة ، قد عاد ليبحث عن حبيبته ” يارا “. لكن بلا جّدوىّ ، لم يجد بعد العناء ، والسير بغير هُدَى في كل شوارع وميادين الإسكندرية سوى الجلوس في ” أتينيوس ” مع الأستاذ ” عيسى سلماوي ” الرجل الأربعيني ، والداعية الماركسي ، والذي يُزامل ، نادر وحسن ويارا وكريمان وبشر ، في كلية الآداب ، وفي نفس القسم ، فالرجل لم يترك كلية نظرية في الجامعة إلاّ وانتسب اليها من أجل نشر ماركسيته !!
******
الأستاذ ” عيسى ” المُعتَقل القديم ، منذ اعتقالات ٥٩ ونزيل الواحات السابق ، وصاحب الثقافة الموسوعية وبطريقة مُذهلة ، كان يستمع بكل اهتمام ل ” نادر سعيد ” وتجربته في السجن ، وعلاقته بزملائه خلال شهور الإعتقال ، لكن سرعان ما ضج شارع الكورنيش بالصخب والإرتباك ، وتوجه الناس بالمئات الى حيث وقع حادث ما ، فقد توقف المرور وامتلأ الشارع بعشرات السيارات !!
******
كانت فتاة جميلة مُلقاة ، في وسط شارع الكورنيش ، فقدت الحياة أو كادت ، يتحلق حولها المارة في ذهول وحزن وبكاء !!******
لم تكن الفتاة التي أنقذها أحد الشباب من الموت سوى ” كاريمان ” الجميلة ، العفية ، الصارخة بحق الحفاظ عَلى حُرمة جسدها من زوج أمها ، الذي أراد أن يدوس على كل حرام بدعوى إسلامه الكاذب !!
*******
استراحت ” كاريمان ” عَلى صدر زميلها ” نادر ” الذي هرع اليها ، بعد أن أدركت فتاة في مثل عمرها ، ويبدو أنها طبيبة ، أن الحياة مازالت تدب في جسدها !!
والذي لا يعرفه ” نادر ” في تلك اللحظات الأقرب الى يوم الهول ، هل أدركت ” كاريمان ” زميلته في الجامعة ، ورفيقته في الإنتماء الحزبي ، بوجوده أم لا ؟؟
فقد أغمضت عينيها من جديد ، بعد لحظات من الإفاقة العابرة !!
كانت عربة الشرطة قد وصلت وفي صحبتها سيارة أسعاف ، توقفت وأخذتها الى المستشفى …
*******
في قسم الشرطة ، فتح المأمور حقيبة ” كاريمان ” أخرج كل المحتويات ، حاجياتها الشخصية ، وأهمها رسالة حزينة تُجسد كل جوانب المأساة ، مأساة ” كاريمان ” ومأساة ” جيلها ” كله …
*******
” لا تّلُمني حبيبي حسن ، لا تلوميني يا أمي ، ربما تشكريني يوم ما ، اليوم سأقتل زوجك الشرير الذي يتحرش بي دائماً ، فشلت في منعه ، استمعت الى كلامه وارتديت الحجاب لأجد لي مكاناً أعيش فيه بينكم لكن لا فائدة ، لا يلومني أصحابي ، بشر ونادر ويارا الجميلة التي لم أعد أراها ولا بد ستعرف من الصحف ، لا تبكي يا يارا ، الحياة لم تُكتّبْ لي ، انسوني كلكم ، أنا لم أستطع أن أنساكم كل هذا الوقت ، كاد آخر مرة أن يهزمني ، هذا الحيوان الذي لا يستحق الحياة ، سأقتله وأقتل نفسي ، لقد أعددت كل شئ من أجل ذلك ”
********
في حالة من الذهول ، استمع ” نادر ” و ” عيسى سلماوي ” ما قالته ” كاريمان ” في رسالتها ، رسالة الوداع !!
******
قبل دقائق من وقوع هذا الحادث المؤلم ، كان ” نادر ” يُحادث ” عيسى سلماوي ” عن الشعراء والشعر ، وانتحار الكثير منهم ، في دول الغرب ومصر وروسيا القيصرية!!
غير أن ” نادر ” الشاعر الرقيق الحس ، حاول أن ينفض عن روحه المٌتعبة ، كل هذا العناء ، مُتسلحاً بالأمل ، قائلاً بصوت خفيض:
” سماء موسكو دائماً مُلبدة بالغيوم ، سماء الإسكندرية مُشرِقة طول العام ، الإسكندرية الآن في غيمة ” يا أستاذ ..
وربما تستطيع الأحزاب الجديدة تقاوم هذه الأفكار الغريبة …
سكت ” نادر ” عَلى نحو مُفاجئ ، تاركاً مساحة من الصمت قبل أن يّتكّلّمْ الأستاذ …
*******
” لا إنها أحزاب صورية أنتجها النظام ولن يسمح لها أن تكون غير ذلك ، لكن الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية لن يكونوا صوريين ، ستدفع مصر ثمناً كبيراً لكنها لن تختفي من الوجود ، في اللحظة التي سيبدو فيها أن الثمرة قد أينعت وحان قطافها لتكون مصر ولاية خاضعة للجزيرة العربية سيخلع المصريون كل ما لبسوه من أزياء وأفكار ، ربما لا أرىّ أنا هذا اليوم ، لكن مؤكد أنك ستراه وستتذكرني ” ….
*******
هكذا تكلم ” عيسى سلماوي ” !!
كأنه يقف عَلى تل من الحقائق الغائبة عن الجميع ، ربما صنعته التجربة ، وأرتقت رؤيته بثقافة تقدمية راسخة …
*******
غير أن هذا الإبداع الجميل ، أفاض في جوانب ، ونقص في جوانب أخرى ، وينطبق عليه بيت الشعر القائل :
” لكل شيئ اذا ما تمّ نُقصان …
فلا يُغرّ بطيب العيش إنسان .”
******
مما أفاض به ” ابراهيم عبد المجيد ” في تلك الرواية البديعة هو حديثه الثري عن الحركة الشيوعية المصرية في تلك الفترة الخصبة والقلقة من حياة الوطن ، وهذا أمر منطقي للغاية فقد إستفاد من تجربته الشخصية كأحد كوادر الحزب الشيوعي المصري ، والذي تركه بعد ذلك في عام ٧٨ ، فقد جاء حديثه بوقائع أُدرك كم هي حقيقية تتعلق بالتجنيد الحزبي ، واستلام المنشورات الصادرة عن الحزب وأماكن تسلمها ، وفي ظني أن ” نادر سعيد ” عضو الحزب وطالب الفلسفة بكلية الآداب جامعة الإسكندرية ، والذي جاء ذكره كثيراً في الرواية ، هو ” ابراهيم عبدالمجيد ” في الحقيقة وإن كان في تلك السنوات ، أي مطلع السبعينيات قد ترك مُبدعنا مقاعد الدراسة ومدينته الآثيرة متوجهاً الى القاهرة ، ليبدأ مرحلة جديدة من حياته ، منها لقاءاته بأسماء كبيرة مثل الأدباء والشعراء والنُقاد ” نجيب سرور وأمل دنقل وفاروق عبد القادر ” وغيرهم حتى طريقة شراء الكتب التقدمية من الحاج محمد مدبولي ” صاحب مكتبة مدبولي بميدان طلعت حرب ، والقريبة من مًقهى ” ريش ” مُلتقى الأدباء والشعراء …
ففي تلك الفترة من السنوات الأولى مع عقد السبعينيات ، كانت حياة ” ابراهيم ” القاهرية ، بيد أنه منح ” نادر سعيد ” تجربته الحزبية ، ذلك الطالب الشيوعي في كلية آداب الإسكندرية وفي نفس قسم الفلسفة الذي كان ” ابراهيم ” طالباً فيه …
*******
واذا كان هذا الجانب قد أفاض فيه ” ابراهيم ” وأجاد فيه خير إجادة ، طبعاً مع إضافة جوانب كثيرة من الإبداع والخيال ، فضلاً عن صب تجربته لمعايشة الكاتب تنظيمات اليسار ، فإن الجانب الذي لم يأت عَلى نفس القدر من الإيضاح ، هو الحديث عن التنظيمات والجماعات الإسلامية التي ألقت بظلالها الكئيبة وغيومها المُظلمة عَلى المدينة المُثقفة والليبرالية الطابع ، حتى أصبحت ” الإسكندرية في غيمة ” حقاً وصدقاً !!
*******
صحيح جاء ” ابراهيم ” عَلى تلك المواجهات والمعارك التي شنتها الجماعات المُتأسلمة بالجنازير والمدي والسكاكين عَلى الطلاب اليساريين داخل أسوار الجامعة ، ولكن هذا لم يكن كافياً لخلق التوازن الروائي بين الجانبين ، اليساري والمُتأسلم ، فبدت الرواية يسارية الطابع ، من واقع يسارية النص …
فالسرطان المٌتأسلم كان واضحاً في شركات توظيف الأموال ، وسيادة الخطاب الوهابي ، وهبوط المال الخليجي ، وخصوصاً السعودي لشراء كل كل ما تقع عليه عيناه ، ورعاية الرئيس ” السادات ” نفسه لتلك الجماعات الدينية المُسلحة من خلال عدد من معاونيه ، محمد عثمان اسماعيل ، محافظ أسيوط ، والأخوين عيسى شاهين ومحمد شاهين ، أميني الإتحاد الإشتراكي في تلك الفترة في كُلّ من محافظتي الإسكندرية والمنوفية !!
********
وبرغم تلك الملاحظات ، التي أراها ضرورية لإيضاح حجم وثقل المواجهة التي تتصّدىّ لها اليسار المصري لتلك الهجمة الرجعية عَلى أكثر من صعيد، ففي ظني أنها رواية قريبة الى نفس وروح مؤلفها ، كما هي بالنسبة لي ولكل جيلنا ، فهي تأريخ لسنوات عشناها بكل تفاصيلها وتحدياتها وجمالها ، فهي بحق سنوات ” الجمر والياسمين ” !!
*****
” جمر ” الكآبة والتخلف والفساد ، و ” ياسمين ” البعث الجديد لإزوريس ، بعد أن توزع جسده في ربوع الوادي الخصيب …